العام 1901 حصل شاعر فرنسي مجهول اسمه سولي برودهوم Sully Prudhomme (1839 - 1907) على جائزة نوبل للآداب بعد أن فضلته لجنة التحكيم على الكاتب الروسي الشهير ليون تولستوي، غريب منطق تاريخ الكتاب والكتابة، وغريب كيف يكتشف التاريخ زيف الجوائز ويعري نزوات أعضاء لجان التحكيم. * اليوم من منّا يذكر هذا المتوج المدعو سولي برودهوم ومن منّا، وبعد مرور أزيد من قرن، لم يعرف أو لم يقرأ قليلا أو كثيرا من أدب تولستوي، كاتب لايزال يدهش وقد تحولت رواياته إلى أفلام ومسرحيات وسيمفونيات موسيقية خالدة، تذكرت هذه الحالة الثقافية الأدبية وأنا أتأمل مسار كاتب جزائري كبير هو الروائي رشيد بوجدرة، الذي يشبه حظه من الجوائز في هذا الزمن المتآمر حظ تولستوي. نصف قرن من الكتابة أو يزيد، من "التطليق" إلى "أشجار الصبار"، ثلاثون رواية ومجموعات شعرية باللغتين العربية والفرنسية، مسرحيات، قصص، كتب نقدية، يوميات ومراسلات، ترجمت إلى العديد من اللغات وسحبت منها ملايين النسخ، سيناريوهات أفلام من أجود ما قدمته السينما الجزائرية والتي بفضل "وقائع سنوات الجمر" الذي كتبه رشيد بوجدرة حصلت على السعفة الذهبية لمهرجان "كان" السينمائي وهو الفيلم العربي والمغاربي الوحيد الذي حصل حتى الآن على مثل هذا الاعتراف. مكتبة كاملة أنتجها رشيد بوجدرة، بحس الفنان وجنون الكاتب وبصيرة السياسي وقلق المثقف المسكون بالتاريخ، ومع ذلك أتساءل ويتساءل قراء رشيد بوجدرة الموجودون في القارات الخمس، ومع كل سنة وبحلول مواسم الجوائز الفرنسية خاصة، حيث باللغة الفرنسية أبدع ولايزال يبدع من أجمل نصوص الأدب المكتوب بالفرنسية، لماذا لا يذكر مطلقا اسم رشيد بوجدرة في قوائم جوائز "الغونكور" أو "رونودو" أو "فيمينا" أو "ميدي سيس" أو "الفركفونية" أو "الأكاديمية الفرنسية" ونوبل وبوليتزر الأمريكية والبوكر البريطانية وغيرها كثير من الجوائز العالمية المحترمة والتي يتسابق عليها كثير من الكتاب الأفارقة والعرب والجزائريين؟ ومثلكم أتساءل وبعد نصف قرن من إبداع رشيد بوجدرة بلغة فرنسية عالية، لغة فرنسية خاصة به، وهو من الكتاب الذين أنقذوا اللغة الفرنسية من شيخوختها شأنه في ذلك شأن محمد ديب وكاتب ياسين ونورالدين عبة ومحمد خير الدين وإدريس شرايبي وعبد اللطيف اللعبي وجورج شحادة وصالح ستيتيه وغيرهم، أتساءل لماذا لم يدخل رشيد بوجدرة الأكاديمية الفرنسية وهو الكاتب الأكثر هوسا من الناحية الأدبية وباللغة الفرنسية أكثر وأعمق مما قدمه كل من العضوين الجديدين آسيا جبار والأديب اللبناني أمين معلوف الذي التحق بها أخيرا؟ سأحاول أن أقدم قراءتي الخاصة لحالة رشيد بوجدرة الأدبية والثقافية حول إخفاقه في افتكاك واحدة من هذه الجوائز الأدبية العالمية وما هي الأسباب التي تقف وراء حرمان كاتب كبير مثل بوجدرة من هذا التتويج، والذي قد لا يراه البعض كذلك، ولكن أتمنى أن لا يكون على معنى المثل القائل: "كي يعلا العنقود على الذيب يقول حامض": 1- أعتقد أن الروائي المبدع رشيد بوجدرة "لا يدرك فن بيع ما يبدعه"، هذا الفن الذي أصبح قوة كبيرة ووازنة في تحديد مصير الكتاب والكتابة، فكثير من حواراته الصحفية هي أساسا متناقضة مع ما يرمي إليه في نصوصه الإبداعية الكبيرة. 2- إن كثيرا من أحاديث رشيد بوجدرة عن أعماله الروائية أقل بقليل من محتوى هذه الأخيرة ومن أدبيتها العالية، وبالتالي فإن رشيد بوجدرة كاتب غير موفق في ما يتصل بفن التوصيل والاتصال. 3- حتى وإن كانت روايات رشيد بوجدرة تحاور الراهن بكل فورانه (الإرهاب - الذكورية) إلا أننا نشعر به وهو يعلق على أعماله يركز كثيرا عن أفكار الخمسينات التاريخية وكأنما يريد أن يربط كل شيء بهذه المرحلة وهو ما يجعل المستمع إليه يعتقد أن رشيد بوجدرة مبدع يمشي نحو المستقبل من خلال استعمال "المرآة" الارتدادية (le rétroviseur). 4- لم يَخُض رشيد بوجدرة على مدى نصف قرن معارك أدبية أو فلسفية كبيرة استطاعت أن تؤثر بشكل لافت على الحوار الأدبي أو المعرفي في أوروبا أو في العالم العربي وبالتالي تسلط الأضواء عليه كمبدع مؤثر وإشكالي. 5- مع تقدم العمر برشيد بوجدرة، نشعر بنوع من التعب لدى الكاتب أو ما يشبه فقدان الشجاعة الأدبية لدى هذا الكاتب الثائر، الغاضب والمتمرد، إنني أشعر وكأننا بدأنا نفقد رشيد بوجدرة كاتب "التطليق"، تلك الرواية العلامة التي كانت المنعطف الكبير في الآداب المغاربية والإفريقية والعربية المكتوبة بالفرنسية، والتي أوصلت رشيد بوجدرة إلى المقاعد الأولى في سلم كتاب السبعينات العالميين وحررت الرواية المغاريبة من "نجمة" كاتب ياسين، وكانت "التطليق" بحق الرواية المدهشة التي فتحت له المجد الأدبي، لكن الكاتب لم يعرف استثمار هذا المجد كما فعل، بعد ثلاثين سنة، الروائي بوعلام صنصال بروايته "قسم البرابرة". 6- في السنوات الأخيرة أصبحنا نشعر وكأن رشيد بوجدرة فقد كثيرا من حاسته النقدية التي صنعت شخصيته العنيدة، خاصة تجاه السلط السياسية، والشيء الوحيد الذي ظل محتفظا به هو نقده للدين السياسي، وكان من أشجع الكتاب الذين واجهوا حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الوقت الذي كان الروائي المرحوم الطاهر وطار يهادن وبوضوح الإسلاميين. 7- أشعر وكأن مواقف رشيد بوجدرة من الغرب فيها بعض التعميم السياسي وكأني به لا يزال يقرأ الغرب في كثير من المرات بنظارة الخمسينات أو أطروحات حركات التحرر الوطنية التي تجاوزها الزمن. 8- مزاج رشيد بوجدرة تجاه الأشخاص والمؤسسات قائم على تقلبات غير واضحة، فهو يعيش الفصول الخمسة!! في ساعة واحدة، وهو المزاج الذي أفسد عليه كثيرا من عشاق ومحبي أدبه وهذا دون شك يتسرب في التقييمات. 9- أستبعد أن يكون هناك لوبي يهودي ضد كتابات رشيد بوجدرة مع أنه كتب كتابا عن مأساة الفلسطينيين، فهو كان من الأوائل الذين كتبوا عن شخصية اليهودي وبشكل فيه تسامح فلسفي وحضاري ووعي سياسي حاد وذلك ابتداء من رواية "التطليق" واستمر فيما بعد في نصوص روائية أخرى، وكان في ذلك شجاعا وواضحا. 10- موقفه من اللغة الفرنسية يكاد يكون متناقضا فهو بها يكتب وفيها أبدع أجمل نصوصه ثم تجده يهاجمها ليصرح مرات عديدة بأنه سيقاطع الكتابة بها ثم لا يفتأ أن يعود إليها، لقد قال في سنة 1982 حين أصدر رواية "التفكك" بأنها ستكون القطيعة مع تجربته في الكتابة بالفرنسية... وأكثر من ذلك فإن العربية التي انتقل إليها لم تحتضنه ككاتب عالمي بل كلاجئ في خيمة هذه اللغة، وكأنما أصيب بنكبة في اللغة الفرنسية التي صنعت مجده الأدبي. أسباب عشرة لتغييب رشيد بوجدرة، وأسباب أخرى سبقتها كانت أسبابا لتغييب تولستوي، ولكن الأدب العميق القوي، يظل وارفا رغم تعدد الأسباب، فلا تحزن يا صديقي الكاتب المبدع. aminzaoui@yahoo.fr