من كان يهلل منذ حين للثورات البنفسجية المصنعة على مواقع الفيس بوك، ويرقص لنقلة ديمقراطية يقودها مندوب شركة غوغل، عليه واجب إقناع الملايين من الليبيين أن هذا النهر من الدماء المراقة، والرعب الذي يتضامن في زرعه نظام القذافي وفضائيات باتت تعمل بكمياء الكذب، وتحريض يتداول عليه كبار المعمّمين، هو ثمن معقول ومقبول، حتى لو انتهت ثورة الجماهير على جماهيرية بلا دولة إلى صناعة صومال جديد في قلب شما إفريقيا.
نذر صومال جديد في قلب شمال إفريقيا كان الله في عون الأشقاء قي ليبيا الذين يتعرّضون لعدوان شامل على أمنهم وعلى عقولهم في واحدة من أغرب الحملات الترويعية التي تذكرنا بالعدوان الغربي على العراق سنة 91 ثم الغزو الأمريكي سنة 2003. كان الله بعونهم وقد عشنا معهم طوال هذا الأسبوع فصول هجوم إعلامي عالمي غير مسبوق، سقطت فيه مهنة الإعلام بالكامل، فاقت في تهاويها وتهافتها على صناعة الحدث، والخلط بين الحقيقة والأحداث الملفقة، ما حدث من قبل في أحداث تونس ومصر، وما يجري في اليمن. انقلاب بالجماهير على جماهيرية بلا دولة كان الله في عونهم في هذه اللعبة القذرة، بين نظام فشل طول 44 سنة في بناء دولة قادرة على حفظ أمن وسلامة بلد غني بثرواته، معرض لأطماع الصديق والأخ وقبل العدو المتربص دوما، ونرى دفاعات الدولة تنهار في أسبوع لتنشأ حالة من الفوضى بإقليم شرق ليبيا، يمهد للتقسيم والانفصال، وربما لحرب أهلية قد تحول ليبيا إلى صومال جديد، وبين حملة إعلامية مروّعة تعمل بأدوات التدليس والتلفيق وكمياء الكذب الذي لا يعرف حدودا، تشترك فيها كبريات القنوات العالمية بلا حياء. كان الله في عون الأشقاء الليبيين أمام هذا الإنزال المرعب والمخيف لقطعان من الضباع وآكلات الجيف، وقد توحّدت صفوفها في خليط عجيب، تتوافق داخله قاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي مع مواقف البيت الأبيض الأمريكي، وقادة أوروبا والكيان الصهيوني، وجامعة الدول العربية، ومشايخ السنة والشيعة، والنخب المتخرجة من معهد كارنيغي الصهيوني، حتى أنه لم يبق في العالم، يميني أو يساري، شيوعي أو إسلامي، فاشي أو مستنير، إلا وقد تحول إلى مرشد أعلى لثورة ليبية لم تكن هذه المرة بالألوان البرتقالية أو البنفسجية بل بلون الدماء التي تراق بشوارع بن غازي وكثير من مدن شرق ليبيا. فمع التعتيم الإعلامي الذي فرضه النظام، لا نعلم تحديدا أبعاد المأساة التي يتعرض لها الشعب الليبي، خاصة بعد التهديدات التي أطلقها نجل القذافي سيف الإسلام في ما يشبه الأرض المحروقة، وخطاب القذافي الذي أضاف إلى الرعب الذي تبثه الفضائيات رعبا أعظم بتوعّد الليبيين بزحف لا نعلم طبيعته. التعتيم الإعلامي اشترك فيه النظام الليبي مع خصومه ومن يستعديه في هذه الحملة. فمع التسليم بما تدعيه الفضائيات من تقييد لنشاطها في طرابلس والمناطق التي تخضع لسلطة الدولة، فإن الجهة الشرقية لم تعد منذ خمسة أيام تحت سيطرة مؤسسات الدولة الليبية، وهي بيد الثوار كما تصفهم الفضائيات، فما الذي يمنع الفضائيات من دخول بن غازي ومدن شرق ليبيا لنقل وقائع ما سمي بالمجزرة والمذابح، إلا إذا كانت المصلحة في الإبقاء على هذا التعتيم لتمرير الخطاب التهويلي الذي يروّع الشعب الليبي ومعه بقية الشعوب العربية لتحقيق انهيار سريع للدولة. كيمياء الكذب في فن ترويع الشعوب منذ اندلاع الأحداث في تونس، وانتقالها إلى مصر وكثير من الدول العربية، وقفت موقف المتشكك الحذر مما تنقله الفضائيات العالمية الناطقة بالعربية: الجزيرة، والعربية، والحرة، وفرانس 24، وهيئة البي بي سي، لأني وقفت على عدد لا يحصى من المخالفات الصارخة لناموس أخلاق المهنة الإعلامية، وعلى تعدي واضح على ذكاء المشاهد، مع ذلك لم أكن أتوقع أن تنزلق تلك الفضائيات إلى ما انزلقت إليه وهي تستعرض أحداث ليبيا. منذ عشرين سنة خلت تعرّض شعب عربي آخر لحملة ترويع وتهويل قادتها الفضائيات الغربية من بغداد في العدوان الثلاثيني على الشعب العراقي، وكان الغرض منها ترويع عموم الشعوب العربية، وقد حصل، وتعرضنا طيلة عقد من الزمن للأكاذيب التي كان يتناقلها الإعلام الغربي، ومعه جانب من الإعلام العربي، حول أسلحة الدمار الشامل التي مهدت لغزو العراق، ويذكر المشاهد كيف كمم الإعلام العالمي طوال الأسابيع الثلاث للغزو قبل سقوط بغداد، قبل أن يحرره المحتل من القيد لينقل لنا تلك الصور الفظيعة لبغداد وهي تنهب. حتى لا نذهب بعيدا، أدعوا القارئ المشاهد إلى التفكير في سر تكالب هذه القنوات على ليبيا، ليس بنقل المعلومة التي هي حق وواجب على الإعلاميين، ولكن بنقل أخبار مروعة للشعب الليبي بأدوات الكذب واختلاق الأحداث، وكيف أن القنوات المذكورة لم تنقل صورة واحدة، ولا حتى خبر بأشرطتها الإخبارية عن انتفاضة شعب عربي آخر يتظاهر يوميا بمدن وقرى العراق الديمقراطي، وكان يحضر لجمعة غضب ضد الفساد والظلم على يد حكومة جاءت بها الديمقراطية الأمريكية محمولة على الدبابات. الحرب بالإعلام التي لم يستوعبها الحكام مع كل هذه التجارب مع الإعلام الغربي والعربي، لم نستوعب الدرس، لا كشعوب ولا كدول لتحصين دولنا ومجتمعاتنا من هذا الإعلام الموجه، الذي تحول إلى سلاح فتاك أخطر بكثير من عساكر الولاياتالمتحدة وحلف الناتو مجتمعة. في هذا العالم المعولم، الذي تحول إلى قرية واحدة تحت سيطرة الفضائيات المدعومة اليوم بالشبكة العنكبوتية، والشبكات الاجتماعية بالفيس بوك، وتويتر، ويوتوب، لم يعد من الممكن مواجهة هذه الحملات الفتّاكة بأدوات المنع والرقابة، بل نحتاج إلى بناء إعلام وطني حقيقي عمومي وخاص، يتمتع بهامش واسع من الحرية، حتى لو كانت هذه الحرية تزعج الحكام، فإن الاستثمار في إعلام حر منفتح على هموم المواطنين، يتسع للحوار، ويعطي الكلمة للمواطنين، ولكل من له قدر من التمثيل، سوف يعود بالفائدة على البلد، بل وحتى على الأنظمة في مثل المحن التي تعرض لها الأشقاء في تونس ومصر وليبيا واليمن. سؤالي إلى حكومة بلدي وإلى نظرائها في العالم العربي: هل كان سيحدث ما حدث في تونس ومصر، وما يجري الآن في ليبيا واليمن والبحرين لو أن الحكام تعاملوا مع شعوبهم كشعوب راشدة، مؤهلة للمشاركة بالرأي في صناعة القرار، أو على الأقل في ممارسة حق الرقابة عبر وسائل إعلام وطنية لها مصداقية، يفترض أنها تخدم الوطن والشعب والدولة، قبل سدانة متملقة للحكام وللسلطة القائمة؟ وهل كان الشباب سوف يلجأ إلى وسائل تعبير معرضة للاختراق والتلاعب مثل فيس بوك وتويتر، أو يتأثر بتلك الفضائيات ومجاميع التحريض فيها، لو أنه وجد طريقه إلى وسائل الإعلام الوطنية؟ وهل كان سيستجيب لدعوات المحرضين من مجاميع، لها بكل تأكيد أغراض ومآرب لا يعلمها إلا الله، لو أن الحكومات والسلطات لم تمارس سياسة الأرض المحروقة في صفوف المجتمع، بتفكيك النخب الوطنية، وسحق الوجهاء من رجال الرأي والعقل، وإقصائهم بالكامل من المشهد بتهم شتى، أو بشراء ذممهم وتحويلهم إلى مرتزقة داخل أوطانهم؟ خيانة "جامعة الدول" للشعوب العربية. فمما لا شك فيه، أن ليبيا كانت مستهدفة، كما استهدف من قبل العراق والسودان والجزائر، وكما هي مستهدفة اليوم بقية الدول العربية التي قد تنشأ فيها قوى وطنية حاملة للتغيير، قادرة على الدفاع عن السيادة وحماية الثروات من الافتراس الغربي، لكن ذلك لا يشفع للقيادة الليبية أن تخاطب شعبها بلغة التهديد التي سمعناها على لسان نجل القذافي ثم على لسان القذافي نفسه، ولا يمكن أن تبرر أي جريمة قتل وتنكيل بأفراد الشعب، حتى حين يستدرج إلى ما استدرج إليه الشعب الليبي في بنغازي ومدن الشرق الليبي، وإلا كنا بررنا ما يفعله الاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان، والكيان الصهيوني في فلسطين.
وفي هذا السياق، فإن الحكومات العربية والنخب العربية والإسلامية تتحمّل نصيبها من مسؤولية ما حدث، لأنها لم تسارع لنصرة الشعب الليبي، وخذلته كما خذلت من قبل الشعب العربي في العراقي والصومال والسودان. وعجبا للجامعة العربية التي سكتت دهرا ونطقت كفرا. سكتت عن الجرائم الأمريكية وخيانة الدول العربية للشعب العراقي في حربين مدمرتين، واستقبلت كيانا عميلا مثل الحكومة العراقية العميلة في زمن بريمر وسلمتها مقعد دولة العراق، ورضيت منها أعمال التقتيل الطائفي للشعب العراقي طيلة ثماني سنوات، ولم يصدر عنها ولو تنديد واحد، عجبا لها كيف سارعت لإقصاء الشقيقة ليبيا من جميع مؤسسات الجامعة العربية، وهي لا تعلم ما يجري، ولم تكلف نفسها إرسال بعثة عربية لتقصي الحقائق، والضغط على الحكومة الليبية في اتجاه ترشيد أدوات القمع حتى لا تنزلق إلى ما تكون قد انزلقت إليه. تماثيل بوذا أنفس من الأنفس الليبية والعجب كل العجب من هذه النخب العربية والإسلامية وعلى رأسها المؤتمر الإسلامي وهيئة علماء المسلمين وشيخها الكبير، الذي رأيناه منذ بضع سنين يقود وفدا من خيرة علماء المسلمين إلى أفغانستان في زمن حكم طالبان، ليشفع عندها لتماثيل بوذا من ذلك القرار الأخرق بهدمها، عجبا كيف انخرطت اليوم في خطاب التحريض على الاقتتال في ليبيا، بدل الهرولة لنصرة الليبيين بالدعوة لوأد الفتنة، وحقن الدم المسلم، والاستعانة بالعقلاء من الليبيين في المجتمع وفي السلطة لإطفاء نار الفتنة، وتجنيب هذا البلد العربي شرور الحرب الأهلية، وتأمينه من التدخل الأجنبي الذي بدأت ترتسم معالمه، ويكون لها بعد ذلك متسع من الوقت لإبداء الرأي وتحميل مسؤولية ما جرى لمن تشاء، بعد أن تكون الصورة قد اتضحت. شعوري أن شعوبنا ودولنا أصبحت مكشوفة بالكامل، قابلة للاختراق وللتفكيك والنسف من الداخل في أسابيع معدودة، ولم تعد تحتاج إلى جيوش أمريكا والنيتو لتسقط. مجموعة صغيرة من النشطاء، وبعض الخيانات في أجهزة الأمن، وساعات بث متواصل من الفضائيات أصبحت كافية لتخريب بلد أنفقنا على مؤسساته مليارات الدولارات لنراها تنهار بشكل مخز، أو تسقط في الجريمة ضد الشعب وسفك دماء المواطنين. الذين دخلوا في اللعبة الغربية لعزل نظام القذافي، مع تصاعد النداءات لتدخل عسكري أمريكي وغربي، يكون في الحد الأدنى في شكل حظر جوي يشمل كامل التراب الليبي، وتدخل قوات على الأرض تحت غطاء تأمين خطوط الإمداد والإغاثة، إنما يعيدون إنتاج السيناريو العراقي أو الصومالي، ويدفعون بالنظام الليبي إلى موقع قد ينتقل فيه من التهديد والوعيد، كما جاء على لسان سيف الإسلام القذافي، إلى التنفيذ بما يعرض الشعب الليبي إلى ما هو ألعن من الحرب الأهلية، وبانفتاح ليبيا على حالة تنقسم فيها إلى إمارات متناحرة بعدد قبائلها، تضع منطقة المغرب العربي والصحراء الكبرى بالكامل تحت التهديد، مع وجود تلك المجاميع المسلحة والنشطة في الصحراء الكبرى، تغذيها غدا قوافل الهجرة الإفريقية التي يسهل اكتتابها وتوظيفها في تنشيط وإدامة حالة شبيهة بما يجري في الصومال. نحو الاستباحة المطلقة للشعوب هذا الواقع أصبح مخيفا، ويعدنا بغد يحمل ما لا نعلم من التهديدات، تتجاوز تهديد وحدة الأوطان، ومشاريع التقسيم والتشرذم، إلى واقع أخشى أن نفقد فيه السيطرة على مجتمعاتنا وقدرتنا على حمايتها من الاختراقات التي لم تعد تنفع معها الأدوات التقليدية، ولا هذه السياسات الخرقاء التي أوصلتنا إلى هذه الاستباحة المطلقة لأوطاننا تحت عنوان كاذب اسمه نشر الديمقراطية بمضامينها الغربية، التي ترى فينا مجرد قطعان من المستهلكين ليس إلا. لقد كنت أعددت مقالا آخر، كنت قد وعدت فيه القارئ بالتدبر معه لدوافع الجريمة بدل البحث عن المجرم، والاستقصاء عن تداعيات اليوم التالي لهذه الفوضى المنظمة، المسيرة والمتنقلة كالنار في الهشيم في العالم العربي، وبهذا التسارع الجنوني، لكن الأحداث التي عاشتها ليبيا ألزمتني تأجيل الموضوع، لأن ما يجري في ليبيا هو أخطر بكثير مما جرى في مصر وتونس، ويحتاج منا بعد واجب الدعوة لنصرة الشعب الليبي بأسلوب وأدوات غير تلك التي تشتغل على التحريض أو الشجب، أو الدعوة لتدخل أجنبي، نعلم مسبقا من سيكون فيه المستفيد الأول.