(تابع).. وما إن همت بالنهوض ومغادرة مكانها والعودة إلى البيت حتى رأت ابن عمتها يهم بالخروج متجها إلى مسجد القرية لأول مرة فتكاثر الفرح في نفسها وراحت تتابع خطواته وأسرعت في الدخول إلى البيت وأخبرت والديها الذين إستبشروا خيرا.. وهم يعلمان أن بيوت الله وحدها من يستطيع أن يعيد للمكروب فرحه.... وللضال دربه وللشريد مأواه .. وحدها من تستطيع أن ترفع هامات المنكسرين .. وتعيد للأشقياء سعادتهم .. فكل من اتبع هدى الله فلن يضل ولن يشقى أبدا.. أصبح اسعيد لا يتخلف عن صلاة الجماعة بالمسجد أبدا .. وبين صلاة المغرب والعشاء يحمل المصحف ويرتل القرآن بتمعن وتدبر .. وتذرف عيناه كثيرا من دموع الخشوع .. وكان إمام المسجد ( شيخ الجامع كما يدعوه أهل القرية ) يحيطه بالعناية ولا يبخل عليه بالمعاملة الحسنة التي علمنا إياها ديننا الحنيف وذات مرة كان أسعيد يرتل الآيات كعادته على مسمع من الإمام ولما وصل قوله تعالى :"وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا" فاضت عيناه دموعا.. وتصبب جبينه عرقا وارتعدت فريسته وسقط مغشيا عليه في وضعية ساجد مطيل فأسرع إليه الإمام والمصحف لازال في يمناه مشدودا فأعاده إلى بيت الشيخ الشريف الذي كان قد أوصاه قبل اليوم به خيرا .. وقضى سعيد ليلته مختصرا .. والأنين ينبعث من صدره .. ومن لحظة إلى أخرى يهذي بكلمات أبكت عائلة الشيخ الشريف : أمي ..أمي..لماذا...لماذا.. غدارون.. جبناء.. لماذا قتلتم أمي ؟!! ثم يتوقف عن صراخه.. وتنطلق قوافل تنهيداته التي كانت تحزن أم السعد وزوجها أما مبروكة فكانت هذه التنهيدات كأنها تصدر عنها .. ولكنها تكتم سر الخنجر الذي مازال وسيظل نائما في خصرها الضيق .. ويطول الليل .. ويعمر الأرق بالجفون .. ويمكر الأسى بالقلوب ولابد من طلوع الفجر .. ويعود أسعيد إلى وعيه.. يتجه صوب المسجد يستعيد أمنه وأمانه .. يرتل بعضا من القرآن .. يدعوا الله كثيرا وإمام المسجد بالجوار دائما كالأخ والصديق ساعة الشدة والضيق.. إذ طلب من أسعيد يوما بعد صلاة العصر أن يخرج معه في نزهة إلى جوار تلك الطبيعة الساحرة .. يتبادلان ضفاف الحديث .. ويعرجان على آفاق الدعاية حينا ويلجان عوالم التأمل والتدبر في مخلوقات الله حينا آخر ..فبدأ صدر أسعيد يتسع .. وقلبه يمتلأ إيمانا وثقة بالله .. وتعلم كيف يرضى بالقدر خيره وشره وكيف يجب عليه أن يتحمل نوائب الدهر بصمود وتحد.. ومتى يجب أن يتذكر الماضي ومتى يجب أن يتناساه .. وعرف الغاية من خلقنا .. والحكمة من ابتلائنا بما نكره.. وان المصائب محك الرجال .. وأنه كل شيء بقضاء .. ما بأيدينا نختار حياتنا .. وإلا نحزن على ما فاتنا ولا نفرح ..مفرطين بما حققناه * * * * في هذه الأثناء كانت مدينة سطيف تزداد عطشا .. فلا تجد شرابا غير الوحشة والخراب .. شوارع حزينة تتململ ..أحياء كبيرة تتأسى .. حدائق شريدة حركة غريبة .. جمال مرتعش .. وحده مقام الشهيد ظل يعانق الأعالي في شموخه ووحده "المسجد الجامع العتيق" مازال يبعث الأمل في الأنفس اليائسة .. ويبث في المدينة روحا وحياة أما الأصدقاء الستة فكانوا كلما دخلوا المدينة ..دخلوها من أبواب متفرقة وخرجوا منها منكسرين .. رحل الذين أحبوهم من هنا .. أمس كانوا معا لكنهم انتشروا في ربوع الأرض مكرهين مرغمين .. عبد السلام كلما نظر إلى عين الفوارة تذكر " ذا الشيب الصغير " وأبكاه فقد له .. متناهية إلى مسامعه مقاطع من شعره الحزين .. توفيق كلما رأى الأولاد يمشون تائهين في الشوارع تذكر درس المدينة الذي كان يلقنه لتلاميذه في "الصف السادس" ويتذكر قصة "احتراق المدينة " للروائي عز الدين جلاوجي فيعود ليقرأها مرات مرات .. -رشيد ماعاد المتحف المحاذي لدار الثقافة يستهويه منذ أن تغيرت أحوال المدينة وغدت أسطوريه الملمح غرائبية الأحداث .. -قيس .. مازالت جراح وفاة أمه لم تبرأ. ولا يريد لها أن تبرأ .. لأنه حين تبرأ الجراح فمعناه أنه نسي آمه .. ولكنه لا يريد أن ينسى أمه ..لذلك لا يريد لجراحه أن تبرأ .. تكررت المجاهيل في معادلات أيامه ..انسحبت المعاليم منها .. التكرار صار قيسا .. في لحظة ما ..!! أما عبد القادر فمازال يخط الجدران بريشته السحرية يوقع عليها كعادته متذكرا ذا الشيب الصغير الذي تعلم على يديه الخط ورحل دون أن يودعه تاركا الفرصة لحرقة الليالي كي تخط على قلبه المرهف ما تريد من كلمات و حروق ... أما أم ذي الشيب الصغير فمازالت تتجرع أحزانها .. وتخرج كل صباح إلى الربوة التي كانت مجلسا لابنها تنتظر عودته .في شوق صار لا يتسع له صدرها .. ومازال سيل أدمعها الملتهب سائرا متتبعا.. لآثار عزيز..مر يوم من هنا.."قرية رمادة " تقهقه من حين لآخر وقد انتابتها الهيستيريا وضاجعها الجنون .. وحدها اللافتات تشهد أن ذا الشيب الصغير " كان يوما هنا .. أوّلُ الإشراق .. كثيرة هي مسارات حياتنا التي وجهتها الصدفة.. ورب صدفة تسمو بك إلى قمم ما تخيلت وحلمت يوما انك بالغها .. ورب صدفة تنزل بك إلى الدرك الأسفل من الضنى والانكسار .. ورب نظرة عفوية قد تسكب الكون كله في عينيك .. ورب نظرة غير مقصودة قد تهرب الكون كله من سجن مآقيك ورب كلمة قد تعيد إليك من فرقتك عنه سبة بحار .. ورب كلمة قد تسرق منك من استخلصته لنفسك أنيسا ولقلبك حبيبا ولروحك نورا ... ..ورب يوم خرج فيه اسعيد متجها من قريته إلى مدينة بني ورثيلان كان أسعد من أيام حالكة عاشها منكسرا مقروحا ..إذ استأذن خاله " الشيخ الشريف " . في الخروج صباحا والذهاب متسوقا إلى مدينة بني ورثيلان لأول مرة وقد استعاد كثيرا من عافيته وبعضا من ذاكرته المفقودة وهاهو أسعيد يجوب شوارع المدينة بعد ان خرج من السوق الأسبوعية نشطا وقد تفتحت نفسه على العالم أكثر .. كان يملأ عينيه بجمال مدينة بدت كالدرة الثمينة في كف عذراء ليلة زفافها .. وعادت إلى ذاكرته المهربة ذكرى الشيخ الجليل " الفضيل الورثيلاني " وما قدمه للوطن والأمة كلها من عطاء متميز وما عاناه في حياته من أجل قضية تبناها وأحلام أراد تحقيقها فكوته الدروب التي سلكها للوصول إليها .. تذكر " الفضيل الورثيلاني " الذي بقي مسجونا على ظهر سفينة طيلة ثلاثة أشهر.. تذكر كيف انه كان كالشجرة المباركة .. جذورها الأمازيغية تزداد عمقا في أتربة الأصالة .. سيقانها العربية المتينة وأفنانها الإسلامية المتوغلة في أعماق الآفاق .. وثمارها الخضراء والبيضاء والحمراء اللذيذة .. الشهية .. تذكر كل هذا في لحظات قصيرة ففرح لأن ذاكرته بدأت تتسع وحزن لأن نسل " الفضيل الورثيلاني " تناسى أمجاد ماضيه .. ولما ملأ أسعيد عينيه بسحر المدينة وشحن نفسه بإرادة جسدها تضاريس المنطقة عزم على العودة إلى القرية ثانية .. وبقي ينتظر مقدم الحافلة المتجهة إليها ..وإذا بسيارة بيضاء اللون تتوقف أمامه وبادره صاحبها بطلب الركوب .. فركب اسعيد وسلم على صاحبها الذي أدرك من لهجته أنه ليس من أبناء المنطقة .. فكلمه بالعربية وعرف وجهته .. وبقى الاثنان صامتين .. كانت عيون اسعيد تخترق الزجاج الأمامي للسيارة متأملة الطبيعة الساحرة .. وصارت عيون صاحب السيارة تتفقد من حين لآخر وجه هذا الغريب عن المنطقة .. وكانت السيارة تقل شخصين طييبين صامتين.. وحدها رنات هاتف السائق كانت تمزق وشاح هذا الصمت فيرد على من يتصل به بلهجة فيها الكثير من الأدب والرزانة..فبدا وكأنه رجل أعمال له مشاغل واهتمامات كثيرة ...هكذا كان اسعيد يظن, ويرن الهاتف مرة أخرى فيرد عليه السائق بالعربية قائلا : -يومك سعيد يا أستاذ .. -......................... -نعم .. -.........؟ -للأسف يا أستاذ.. كان اجتماعنا مقررا اليوم بمديرية التربية كي يفصل في بعض الأمور التربوية .. لكن ما آلت إليه أحوال مدينة سطيف قد أجل كل شيء ..لذلك ستتأجل كل الامتحانات إلى إشعار لا حق ؟!!!