إستراتيجية الإهمال التي يتبعها المنمذج تساعد على الإدراك والمعرفة والفهم لأن النموذج لا يصلح للنظر مثل، وللنظر في وضعية من خلال وضعية أخرى بل يصلح لإغفال عدد كبير من ملامح الوضعية لتوجيه النظر لواحدة منها أو لعدد صغير من بينها فقط . إن أردنا أن نرى شيئا ما بوضوح في هذه المظاهر المعقدة للواقع فينبغي أن نهمل أشياء كثيرة أخرى والنموذج هو التعبير عن مثل تلك العملية المراقبة للإهمال؛ لا تنظروا إلى ذاك بل انظروا إلى هذا فقط وستكون الأشياء واضحة أكثر، علاوة على ذلك يساهم النموذج في تقدم المعرفة العلمية فهو يسهل عملية الملاحظة المجهزة والصياغة الافتراضية التي تكاد تقترب من الخيال العلمي ويوفر الأرضية من أجل امتحان هذه الفرضيات لاسيما وأن النموذج يتيح مجابهة التوقعات النظرية بالمعطيات التجريبية، وفي هذا السياق تقول «نوال ميلود» "في أحسن الظروف يصلح النموذج في العلوم المتطورة لتثبيت القوانين على موضوع مهيكل بشكل جيد وذلك قصد تمكين عمليتي التصور والتجريب"، لما كان النموذج في رتبته النظرية مرتبطا بالخيال العلمي ومغرما ببناء عالم افتراضي فإن أهم ما يمكن أن يؤديه هو التوقع والاستشراف والتخطيط والبرمجة للمستقبل خاصة إذا كان ينتمي إلى منطق الاختراع أكثر من انتمائه إلى منطق التبرير، وفي هذا السياق يقول «لودفيغ باسكال» "النماذج بناء خيالي يكون هدفه الوحيد تنظيم معطيات بقصد التوصل إلى بعض التوقعات"، إذا كان «هيدجر» يقر بأن "العلم لا يفكر" وأن التقنية هي أخر تمظهر تطبيقي للميتافيزيقا فإن استفراد النمذجة بالنشاط العلمي المخبري في السنوات الأخيرة يأتي ليحل هذا الإشكال ويبين أن رسالة العلم تندرج هي بدورها ضمن أفق بحثي تفكيري وأن التكنولوجيا هي تعبير عن براعة عقلية ومرونة ذهنية فائقة، عبر عن ذلك «بول فاليري» بتأكيده "إننا لا نفكر إلا في النماذج"، أما «كارناب» فقال"إن النماذج البصرية يمكن أن تفيد إلى حد كبير، إن العقل يعمل بالحدس وغالبا ما يكون مفيدا أن يفكر رجل العلم بمساعدة الصور البصرية"، زد على ذلك يمكن للنماذج من جهة كونها أنساق رمزية أن تساعد الدماغ البشري على التأقلم مع وسط معقد معين وتحويلها إلى تمثلات داخلية ومسارات بسيطة وبنى تطورية وبرامج رقمية قابلة للتنفيذ تستطيع فيما بعد أن تتحكم فيها وتؤثر عليها ومراقبتها وتوجيهها بواسطة الحاسوب المسجلة في ذاكرته، يقول «هربرت سيمون» "يمكن لهذه الرموز أن تندمج في هذا الوسط بشيء من الإحكام والدقة وبالتالي من البرهنة عليه"، كما أضاف أيضا "إن الحواسيب قد نقلت نظم العلامات من الجنة الأفلاطونية للمثل إلى عالم خبري للسيرورات الواقعية". ابستيموولجيا النمذجة هي فينومينولوجيا العلم لأنها لا تقتصر على التفسير والوصف والاستقراء والاستنباط والتحليل والتركيب وسائر المناهج الوضعية، بل تسارع أيضا إلى إتباع مسالك التأويل والفهم من أجل الظفر بمعنى الواقع خاصة وأن "النموذج صورة للعالم" كما بين «فتغنشتاين» و"النمذجة تمثل للعالم" كما نجد ذلك عند «برونو جاروسون» الذي صرح "إننا لا نرى العالم وإنما نتمثله"، وتمثل العالم يعطي للفرد دلالة الواقع، وكأنه يلمح هنا إلى الدور المركزي الذي تتبوأه الذات في إضفاء معنى على الواقع الذي تتصوره وصياغة نظرية تتأوله وتفهمه وذلك بتعقل الواقعة وتبسيط تعقدها وتيسير تفسيرها وقد عبر عن ذلك فيلسوف النمذجة «جون لويس لومانيه» بتصريحه المثير للجدل والذي أحدث انشقاقا شبه معلن بين ثقافتين هما النمذجة التحليلية التي تنظر إلى المعرفة كموضوع معطي ويكتشف والنمذجة النسقية التي تنظر إلى المعرفة كمشروع يبنى ويخترع "النمذجة للفهم هكذا يمكننا الحرص على فهم تجارب علاقتنا بالعالم من خلال تمثيلها بأنساق رمزية اصطناعية"، ليس هناك تطابق بين النموذج والواقع بل هناك تقريب وتمثيل مبسط كما أن "النمذجة ليست الصورة الرياضية للطبيعة بل مسبار مفهومي نسبره في الواقع" لأن أي اكتشاف جديد وأية صياغة لنظرية ثورية تسعى إلى إنتاج تأويل مختلف للطبيعة يتخذ في البداية فكرة تخطر بذهن رجل علم منعزل في مخبره أو جماعة علمية تعودت على مراكمة المعارف، في هذا الصدد يقول «لومانييه» "إن مشروع العلم بما هو معرفة الحكمة هو هذه القدرة العجيبة على إنتاج المعنى"، إن تشكل النموذج لا يتم إلا بالأخذ بعين الاعتبار وجود 3 أبعاد: - يشتمل البعد التركيبي على خاصية البناء النظري لنموذج معين ويركز على الشكل ويتعلق بالبناء الأكسيومي من خلال التركيز على الهيكلة البنيوية ومنظومة الأوليات والصياغة الصورية وذلك باختزال معرفة علمية معينة إلى عدد بسيط من الحدود والقضايا. - كما يتحدد النموذج من جهته التركيبية من ثلاث عناصر هي الثوابت والمتغيرات والثابتات ويتصف بثلاث خصائص هي الكلية والديناميكية والانتظام. - يشتمل البعد الدلالي على مضامين ومحتوى القواعد التي ترتكز عليها النمذجة ويتعلق بإنتاج النظرية القادرة على تفسير الواقع وتأويل معطياته واكتشاف القانون الملائم للظواهر واستخراج المعنى حتى في ظل إنشاء واقع افتراضي. ويحرص على إيجاد علاقة ملائمة بين الرموز والتصاميم مع المعطيات التجريبية والوقائع الحسية ويقوم بالمعالجات التالية؛ الاستنباط والاستقراء والتوقع والوصف والتفكير ويخضع هذه العمليات إلى جملة من المعايير هي البساطة والمرونة والخصوبة وقابلية الدحض والشمولية. - البعد التداولي ويتعلق بالعلاقة بين النظري والتجريبي ويطرح الجانب الأداتي والنجاعة والمنفعة كأهداف يسعى إلى تحقيقها النموذج، ويتحرك البعد التداولي ضمن مسار إدماجي للمعرفة في إطار الممارسة وذلك لوجود علاقة عضوية بين جهة الحقيقة وجهة الفعل لاسيما وأننا أمام فعل حقيقي وحقيقة فاعلة وكما يقال "أن الحقيقة ذاتها لا تعدو أن تكون سوى الفعل عينه". ما من شك أن نشأة النمذجة كنظرية من بين النظريات الابستيمولوجية التي تهتم بالمعارف العلمية هي تتويج لهذا الفيض المعرفي الكبير الذي حصل في نهاية القرن العشرين ولكنها أيضا لم تبق مكتوفة الأيدي بل ساهمت هي أيضا في تنظيم المعارف القائمة ودفع عجلة التقدم العلمي نحو الأمام بما وفرته من بناءات خيالية وما تصورته من واقع افتراضي وما تنبأت به من حدوسات وتخمينات أثبت العلماء في ما بعد نجاعتها عن طريق التحقق الميداني والتثبت التجريبي. حول هذا الموضوع يقول «ريني توم» "إن النماذج الأكثر غرابة والأقل جودة من ناحية البناء تعطي أفضل النتائج"، غير أن فريق آخر من مؤرخي العلم يرى عكس ذلك ويعتبر أن غزو النمذجة لأروقة العلوم وظواهر الطبيعة مصيبة حلت بمبدأ الموضوعية لما فيه من انتصار للذاتية وانتقاص من قيمة الحقيقة التي وقع تعويضها بالمعنى ورهنت المعرفة العلمية من جديد إلى بنوك الاقتصاد والسياسة والفلسفة، وبالتالي تعالت الأصوات من أجل وضع شروط لصلاحية النماذج والقيام بعملية نقد جذرية للنمذجة كإجراء منهجي شمولي وكلي يجعل كل شيء مقبول ومحتمل على حد عبارة «بول فايرباند» صاحب دعوة "ضد المنهج" و"وداعا للعقل" ومؤسس الفوضوية في الحيز الابستيمولوجي المعروف بالصرامة والدقة. النمذجة بين الإيديولوجية والاقتصاد شبهات ومخاوف النمذجة ليست طريقة علمية بل هي طريقة تستعمل العلم، مما يعني أنها ليست من شأن العلماء بل هي من شأن الخبراء والشركات العابرة للقارات، تمتلك النمذجة قيمة مضافة تتمثل في الوظائف المتنوعة التي تؤديها في علاقة بتقدم المعرفة العلمية اليوم ،فهي تسمح بالتفاعل بين الاختصاصات والتواصل بين أعضاء الجماعة العلمية الواحدة والجماعات والأجيال وتؤسس لديمقراطية المعرفة عندما تعمل على بث المعلومة بشكل كوني وتعمل على تبسيطها لتتلاءم مع مختلف الذهنيات وعندما تخاطب الناس على قدر عقولهم وتراعي ظروفهم النفسية والاجتماعية وقبلياتهم المعرفية والسياقات الاجتماعية التي تتحرك فيها. هذه المنزلة الاقتصادية الموجدة للنجاعة والمردودية والفاعلية يبرزها «روني توم» عندما أكد أن الاستنجاد بالنماذج يأتي للتغلب على التكلفة الباهضة للتجريب بقوله "أن كل نمذجة تمثل رهانا، فثمة مراهنة وثمة ربح تتمثل المراهنة في التبرير الماقبلي والربح في التبرير المابعدي، بيد أن الأمور في العلم المعاصر تحدث في الاتجاه المعاكس: فالتبرير المابعدي يكون عمليا مهملا مقارنة بالتبرير الماقبلي"، تسمح النمذجة بإنتاج أنساق مختلفة من نسق واحد وبرد ظواهر معقدة ومتشبعة إلى قاعدة واحدة وذلك بضرب من الملاءمة بين الصياغة الصورية والتثبت التجريبي وباللزوم الضروري لجملة من النتائج من عدة مقدمات وبفتح عالم المعرفة على قارات مجهولة وآفاق رحبة، كما تعارض النمذجة عدة مواقف فلسفية ذو غمائية وهي تأبى وثوقية التركيب والحلم بنقطة انطلاق مطلقة تضمن للاستنتاج وثوقا نهائيا،وهي تعمم الآن الشكل الفرضي الاستنتاجي على العلم بأكمله، بيد أن استحضار ابستيمولوجيا النمذجة للفنومينولوجيا بقدر ماهو ناجع على مستوى الوظيفة والفعالية بقدر ماهو قاصر على مستوى القيمة والصلاحية، إذ هناك من استعمل الجانب الصناعي من النمذجة ودرجة قربها من علوم الهندسة كحجة مضادة للمعرفة العلمية وكمطية للتشكيك في صلابة المناهج الموضوعية وهناك من استند على كثرة تعويل النمذجة على أسلوب الاختزال حتى يتهم هذه المقاربة الفنومينولوجية المستحدثة بأنها اختصاص يستعمل العلوم أكثر مما يسهم في إنتاجها. لكن هل للنمذجة الإمكانيات الكافية لتجنب المعضلة الإتيقية التي سقط فيها الضمير الإنساني؟ عندئذ تحوم الشبهات حول النمذجة من طابعها الاختزالي للواقع وللقدرة الإدراكية للعقل وللحقيقة وتأتي المخاوف من ارتباطها بالتاريخ والسياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي الذي تتنزل فيه، لقد أفقدت النمذجة المعرفة العلمية الحيادية التي كانت تتميز بها واللاتحيز والنزاهة والمساعي المبذولة من أجل التمكن من الفصل بين الذات والموضوع لاسيما أن النماذج يقع برمجتها داخل وحدات بحث ومخابر ومؤسسات تدين بالولاء إلى جهات دون غيرها ونظرا لأن القرارات التي تتخذ في هذه الجماعات تخدم مصالح اقتصادية لبعض الشركات وأغراض أيديولوجية ضيقة حتى وان ادعت الكونية وتوافقت مع مطمح البشرية في وجود أفضل، حيث يقول «ألان باديو» "يتحول الإخضاع التقني لشروط الإنتاج بالنسبة للنماذج الاقتصادية إلى ضرورة لازمنية لنمط اقتصادي".