الموقف الأخير الذي اتخذته تركيا ضد إسرائيل والقاضي بأن توجه هذه الأخيرة اعتذارا مكتوبا على تصرفها المهين تجاه سفير أنقرة لدى الكيان الصهيوني، وانصياع قادة تل أبيب للتهديد التركي، بين حقيقتين كثيرا ما تحدثنا عنهما طوال السنوات الماضية وهما: الحقيقة الأولى، أن إسرائيل ليست قدرا محتوما على العرب أن يتحملوا عنجهيتها وتطاولها عليهم دون أن تكون لهم القدرة على الرد. عرب المشرق تعودوا على القول أن إسرائيل تستمد قوتها من قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهذا القول إن كان صحيحا شكلا فإنه ليس كذلك من حيث المضمون، لأن هذه الدولة العظمى (الولاياتالمتحدةالأمريكية) ذاتها تجد نفسها عاجزة، بجيشها الجرار، عن تحقيق أي انتصار على مجموعات من الحفاة العراة في أفغانستان والذين يواجهونها بوسائل تعد بدائية وجد متأخرة بالنسبة لترسانة الأسلحة الأمريكية الخارجة لتوها من أكبر وأحدث المصانع الحربية الأمريكية والأوروبية، كما أنها تعد للهروب من المستنقع العراقي الذي لم تتمكن لحد اليوم من تحقيق أي نصر فيه على المقاومة العراقية الشريفة. كما أن جيش نفس الكيان الصهيوني عجز، في حربين متتاليتين وغير متكافئتين، في تحقيق أي نصر على الأرض ولم يتمكن من التقدم ولو لعدة أمتار أمام المقاومين اللبنانيين في سنة 2006 بجنوب لبنان وأمام المقاومين الغزاويين في سنة 2009. المؤكد اليوم، هو أن لا الجندي الإسرائيلي هو أفضل من الجندي العربي، ولا السلاح الإسرائيلي هو أكثر تطورا من السلاح العربي. المشكل يكمن أساسا في النظام السياسي العربي نفسه. هناك من دول الجوار الإسرائيلي من عملت أنظمتها السياسية على تحويلها من دول الطوق مع إسرائيل –كما كانت تسمى سابقا- إلى دول مطوقة للمقاومة الفلسطينية وللقرار العربي المتحرر. النظام المصري حول، بحكم اتفاقيات كامب ديفيد، جيش مصر إلى جيش حام لأمن وسلامة إسرائيل. الغريب في أمر هذا البلد العربي الذي يقول عنه سياسيوه وإعلاميوه أنه الأكبر والأقوى والأجدر بتمثيل العرب في كل المحافل الدولية، أنه رهن أمن المنطقة، وتحولت هذه الدولة الحاضنة لمقر جامعة الدول العربية والراعية للحوار الفلسطيني-الفلسطيني إلى مجرد مأمورة مهمتها الأساسية، على مستوى المنطقة العربية، هي إجهاض كل مشاريع التحرر العربي. ضعف الأنظمة السياسية العربية، يعود بالأساس لكونها أنظمة غير شعبية وغير شرعية، أي أنها غير منبثقة من الاختيار الحر لشعوبها، وهنا يكمن جوهر الخلاف بين إسرائيل والأنظمة العربية، فقوة إسرائيل تكمن بالأساس في طبيعة نظامها الديمقراطي. حكام إسرائيل يصلون إلى أعلى المراتب عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة، والحاكم عندهم ينفذ البرنامج الذي انتخب عليه. هم جاؤوا من كل فج، ومع ذلك توحدوا على رأي واحد هو خدمة العنصر اليهودي وإفناء العنصر العربي بكل الوسائل. الحاكم عندهم، غير مقدس وهو يرضخ للمحاسبة، مثله مثل أي موظف آخر، ولا يفكر ولا يخطر في باله، ولو في الأحلام، بأن يعمل على توريث أبنه حكم البلد. إسرائيل، تستمد قوتها من ضعف وتفكك الأنظمة العربية وعزلتها الداخلية وعدم وجود امتدادات لها في عمق المجتمعات والرأي العام الداخلي. الحقيقة الثانية، أن تركيا التي اختارت نظاما مخالفا تماما للأنظمة السائدة في البلدان العربية بإبعاد الدين الإسلامي عن الممارسة السياسية تكون قد حمت الدين الحنيف من الاستعمال لأغراض سياسوية، مما جعلها بمنأى عن فتاوى أئمة السلطان من أمثال الطنطاوي في مصر، وحمى شعبها من تطرف المتطرفين والمغالين في الدين. تركيا، تمكنت من بناء نظام سياسي ديمقراطي، وهو النظام الذي مكن رئيس الوزراء الحالي من الوصول إلى السلطة بناءا على برنامج واضح ومحدد وبالتالي فهو يعمل على تطبيق البرنامج الذي اختاره الشعب. هنا، تكمن قوة الحاكم، لأنه يستمد شرعيته من المواطنين وليس من أية قوة أجنبية أو غيبية. الحاكم في النظام الديمقراطي لا يصل إلى الحكم ليخلد فيه بل ليخدم بلده ويتفاني في ذلك ليحرم المعارضة من تسجيل أيه مخالفات ضده من جهة، ولضمان شعبية أكبر لحزبه تمكنه من تحقيق انتصارات سياسية أخرى في انتخابات مقبلة، من جهة أخرى. شرعية الصندوق تعطي للنظام السياسي المنبثق عنها قوة تخشاها كل الدول الكبرى لأنها تدرك بأنها في حالة المواجهة فهي لا تواجه الحاكم، الذي كثيرا ما يتهم بالدكتاتورية والفساد وغير ذلك، لكنها تواجه الغالبية العظمى من الشعب. هذه الركيزة الأولى، في سر قوة النظام التركي، أما الركيزة الثانية، فمتعلقة بالغذاء. تركيا، تأكل مما تنتج، والبلد الذي يحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء هو بلد يستطيع أن يتخذ قراراته بكل سيادة؛ وهذه أيضا من أوجه الاختلاف بين تركيا والبلدان العربية، فالبلد الذي يمد يده لتلقي الصدقات من الولاياتالمتحدةالأمريكية، أو من غيرها من البلدان الأوروبية، لا نتصور أنه يستطيع أن يخالف، بمواقفه وقراراته، التوجهات السياسية لهذا البلد أو ذاك. تركيا، ذات النظام السياسي الذي يتوفر على قدر كبير من الحكامة، والمكتفية غذائيا، والمصدرة للكثير من السلع، تدرك أيضا بأنها تمثل، بالنسبة للغرب، عنصر توازن في المنطقة: توازن بين السنة والشيعة، وبين المشرق وأوروبا، وبين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، وبين العرب والإسرائيليين. هذا التوازن، تحتاجه إسرائيل ويسهر الغرب على المحافظة عليه، وتستغله تركيا لتحقيق المزيد من النجاحات في سياستها الخارجية وفي بناء صورة إيجابية لها لدى الشعوب العربية.