كيف تستطيع أن تكون حرّا وتفكّر بصوت مرتفع في فضاء سياسي منغلق على نفسه، تتحوّل فيه الإعاقة الذهنية إلى كفاءة علمية؟ * وكيف تستطيع أن تحلم بالمستقبل وأنت ترى كيف يصير من ليست له علاقة بالثقافة وزيرا لها ومن ليست له علاقة بالقراءة والكتابة نائبا في البرلمان بغرفتيه، ومن يخطئ في الشعب ممثلا له. والوزارات كالمطلقات الموريتانيات يتكاثر عليهن الخطّاب من المطلقين من الوزارات، بل هناك من عاد إلى مطلقته الأولى مرتين، بالرغم من أن هناك من طعن في مطلقته. * فمن هو الرئيس ومن هو المرؤوس في الأحزاب المحروسة لدى الوزير الأول؟ * * لا كرامة دون حرية! * إذا قلت: "إن الحرية تسقى بالدماء لأنها لا تنبت إلا على بذور الشهداء" قد يصدقني من ذاق مرارة الجهاد في سبيل الوطن أو في سبيل الدفاع عن أفكاره. * أما إذا قلت: "إن الكرامة هي أن تعيش حرّا" فقد لا يصدقني أحد، لأن الجميع يعتقد أن له كرامة وأنه حر، لكن المقصود عندي هو كرامة الوطن وحريته: لأن الدستور يضمن لنا ذلك، أما الوطن فنحن الذين نضمن له الكرامة والحرية. ومادمنا لا نملك القدرة على معرفة المستقبل، ولا نستطيع استشراف ذلك، فمن أين يأتي الضياء. * مازلت أتذكر (ناظم حكمت) الشاعر الذي عاش حياته في السجن وهو يغني: * "إذا لم تحترق ولم أحترق فمن أين يأتي الضياء؟". * الحقيقة هي أن الكل يفكر في نفسه ولا يفكر في غيره فما بالك بالتفكير في الوطن. لقد صار التفكير في الوطن والوطنية "لغة خشب" في الفكر الإعلامي الجديد. وصار النضال في الأحزاب ب "السكين والخنجر والفاس والمسدس" و"المهماز"، وبات الوزراء لا يدافعون عن الوزارات وإنما عن المواقع في الأحزاب، والأحزاب صارت "سجلات تجارية" لبضاعة اسمها "الاستحقاقات المحلية والتشريعية والرئاسية". * ربما يتساءل البعض، وما علاقة الكرامة بالحرية؟. وقد تضيق قلوب من حملوا شعار: "العزة والكرامة" في رئاسيات سابقة فيتساءلون: ماذا تريد أن تقول؟ * بصراحة هناك ثلاثة أحزاب حملت هذا الشعار ولكنها لا تؤمن به هي موجودة في الحكومة وليست في الحكم، على حد تعبير المرحوم الشيخ محفوظ نحناح. تصوروا معي لو أن أحمد أويحيى لم يعد إلى الحكومة وزيرا أولا، هل يستطيع حزبه أن يبقى متماسكا؟ وتصوّروا معي لو أن عبد العزيز بلخادم لم يكن وزير دولة وممثل الرئيس، هل يستطيع مواجهة ما يجري حاليا في حزبه؟ * أعتقد أن تجربة أبوجرة سلطاني مع مناضليه كشفت عن حقائق مرعبة، فالقيادة تستمد الشرعية من الإخوان المسلمين "مثلما تستمد شرعية الأحزاب الجهوية شرعيتها من العروش، وهذا ينسحب على بقية أحزاب التحالف الرئاسي. * سمعت قيادات في جبهة التحرير تتساءل: لماذا لا يتدخل الرئيس الشرفي للجبهة ويوقف المهزلة. وسمعت قيادات من التجمع الوطني الديمقراطي تسوق لإشاعة تفيد أن الوزير الأول طلب من وزراء حكومته المنتمين إلى الجبهة "الترفّع" عن الحزبية الضيّقة. * والحقيقة هي أن هناك جهات في السلطة بدأت تفكر في تشريعيات 2012 ورئاسيات 2014، وهي تسعى إلى تفكيك الأحزاب الملتفّة حول برنامج الرئيس بعد أن غلق المجال السياسي والإعلامي. وسمعت كلاما آخر عن صراع آخر في مستوى آخر. * والحق يقال إن التخمينات والتكهنات والقراءات لا تصلح في الجزائر، لأن السلطة التي تعيّن وزيرا للدراسات الاستشرافية قبل إنشاء الوزارة هي التي تستطيع أن تعيد الاعتبار لهذا الحزب أو ذاك. * فرؤساء الأحزاب في الجزائر ينقسمون إلى فئتين: فئة تنشئ الحزب باسمها ولا تغادره إلا بالموت أو الانقلاب داخل العروش. وفئة تتداول على رئاسة الأحزاب ب"مرسوم شفوي". ومن يتوقف عند محاولة الانقلاب على أحمد أويحي وتدخل الرئيس لإبقائه في الكرسي أو الإطاحة بمهري أو تعيين ابن فليس أو سحب البساط منه، أو الإنقلاب على جاب الله أو محاولة الإطاحة ب"أبو جرة سلطاني"، سيتأكد مما أدّعيه. * مازلت أتذكر ما قاله رضا مالك لأحد قادة الانقلاب في حزب إسلامي في حفل لإحدى السفارات العربية: ماهي الأفكار والبرامج المختلفين حولها مع رئيس حزبكم؟ فردّ هذا بدون خجل: "المنصب". * والمفارقة هي أن النضال الحزبي انتهى منذ مجيئ المرحوم محمد بوضياف، حيث تخلّى عنه حزبه وجاء ليضع جبهة التحرير الوطني في الأرشيف. وحين اتصل مسؤول في الجبهة بالجنرال خالد نزار، ما إذا كان تصريح بوضياف يلزمه، نفى ذلك. فبدأ التحضير للانقلاب على عبد الحميد مهري بعد أن كان المشروع هو أرشفة جبهة التحرير رسميا. * * حين يصير الحزب في القلب! * مادامت الأحزاب والمجتمع المدني مجرد "سجلات تجارية" لدى قيادتها، فإنه من الصعب بناء تعددية سياسية في الجزائر. * وأعتقد أن الجزائر أكبر من أن تختصر في شخص أو حزب أو مجموعة ومستقبلها لا يرهن لدى هذه الجهة أو تلك، فالذي لا يفكر في بناء بيته لا يستطيع بناء الدولة أو الدفاع عنها، فإذا استطاعت السلطة اقتلاع المناضل من حزبه فإنه لا يمكنها اقتلاع الحزب من قلبه. لكن من تنطبق عليه هذه المقولة في الجزائر؟ * إن فكر إلغاء الآخر والقضاء على الماضي هي من بنات أفكار الحزب الواحد، وأذكر هنا أن السلطات الجزائرية قررت عام 1977 تغيير أسماء الفرق الرياضية بعد أن غيّرت أسماء الشوارع، وحين تقدموا لتغيير اسم "المولودية" التي يعود الفضل فيها إلى ميلاد الفرق الرياضية في الجزائر، كان السيد عبد الرحمان بلعياط مديرا، فرفض تطبيق القرار وكانت النتيجة هو أنه أنقذ الرياضة من القرارات الارتجالية للسلطة. فهل تستطيع السلطة أن تضمن نتائجة تشريعيات 2012 أو رئاسيات 2014، إذا ما أقدمت على تهديم الأحزاب الملتفّة حول الرئيس؟ وهل التفاف هذه الأحزاب حول الرئيس كفيل بضمان الديمقراطية أم هو بداية لعودة الحزب الواحد المتعدد الرؤوس؟ * المؤكد أن التفكير في المستقبل لا يضمنه الرئيس أو المرؤوس ولا الحزب المحروس وإنما هو "الفراغ القادم" إذا ما تحوّل إلى فراغ سياسي بعد تلميع صور الشخصيات المرشحة لقيادته لاحقا.