جبهة التحرير الوطني ليست حزبا سياسيا فقط حسب بعض مناضليها وقادتها، أكثر من ذلك هي جهاز، ورغم أن هذه التسمية ارتبطت بعهد الأحادية عندما كان اسم الحزب يذكر مقرونا بالدولة، فإنها لا تزال مستعملة على أوسع نطاق داخل المقر المركزي للحزب حيث يعتقد الناس أن هذا الحزب وجد ليحكم لا ليعارض.
علاقة الأفلان بالسلطة لا تختلف كثيرا عن علاقته بثورة التحرير، فهي علاقة معقدة وتستند إلى تراكمات تاريخية تمتد على عقود من الزمن، وعندما كان قادة الأفلان يردون على الدعوة إلى إدخال الحزب إلى المتحف بالقول إن مهمة الأفلان لم تكتمل، وهي مهمة تتعلق ببناء الدولة بعد التحرير كما ينص على ذلك بيان أول نوفمبر، وحتى عبد الحميد مهري الذي قاد المحاولة الوحيدة لتحويل الجبهة من جهاز إلى حزب في تسعينيات القرن الماضي يحتج ببيان أول نوفمبر للدفاع عن حق الحزب في حمل شعار الجبهة الذي يطالب الخصوم السياسيون بإخراجه من الساحة السياسية باعتباره رمزا من رموز الشعب الجزائري والتاريخ الوطني لا يجوز احتكاره من قبل فئة لأغراض سياسية. خلال عقود الأحادية كان الحكم يتم باسم جبهة التحرير الوطني، فكل المناصب العليا في الدولة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال شغل مناصب رفيعة في الحزب، وكذلك الأمر بالنسبة لمناصب أقل رفعة، ومثل بقية الدول ذات الحزب الواحد، يصبح الحزب جزءا من المؤسسات الرسمية القائمة التي ينتمي إليها السياسيون والتكنوقراط بصرف النظر عن القناعات الإيديولوجية التي يحملونها، ومن هنا كانت ظاهرة الحساسيات السياسية داخل الأفلان أمرا معروفا في الممارسة السياسية في عهد الأحادية، وهذا ما قصده الأمين العام الحالي عبد العزيز بلخادم عندما قال إن التعددية السياسية في الجزائر كانت موجودة قبل الخامس أكتوبر، وقد يكون التذكير بخطاب للرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد ذا فائدة في هذا المقام، فقد كان الاقتراح الذي تقدم به الرئيس بعد اندلاع أحداث أكتوبر 1988 هو إنشاء منابر سياسية داخل جبهة التحرير الوطني، غير أن تسارع الأحداث فرض خيار التعددية بشكلها الحالي. وليس التنوع الإيديولوجي داخل الحزب الواحد النتيجة الوحيدة لارتباط الحزب بالسلطة، فهناك نتيجة أخرى تبدو أهم وهي التي ستؤثر لاحقا على مسار الحزب، فالممارسات التي سادت في عهد الأحادية رسخت ثقافة سياسية تختزل الدولة في السلطة القائمة، وتجعل الحزب جزءا غير قابل للانفصال عن السلطة، وليس هذا فحسب، فمعتنقو هذه الأفكار تحولوا إلى مراكز قوة داخل الحزب قاوموا كل محاولات تحويله إلى حزب سياسي حقيقي يقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية ويسلم بخسارة الانتخابات ويركن إلى المعارضة عندما يختار الناخبون حزبا آخر لتولي الحكم، وستتولى هذه الفئة مهمة إعادة الحزب إلى عهده السابق عندما تشعر بأنه أصبح يسير في اتجاه مغاير لاتجاه السلطة حتى وإن كانت هذه السلطة تعتمد سياسات مناقضة لمبادئ الأفلان وأهدافه المعلنة، ويقول هؤلاء إنهم صححوا مسار الحزب، ومن هنا جاءت تسمية الحركة التصحيحية التي أصبحت من المصطلحات المستعملة على نطاق واسع في أدبيات الأحزاب السياسية الجزائرية. فكرة التصحيح تبدو مستعارة من التصحيح الثوري الذي بموجبه تمت الإطاحة بالرئيس الأسبق أحمد بن بلة عن طريق انقلاب عسكري قاده وزير الدفاع آنذاك هواري بومدين، وأول حركة تصحيحية علنية عرفها الأفلان في عهد التعددية هي ما عرف بالمؤامرة العلمية التي أزاحت عبد الحميد مهري من منصب الأمين العام سنة 1995، وبالنسبة لعبد القادر حجار ورفاقه الذين دبروا العملية ونفذوها، فإن ما حدث هو تصحيح لمسار الحزب الذي انحرف، ولم يكن الانحراف سوى ابتعاد الأفلان عن السلطة وتوجهه إلى المعارضة الصريحة ورفضه للطريقة التي أديرت بها الأزمة السياسية والأمنية التي عصفت بالبلاد في تلك السنوات، وعندما جاء بوعلام بن حمودة إلى منصب الأمين العام خلفا لمهري لم يحدث أي تغير في خطاب الأفلان بل كل ما تغير هو علاقته بالسلطة، ونفس الحادثة تكررت مع الحركة التصحيحية التي قادها بلخادم للإطاحة بعلي بن فليس في سنة 2004، مع فارق مهم وهو أن بن فليس كان يريد أن يصل إلى السلطة عن طريق الحزب وبالتحالف مع أجنحة في السلطة، وهو ما يعني أن المعركة داخل الحزب كانت انعكاسا للمعركة بين أجنحة في السلطة، وكان الفوز الكاسح للرئيس بوتفليقة في انتخابات الرئاسة هو الذي حسم المعركة بشكل نهائي. الإشارة إلى أن كثيرا ممن يتزعمون التمرد على قيادة الحزب يكررون فعلهم مع أكثر من أمين عام تساعد على رؤية الصورة بوضوح أكبر، فالأمر يتجاوز بكل تأكيد الصراعات الشخصية ليرتبط بمراكز القوى السياسية خارج الحزب، وليس خافيا أن عمليات التصحيح في الأفلان كانت في كل الحالات تحسم لصالح الطرف المدعوم من قبل السلطة، وهو ما يدفع إلى الاستنتاج الآخر بأن هناك في السلطة أيضا من يعتقد أن الأفلان يجب أن يكون أداة للحكم لا للمعارضة، وأنه وسيلة لا تزال مقبولة للتجنيد وكسب دعم المواطنين للبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسلطة.