الحرب الأخيرة بلبنان فاجأت العرب والعالم أجمع. المواطنون العرب، لأنهم تعودوا على الهزائم، لم يتصوروا أن يثبت جند حزب الله، أكثر من ساعات، أمام قوة جيش إسرائيل "الذي لا يهزم". عدم التوازن جد واضح بين جيش احترافي وعصري تدعمه أقوى الدول على المعمورة يهاجم، بكل وسائل التدمير، مجموعات من المجاهدين قليلة العدة والعدد. لا أحد تمكن من التكهن بالنتائج الأولية لهذه الحرب، وذلك لسبب واحد وهو أنها ليست حربا كالحروب السابقة. بقلم: أحمد عظيمي عقيد متقاعد الحكام وثقافة الهزيمة منذ بداية ما سمي بالصراع الإسرائيلي _العربي لم تخض الأمة العربية حربا بمعنى الكلمة، أي حرب تدار من الجانب العربي بكل دقة، وبكل حزم، وبكل حكمة، وتستغل نتائجها لما يخدم مصالح الأمة العربية. حرب 1948 كانت حرب الخيانة والأسلحة الفاسدة، وحرب 1967 لم يقاتل فيها الجندي العربي، ففي سويعات تمكنت إسرائيل من تدمير الجيش المصري وكان بإمكانها الوصول حتى القاهرة لو شاءت؛ وفي حرب أكتوبر 1973، ورغم القيادة البارعة للفريق سعد الدين الشاذلي، الذي حقق أول نصر على الجيش الإسرائيلي، فان هذا النصر سرعان ما حولته القيادة السياسية المصرية إلى هزيمة.. وبيع وشراء. لعل الكثير يتساءل اليوم، لماذا لم يحقق العرب أي نصر في حروبهم السابقة ضد إسرائيل؟ وكيف يحدث أن يحقق تنظيم سياسي، هو عمليا مجرد حزب اضطرته الظروف إلى أن يتسلح ويتدرب ليحرر أرضه المحتلة، كيف يحقق هذا الحزب نصرا على إسرائيل ويجعلها تعجز عن احتلال الأرض؟ الجواب بسيط، فمنذ بداية احتلالهم لفلسطين، عمل اليهود على جعل الصراع على فلسطين صراعا إسرائيليا-عربيا، بدل أن يكون إسرائيليا-فلسطينيا أو يهوديا-إسلاميا. إسرائيل ربحت الكثير من "تعريب" الصراع بدل "فلسطنته" أو "أسلمته". بتعريب الصراع، قدمت إسرائيل نفسها للعالم على أنها الضحية في وسط هذا الكم الهائل من الشعوب العربية. الوضعية هذه أفادت إسرائيل أيضا في تقديم نفسها على أنها تلك الواحة من الديمقراطية وسط غابة من وحوش القرون الوسطى، ووجدت تعاطفا ودعما من الدول والشعوب الغربية، خاصة وأن الأنظمة العربية لم تعرف كيف تقدم نفسها وتعرف بقضيتها للرأي العام الغربي. الأنظمة العربية أضرت كثيرا بالمسألة الفلسطينية بدل أن تفيدها. الحكام العرب استغلوا وجود إسرائيل لتكميم كل الأفواه المطالبة بالديمقراطية وبالحرية وبمحاسبة الحاكم وبالتداول على السلطة. سجون ومعتقلات دول الجوار (جوار إسرائيل) تكتظ بالمساجين المتهمين بالخيانة العظمى وبكشف أسرار تفيد العدو بينما ذنبهم الوحيد أنهم طالبوا بشيء من الحرية. منطقة الشرق الأوسط تحكمها أنظمة سياسية عربية فاسدة ومتخلفة فكريا وسياسيا وعسكريا وعلميا. أنظمة هدفها الوحيد هو المحافظة على السلطة، يقابلها، من الجانب الإسرائيلي، نظام ديمقراطي تعددي. النظام السياسي في الدولة العبرية يحرر المبادرات ويضمن التداول على كل المناصب ويسمح للكفاءات بالبروز والتعبير عن نفسها والمشاركة الفعالة في خدمة أمتها. الحاكم عندهم، هو مجرد موظف سام، يؤدي واجبه في خدمة الشعب اليهودي بكل إخلاص وتفان؛ وهو يصل إلى السلطة عن طريق انتخابات نزيهة ونظيفة حقا. بينما العكس هو الذي يجري في البلدان العربية التي لا زالت تؤمن بطاعة ولي الأمر لأن "الله منحه الملك"، ولا زال الحكام فيها يموتون من الشيخوخة وهم على كرسي الحكم. جيوش هزيلة.. وجيش عصري الجيوش العربية، التي دخلت حروبا عديدة ضد إسرائيل، لم تكن معدة ولا جاهزة للحرب. المرة الوحيدة التي تمكن فيها جيش دولة عربية من إدارة الحرب وفق المعطيات الحديثة كانت خلال حرب أكتوبر 1973 وذلك بفضل، كما أسلفنا، القيادة الرشيدة للفريق سعد الدين الشاذلي، الذي عرف كيف يحرر مبادرات المقاتل المصري ويجعله يحقق معجزة اختراق خط بارليف. انتصار هذا الجنرال العربي العظيم على إسرائيل أزعج القيادة المصرية فأبعدته من قيادة الجيش؛ وبعد سنوات قضاها لاجئا في الجزائر، عاد إلى مصر ليحاكم بتهمة... إفشاء الأسرار العسكرية. عجيبة هي هذه الأنظمة التي "تخصي"، كما قال الأمير خالد الجزائري رحمه الله، فحولها. معظم الجيوش المشرقية والخليجية تنخرها الجهوية والقبلية والمحسوبية والرشوة والفساد الأخلاقي؛ وهي لم تعد تصلح سوى للزينة والاستعراضات وقمع شعوبها. أذكر أنه في إحدى المناسبات روى لي ضابط خليجي كيف تتم الترقيات في بلده، وكيف أن نقيبا رقي إلى رتبة عقيد مباشرة، دون المرور برتبة رائد ومقدم، وذلك لأنه ينتمي إلى عائلة معينة، ولأنه كان لا بد من أن تمنح لهذه العائلة عدة مناصب في الإدارة والجيش، فرقّي ابنها ليتمكن من تبوؤ منصب معين في هرم القيادة، كما حدثني عن ذلك الجنرال الذي لم يقض في رتبة عقيد أكثر من سنة واحدة... هذا ناهيك عن عقود التسليح، حيث كثيرا ما تشتري جيوش هذه البلدان أسلحة بملايير الدولارات، تكتشف بعد حيازتها أنها مجرد خردة لم تعد تصلح لأي شيء، إما لأنها جردت من تجهيزاتها الإلكترونية المتطورة أو لأنها بكل بساطة تجاوزها الزمن ولم تعد في الخدمة في جهات أخرى من العالم. ولا بأس أن نذكر هنا الأموال الطائلة التي صرفت على إقامة صناعات الأسلحة والتي لما بدأت تنتج تبين إما أنها تكلف ضعف ثمنها في السوق الدولية أو أن بها عيوبا تجعلها غير صالحة للخدمة. الفريق سعد الدين الشاذلي يشير في كتابه "حرب أكتوبر" لمآسي هذه الصناعة العربية لما يتعرض للصواريخ التي صنعتها مصر باسم الناصر والقاهر، وكيف أنه اكتشف بأن الصاروخين هما مجرد هياكل حديدية لا تصلح لأي شيء. الوضع مختلف تماما بالنسبة للجيش الإسرائيلي، فهو جيش محترف، تحكمه القوانين والنظم، قادته يدركون جيدا معنى الاحترافية، يبذلون قصارى جهدهم في التكوين والتدريب والاطلاع على آخر المبتكرات في مجالات الأسلحة والاستراتيجيات العسكرية. جيش يسيره جنرالات، لهم كفاءة عالية. بعضهم في الأربعين من العمر. كل شيء منظم، رئيس الأركان عندما يعين لا يبقى في منصبه أكثر من ثلاث سنوات، يذهب بعدها إلى التقاعد تاركا مكانه لغيره ليواصل مسيرة تحديث الجيش والدفاع عن كيان دولة نشأت، منذ نصف قرن، من العدم. هذا الجيش الاحترافي، تعود على الدخول في حروب ضد الجيوش العربية النظامية فينتصر عليها في أوقات قياسية. ينتصر عليها، ليس لأن أفراده أكثر شجاعة من الجنود العرب بل لأن قيادته هي أفضل وأكفأ من قيادات الجيوش العربية المواجهة لها. للأسباب السابقة الذكر ولغيرها، وهي كثيرة، يمكن القول بأن القيادات العربية لا ترغب في الحرب ضد إسرائيل، وهي إن دفعت إلى هذه الحرب فلن تتمكن من تحقيق أي نصر على الجيش الإسرائيلي. إسرائيل وأمريكا وكل الغرب المساند، جملة وتفصيلا، لإسرائيل يعرفون هذه الحقيقة، لذلك تراهم جميعا يدعمون ويحمون الأنظمة العربية القائمة لأنها الوحيدة الضامنة لبقاء واستمرار إسرائيل. المقاومة الشعبية بدل الجيوش إثر هزيمة 1967، أعلن الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين بأن تحرير فلسطين وكل الأراضي العربية المحتلة لن يتم سوى عن طريق المقاومة الشعبية الطويلة الأمد. بومدين انطلق، في تحديد موقفه، من تجربة الثورة الجزائرية حيث تقول الأرقام الفرنسية بأنه في سنة 1960 بلغ تعداد القوة الفرنسية (جيش، جندرمة؛ شرطة...) في الجزائر، مليون فرد، يؤطرهم سبعمائة (700) عقيد وستون (60) جنرالا. هذه القوة الرهيبة، التي تضاف إليها المعتقلات والحواجز والتعذيب والحرب النفسية والتفقير... لم تستطع تحقيق النصر على مجموعات من المجاهدين والفدائيين؛ وتحول الربع ساعة الأخير إلى حرب شرسة، غير متكافئة في العدة والعدد، لكنها انتهت بانتصار الثوار. القادة العرب لم يستمعوا لنصيحة الجزائر، ولم يأخذوا بها، لأنهم بكل بساطة في حاجة لإسرائيل ولا يريدون لها أن تهزم أو تزول. ما يزعج إسرائيل وعرب المصالحة اليوم، هو أن الذين يحاربون إسرائيل يقومون بذلك باسم الدين، فإسرائيل، الدولة الوحيدة في العالم المعاصر التي تقوم على أساس وعد ديني مزعوم، أخشى ما تخشاه هو أن يتحول الصراع من صراع فلسطيني-إسرائيلي أو عربي-إسرائيلي إلى صراع إسلامي-يهودي، عندها سيكون الصراع بين دينين الانتصار فيه يكون بالتأكيد للأكثر إيمانا والمقبل أكثر على التضحية. نذكر هنا التصريح الذي أدلى به موشي دايان وزير دفاع إسرائيل سابقا، لما أطاحت الثورة الإسلامية بإيران بنظام الشاه، لقد قال معلقا على الحدث: »إنه زلزال حقيقي«. موشي دايان كان يدرك بأن "الزلزال" الديني، عندما يوجه الوجهة الجيدة والصحيحة من شأنه أن يدمر الكيان الصهيوني العنصري القاتل للأطفال. لكن الدين الإسلامي يوجه اليوم، بفضل البترودولارات، الوجهة غير الصحيحة. منذ 16 سنة، قال أحد أصدق رجال الدين في الجزائر، الشيخ عباس بن الشيح الحسين، عميد مسجد باريس، رحمه الله، في حديث لمجلة ديالوق أنترناسيونال، الصادرة يوم 29 أفريل 1989، أربعة أيام قبل وفاته: "المسلمون، كما قال، هم غير ناضجين. إنهم يهيمون في كل واد. الإسلام أصبح سياسة فلكلورية. الكبار يتناولون المخدرات ويمارسون الزنا والديماغوجية. إنهم يخطئون في كل شيء، في الطلاق، في الحلال، في الحرام. الشباب منهم يتصنعون مظاهر خارجية لا علاقة لها بالمسلمين. إنهم يختفون وراء مظاهر متخلفة ويرفضون المساهمة في الحياة المعاصرة. حتى مكة شوهت، لقد أصبحت شبيهة بسوق كبير". كل شيء قيل في هذا النص للشيخ عباس. المساجد: "تحولت إلى مجال مفتوح لكل الغرائب. كان يجب أن تكون أماكن تعليم وتفكير وعبادة، لكنها تستعمل غالبا لنشاطات مشكوك فيها". الذين يريدون تنظيم الإسلام؟: "إنهم يتميزون بالجهل، وعدم الكفاءة والخبث. إنهم يتحججون بالإسلام لممارسة النفوذ، لتلبية غريزة السلطة. بحجة تنظيم الإسلام فهم ينظمون شبكات التجارة أو التأثير". وماذا عن الدول الإسلامية؟ :"إن لها أهدافا سياسية ولا تمول إلا في الاتجاه الذي يخدم مصالحها ويمكنها من السيطرة." أمام هذا الوضع، فإن المقاومة الشعبية الطويلة الأمد، هي وحدها القادرة على تدمير إسرائيل، فهذا الكيان لا يستطيع تحمل حرب تدوم أكثر من أسابيع معدودة وذلك للأسباب التالية: -الرأي العام الإسرائيلي لا يتحمل ضيق وصعوبة العيش. القنوات التلفزيونية نقلت صورا لرجال الأعمال وهم يقومون بمظاهرة من حيفا إلى تل أبيب لأنهم لم يعودوا، منذ أن بدأت صواريخ حزب الله تتساقط على رؤوسهم، يستطيعون التحرك وممارسة أعمالهم بكل حرية؛ -الاقتصاد الإسرائيلي لا يتحمل حربا طويلة الأمد؛ - فرار الكثير منهم إلى خارج إسرائيل. كل الذين لهم جنسية مزدوجة بدأوا يغادرون "أرض الميعاد" في انتظار أن تهدأ الأمور؛ - عدم توفر إسرائيل على عمق يمكنها من امتصاص الضربات. كاتيوشا حزب الله بينت أن أمن إسرائيل هو جد هش، ولنتصور فقط، ولو من باب الحلم، أن الدول الثلاث الأخرى المجاورة لإسرائيل أي مصر وسوريا والأردن، تفتح حدودها أمام المقاومة الشعبية وتتركها تطلق صواريخ الكاتيوشا على إسرائيل من كل جهة. لنتصور فقط ماذا يمكن أن يحدث. لكن هل ذلك ممكن؟ من المستحيل أن تسمح أنظمة البلدان المجاورة لإسرائيل بفتح حدودها أو بالسماح لمواطنيها بالمشاركة في المقاومة الشعبية ضد إسرائيل، لأن بقاء التهديد الإسرائيلي يضمن بقاء هذه الأنظمة. ما العمل إذن؟ وسائل الاتصال الحديثة، من قنوات البث المباشر عبر الأقمار الصناعية وأنترنات وغيرها، جعلت الشعوب العربية تتابع على المباشر الجرائم المرتكبة ضد الشعب اللبناني، كما تابعت دموع السنيورة وهو يعلن أمام وزراء خارجية البلدان العربية الذين، قبل أن يتوجهوا إلى لبنان، طلبوا من إسرائيل أن لا تضربهم في السماء. هذه الشعوب المقهورة، التي تتابع قتل أطفال لبنان، ملائكة الله على الأرض، وانتصارات مجاهدي حزب الله، لا شك أنها بدأت تتململ، بل لقد بدأت تتحرك. في كل جمعة، منذ بداية الحرب، يخرج الأحرار من أبناء الأمة العربية في مسيرات تنتهي بقمع الشرطة لها، ولأن القمع يولد الغضب، فسيشتد غضب الجماهير العربية التي اعتقدنا لفترة من الزمن أنها روضت وانتهى أمرها. التململ بدأ يشمل حتى مواطني تلك الدول العربية التي هي عادة راكدة لا تتحرك. هناك تململ، بل أكاد أجزم، بأن هناك بوادر هبة شعبية ضد الأنظمة الجبانة والمتخلفة. إن وضع الشارع العربي اليوم شبيه بوضعه في نهاية الأربعينيات. نهاية الأربعينيات جاءت بالثورة الجزائرية وبعدة انقلابات "وطنية" أطاحت بالأنظمة العميلة للانجليز، ولا شك أن مقاومة نصر الله هي بداية مرحلة جديدة "ستكنس" أنظمة العار والحكام مدى الحياة والجمهوريات الوراثية.... adimiahmed@caramail.com