يحن العصاميون اليوم كثيرا للوجه الأبيض ل«مزغنة»، التي كان يتحاكى بجمالها كبار الشعراء وخلدوا محاسنها في روائع موسيقية لا تزال تحكي حتى اليوم عن همة نسائها ورجالها الذين يقدسون عيشة الحواضر، التي لم يلخصوها في الهندام ولا المأكل والمشرب بل في كل ضروب الحياة وأوجهها والتي تتصدرها النظافة داخل البيوت وخارجها، فكانت بحق عاصمة حتى في النظافة والتحلي بالسلوكي الحضاري والمدني الذي توجها لأن تكون بيضاء..وجه تكاد تجزم وأنت تتجول اليوم بشوارع العاصمة وطرقاتها حتى الراقية منها، أنها ضرب من الأسطورة ونسج من الخيال، فالأوساخ تصنع اليوم ديكور المدينة وبطريقة لا يمكن أبدا أن تتصورها، فلا تسمية يمكن أن تختزل ما تعيشه هذه المدينة التي غزتها النفايات، إلا عاصمة الأوساخ وبامتياز ورغم تجنيد مؤسسة «نات كوم» لكل إمكانياتها، لترقيع ما يمكن ترقيعه، إلا أن إهمال المواطن واستهتاره ولا مبالاته، يبقى حجر عثرة، تجهض كل المبادرات لتستسلم المدينة التي راحت تغط في جو كئيب لقدرها، الذي صنعه مواطن لا يهمه إن عاش وسط النفايات، روائحها الكريهة تملا كل المكان. لا شيء يأسر نظرك وأنت تتجول بشوارع المدينة، حتى بأرقى الأحياء وأكبرها والتي كانت حتى وقت قريب تجافي كل أنواع الأوساخ، إلا أكوام «الزبالة» التي احتلت المكان وحولته إلى ما يشبه المفرغة العمومية، بعد أن عجزت حتى حاويات القمامة، التي نصبتها مصالح «نات كوم» في احتواء الوضع، حتى يخيل للحظة واحدة، أن أعوان النظافة غائبون تماما وأن المدينة لم تنظف منذ أسابيع، حتى أن الأوساخ تكاد تسد مداخل العمارات وزحفت في بعض الأحيان حتى على الطريق العام، والأدهى أن المنظر يبدأ مع الساعات الأولى للصباح حتى المساء، أين يبلغ ذروته، لكن الواقع أن أعوان النظافة مجندون يوميا وحتى يتم تجاوز الأوضاع الراهنة عمدت مصالح «نات كوم» حتى إلى زيادة عددهم وتدعيمهم بشاحنات إضافية، إلا أن الوضع ما زال يراوح مكانه حتى اليوم، بسبب المواطن الذي يجافي بسلوكياته اللامسؤولة، ما تقتضيه شروط الحياة الكريمة، فهو المتسبب الأول في ما يعيشه من أوضاع بيئية تهدد صحته وصحة أطفاله والأدهى أن المدينة استسلمت وأصبحت الأوساخ جزء من ديكورها اليومي، الذي ألفته وتعودت عليه، لم يعد المواطن يتذمر آو يحتج، خاصة بعد أن اقتنع الغالبية ممن لا زالوا يتمسكون بالنظافة أن المواطن، الذي يشتكي من الداء ويبحث عن دواء هو مكمن الداء. أهل للنظافة .. مع وقف التنفيذ هندام أنيق، ولباس من أغلى الماركات، يشع بالنظافة هو ما يميز المدينة التي انصهرت فيها كل المشارب والمنابت بكل ما يميزها من عادات وتقاليد، فهي العاصمة وأم الجميع، وأنت تتأملهم تستوقفك الكثير من الأسئلة لكن يبقى أهمها على الإطلاق، كيف يمكن لمواطنين، يولون كل هذه العناية، لنظافة هندامهم وأجسامهم وحتى بيوتهم من الداخل، التي يحرصون على تنظيفها بأجود أنواع المنظفات ورشها بالعطور المنزلية، التي تنعش أجواءها وحتى تزيينها بالنباتات الخضراء، كما يحرصون على تجميع مخلفات مطبخهم وأشغالهم المنزلية في أكياس قمامة خاصة ووضعها في حاويات حتى لا يبقى لها أي أثر ولا تعكر أي رائحة صفوهم، فشعارهم النظافة ثم النظافة ثم النظافة، غير أن المؤسف أنهم لا يولون أدنى اهتمام أو عناية، لما وراء باب شققهم، فهي مناطق ما عادت نظافتها تهم الكثيرين، تماما كما أصبحت لا تهمهم، نظافة مدخل العمارة أو الحي أو أماكن العمل والفضاءات العامة الأخرى، فهم أهل نظافة، لكن مع وقف التنفيذ وحتى المواطنون الذين كانوا يحرصون على نظافة مداخل العمارات استسلموا للأمر الواقع، فهم ينظفون والباقي يلوثون وهناك حتى من يتعمد ذلك، كما تؤكد السيدة «سامية» المقيمة بأحد عمارات وسط العاصمة ووجدناها منهمكة في التنظيف وهي تصرخ بعبارات خليط بين العربية والفرنسية، لا تتوقف طوال اليوم عن تنظيف سلالم العمارة وتنبيه السكان إلى ضرورة رمى القمامة بمكانها المناسب وفي الوقت المناسب، لكن لا حياة لمن تنادي حتى أن البعض ممن توجه له اللوم في بعض الأحيان، أصبح يتعمد رمي الفضلات حتى يستفزها وإن تكلمت، فالكل اتفق على عبارة واحدة ««أنت فارغة شغل أما نحن فلا وقت لدينا لمسايرتك»، حتى المنظفة التي كانت تتولى تنظيف المكان رحلت منذ أشهر، بعد أن أصبح البعض يتماطل في دفع حقها الذي لا يزيد عن 200 دينار والأدهى أنه حتى من يدفع لها يجعلها تحس وكأنها تشحت منه، وإذ ما طلبت من نساء العمارة مساعدتها، فإن الكثيرات يرفضن بدعوى أن أزواجهن لا يسمحن لهن بالخروج، حتى أمام باب الشقة أو مبنى العمارة، بشارع «خليفة بوخالفة» تقف مشدوها أمام الأوساخ التي ملأت المكان وحتى الروائح التي تحبس أنفاسك، حتى على بعد أمتار..أوساخ راحت تزاحم السكان حتى مدخل عمارتهم، وجدنا إحدى الشيوخ يحاول تنظيف، المكان الذي استقطب القطط، التي أغرتها روائح المأكولات فراحت، تبحث عن ما يسد جوعها، يتحسر كثيرا على أيام العاصمة أيام زمان، فكيف تتحول اليوم إلى مستنقع أوساخ وكيف يسمح جيرانه لأنفسهم المرور على هذه النفايات، خاصة وأنها مرمية بعيدا عن المكن المخصص لها ولا يحركهم ضميرهم لإماطة الأذى من الطريق، بل يمرون عليها صباحا ومساء دون أن يحركوا ساكنا، وعن سبب ما يعيشه حيه وحتى باقي الأحياء، فقد أكد أن غياب ثقافة رمي الأوساخ وراء ما يحدث، فما يهم الجميع أن يخرجها من البيت ولا يهمه إن رماها حتى أمام المدخل، محمّلا المسؤولية للمواطن الذي لا يحترم مواعيد مرور أعوان النظافة. وإن كان هذا حال الأحياء الراقية التي عصفت بها النفايات ولم تستثن إلا القليل جدا من شرورها، فالأحياء الشعبية والمناطق الأخرى، أصبحت النفايات جزء من واقعها المعيش، الذي لم تعد تتذمر منه إطلاقا ولا حتى من الروائح الكريهة، التي تعل الجسد والأكثر أن الجرذان والفئران وحتى القطط وجدوا ضالتهم بها، والأكثر أن البعوض و«الناموس» لم يعد حكرا على فصل دون آخر، فحتى في عز الشتاء أصبح يقض مضجع النائمين خاصة وأن أقبية العمارات، أصبحت توفر الأجواء المناسبة لتكاثر الحشرات الضارة، وتكفى زيارة خاطفة لأحد الأحياء الشعبية، ك «باش جراح» أو «واد أوشايح»، لتكتشف هول الكارثة التي أصبح معها كل شيء موجود أوساخ، روائح مقرفة، قطط مشردة، ناموس يمتص الدماء، فقط بسبب انعدام حس النظافة عند الكثيرين، الذين انتقلت عدواهم حتى إلى من كانوا ينادون بضرورة التنظيف يلزمون جيرانهم بذلك. انعدام حس النظافة أدى إلى تفاقم الوضع لماذا تغيرت طباع المواطن ولماذا أصبح لا يهتم إلا بنظافة محيطه الضيق جدا من بيت وكفى؟، فكما أكد لنا العديد من المواطنيين، الذين دردشنا معهم، فإن أغلب هؤلاء ممن لا يهتمون بنظافة المحيط هم من غير العاصميين أي الوافدين عليها من المناطق النائية والذين بدل أن تعلمهم العاصمة أسلوب العيش بالمدن الكبرى، كبلوها بعاداتهم التي ندفع ثمنها كلنا، فمما لا خلاف عليه أن ما يحدث ناجم بالأساس عن غياب الحس بالمسؤولية، فرمي الأوساخ في كل مكان دون أي رادع، حتى الشباب المتعلم والمثقف جرفه السيل، فإذ ما رايته يعجبك منظره من لباس وعناية فائقة بالمظهر، لكن بمجرد أن تلاحظ تصرفاته اللاحضارية تبقى مندهشا، والأكثر خطورة أنه حتى الطرقات وفي غياب التربية أصبح يتعذر على الإنسان حتى المشي فيها، فالبصاق يملأ المكان و«الشمة» تزيد من غثيان المواطن، لتحس للحظة أنه يستحيل أن تكون بالعاصمة. حكايات قد تبدوا طريفة لكنها تحكي واقعا مر أصبحت تصنعه بعض سلوكيات المواطنين، الذين يفتقدون لأدنى حس بالمسؤولية، إذ يعمدون أحيانا وبكل برودة إلى رمي مياه التنظيف وفي بعض المرات حتى القاذورات من النوافذ في أي وقت، ما يجعلها تسقط على رؤوس المارة، هذا ما أكده لنا أحد الضحايا «جمال» والذي فوجئ صباحا وهو طريقه إلى العمل بشلال من المياه القذرة لدى مروره تحت أحد العمارات بباب الوادي ولما احتج خاصة وأنه تبلل تماما ويومه ضاع، تأسفت السيدة ببرودة وتركته ودخلت، أما «حسان» فالزجاج الأمامي لسيارته تعرض للكسر نتيجة رمي أحد سكان العمارة لقطعة معدنية من إحدى شرفات العمارات ولما حاول أن يعثر على المتسبب لم يجد له أي أثر، فتصور لو أن هذه القطعة نزلت على رأسه. رغم المخططات الاستثنائية..«نات كوم» تفشل والأعوان متذمرون لم تصنع الأسعار وحدها الحدث في الأيام المنصرمة بالعاصمة، فالأوساخ التي عرفت ذروتها أخذت من الحدث نصيب الأسد واستقطبت اهتمام عديد من وسائل الإعلام، ما دفع بمصالح «نات كوم» التي حمّلها المواطن المسؤولية إلى تكثيف العمل حتى ساعات متأخرة من الليل، فضلا عن مضاعفة عدد الأعوان وحتى عدد الشاحنات، إلا أن الوضع بقي على حاله، بسبب المواطن الذي لا يحترم بتاتا أوقات رمي الأوساخ، فبعد تحميل أعوان النظافة للقمامة ومغادرتهم للمكان بدقائق، تملأ الأوساخ المكان من جديد، رغم أن الكثير من الأعوان اضطروا، إلى الكتابة بمحاذاة أماكن رمي الأوساخ بالبنط العريض وباللون الأحمر، «ممنوع رمي الأوساخ في النهار»، فكما أكد لنا أحد أعوان النظافة لمدينة الجزائر، أنه يشعر بقلق شديد، بعد تنظيفه هو وزملائه لحاويات النفايات ويجدون غير بعيد عنها أكياس القمامة مبعثرة هنا وهناك، زيادة على ذلك، فالكثير من المواطنين لا يلتزمون لا بوقت جمع القمامة ولا بمكان رميها فكل الأماكن ما عدى بيوتهم صالحة للرمي، ليضيف عون نظافة آخر، أنه ينزعج كثيرا من بعض المواطنين المستهترين، فما إن ننظف مكانا إلا وعاود بعض المواطنين رمي الأكياس، الأوراق، قشور فواكه مواد بلاستيكية، عشوائيا رغم توفر سلات المهملات، بشكل كافي وأحيانا حتى أمام أعيننا، دون أدنى احترام أو شعور بالمسؤولية. حتى القصبة لم تسلم من هؤلاء فكما يؤكد «عمي حميد» إن بعض سكان القصبة، لا يراعون خصوصية المنطقة وصعوبة تنظيفها بسبب نوعية البناء، حيث يرمون النفايات، حتى في الزوايا الضيقة معينة والأزقة. أمراض وعلل..والفاتورة يدفعها المواطن وحده نفايات تشوه جمال المدينة وتزعج المارة بروائحها الكريهة والمقرفة ومنها أيضا يمكن أن تأخذ فكرة عن شخصية السكان، فالمحيط مرآتهم، أما من الناحية الصحية والأخطار التي من الممكن أن تسببها، فكما يؤكد لنا أحد الأطباء، فهذه المناطق هي من أنسب الأماكن لتكاثر أنواع عديدة من البكتيريا والفيروسات والطفيليات، لتوفر الرطوبة، خاصة مع تكدسها لفترة طويلة، هذه الفيروسات تنقل للمواطنين، الذين يعيشون بالقرب من النفايات خاصة الأطفال الذين يلعبون في هذه الأماكن القذرة والخطرة في ظل غياب الرقابة، مؤكدا أن العديد من الحالات تستقبلها المستشفيات الجزائرية وأهم هذه الأمراض، التي تسببها الأوساخ، التيفوئيد والكوليرا، بالإضافة إلى عديد الأمراض الجلدية المعدية، كالحساسية، زيادة على انتشار الحشرات الضارة والخطرة الناقلة للأمراض، خاصة البعوض، الذي أصبح واسع الانتشار حتى شتاء. نتائج وخيمة قد تسببها هذه النفايات،التي يمر عليه المواطن يوميا، دون أن يبالي بها ولما يمكن أن ينجر عنها، فهي لا تستفزهم مطلقا لا لصيانة جمالية مدينتهم، التي تبقى وجه الجزائر قاطبة، خاصة وأنها العاصمة والأهم حماية صحتهم من الأمراض التي قد تفترسهم، حماية لن تتأتى إلا بالتوعية وتنبيه المواطن بضرورة التحلي بالسلوك الحضاري وتلقينه لأطفاله، فمسؤولية النظافة ليست من اختصاص البلدية وحدها أو مصالح «نات كوم» بل يتقاسمها الجميع والرهان الأكبر، كما أثبت الواقع مبني على المواطن.