في كتاب أكاديمي نشره في بداية التسعينيات من القرن الماضي بعنوان La communication par la bande، أختار صاحبه الأستاذ الجامعي الفرنسي (دانيال بونيو) Daniel Bougnoux صورة جد معبرة وضعها على الغلاف. الصورة هي رسم لآلاف الزجاجات التي تتزاحم في إطار ضيق، وكل زجاجة تحمل رسالة، على شاكلة ذلك النوع من الزجاجات التي يلقي بها المسافر أو السجين في البحر لعل أحدهم يلتقطها ويقرأ الرسالة الموجودة بها. الأستاذ الفرنسي باختياره لهذا الرسم أراد أن يبين الزخم الاتصالي الذي أصبح يميز الزمن الحالي، فالمرسل لم يعد جهة واحدة أو جهات محدودة بل هناك الآلاف من المرسلين الذين يوجهون، على مدار اليوم، ملايين الرسائل الاتصالية التي، كي تصل، لابد أن تخترق حصار المنافسة بقوة الوسيلة وقدرة الإقناع. المتلقي في زمن العولمة الاتصالية لم يعد مجبرا على تلقي الرسالة الأحادية التي كانت تفرض عليه فرضا ولم يكن بمقدوره الهروب منها نحو رسائل أخرى. الاتصال هو من أكثر المجالات حساسية للفراغ، فعندما لا تمارس دولة ما، أو مؤسسة ما، الاتصال يأتي غيرها، وهم كثيرون، ليملئوا الفراغ بطريقتهم وبما يخدم مصالحهم. تذكرت كتاب الأستاذ (بونيو) وأنا أتابع ما تقدمه القناة الجديدة التي أطلقتها المؤسسة الوطنية للتلفزيون باسم قناة القرآن الكريم. ليس في نيتي، من خلال هذه المقالة، نقد أو إصدار أحكام على القناة الناشئة، فذلك غير معقول لأنها لازالت، كما هو معلن عنه، في طور البث التجريبي، لكني أعتقد أنه من الضروري التعرض لبعض القضايا التي لها علاقة مباشرة بمثل هذه القناة الدينية. أول هذه القضايا، أن قناة القرآن الكريم جاءت في وقتها، خاصة وأن السماء تمطر المشاهد الجزائري بعشرات القنوات الدينية المختلفة باختلاف مصالح وارتباطات الدولة الإسلامية، وكذلك باختلاف المذاهب والملل في الإسلام، فمن القناة التي تقدم نموذج حكم معين على أنه الأفضل والأحسن إلى التي تنشر فكرا سلفيا يدعو علنية إلى الخمول والركوع، ومن القناة التي يرقي صاحبها على المباشر إلى تلك التي تكتفي ببث الآذان على مدار دقائق اليوم. عدد كبير من الجزائريين يتابعون هذه القنوات ويتفاعلون، بالهاتف أو الرسائل الالكترونية والتقليدية، مع محتوياتها مما يعرض في نظري وحدة هذه الأمة (الجزائرية) لخطر التشتيت ولحالات تشويه ممارسات دينها الإسلامي الحنيف، فبعض هذه القنوات وجد أصلا لتقديم جرعات من التخلف للمسلمين بدعوتهم لطاعة ولي الأمر حتى عندما يكون غير صالح والاكتفاء بالدعاء لعل الله يصلح أموره، وبعضها أنشأته دول سنية لمواجهة قنوات دينية شيعية، وأخرى تعمل على نشر المذهب الشيعي، ورابعة لا تكف عن محاولة شد انتباه المسلمين لأحداث وقعت في فترة من الزمن ولت ولن تعود فهي تجلب متحدثين بارعين يبذلون قصارى جهدهم لتفسير أمور الحاضر بنظرة الماضي مكفرين كل من يفكر في التخطيط للمستقبل.. في هذا "الحقل" المشحون بعشرات القنوات التي يتوارد عليها "خير" ما أنجبت الأمة الإسلامية من متحدثين لبقين، قد يطرح السؤال التالي: هل ستتمكن القناة الدينية الجزائرية من منافسة القنوات الدينية الأخرى وهل تستطيع استعادة المتفرج الجزائري إلى محيطه الطبيعي؟ الإجابة عن السؤال، من الناحية النظرية، بسيطة وجاهزة: نعم، من الممكن جدا استعادة المتفرج الجزائري الذي يقبل على القنوات الدينية وذلك لأن المعروف، في مجال الاتصال، أن أي متابع لوسائل الإعلام يفضل دوما الانطلاق من محيطه قبل الاهتمام بمحيطات أخرى، بمعنى أنه يهتم بما هو أقرب إليه وبما يشبهه ويحدثه عن اهتماماته وأحاسيسه. هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية التطبيقية فالأمر ليس بالبساطة التي يمكن تصورها لأن تكنولوجيات الاتصال جعلت المتفرج، حتى الأمي، شخصا له قدرة على التمييز بين الجيد والرديء، فإن لم تتمكن هذه القناة من شد انتباهه، من البداية، بمستوى ونوعية ما تقدمه من مادة، وإن عجزت في إدراك أن العمل الاتصالي هو عمل منظم ومخطط ويتطلب مختصين يعرفون مسبقا رغبات الجمهور وملمين بمختلف استراتيجيات الإقناع المطبقة عبر العالم، فأنها ستفشل في أن تكون قناة لم شمل الجزائريين التواقين لمعرفة أمور دينهم. القناة التلفزيونية ليست مجرد مرآة وبوق أو وسائل تقنية توفر، فهذه بسيطة ويمكن الحصول عليها من أي سوق إن وجدت الأموال اللازمة لذلك، بل هي محتوى وطريقة تقديم قبل كل شيء. المحتوى لا يحدد من طرف شخص أو جهة إدارية معينة بل من طرف مختصين. المحتوى تزداد أهميته وقيمته عندما يتعلق الأمر بالمسائل الدينية لأنه لا عبث ولا إفراط ولا تفريط في هذه الأمور. يجب أن نتذكر دوما أن التفريط في أمور الدين وإسناد الأمور لغير أهلها وترك مجال الإفتاء لكل من حفظ بعض السور والأحاديث هو الذي أدخل الجزائر في دوامة العنف والإرهاب باسم الدين الحنيف. محتوى القناة الدينية لا يحدد من طرف رجال الدين فقط بل لا بد أن يشاركهم في ذلك مختصون في مجالات علم النفس والاجتماع والاتصال وعلم اللغة. هذه الكوكبة هي التي تضع إستراتيجية للقناة وتحدد محتواها بما يجعلها تشرق ليس على الجزائر فقط بل على كل الأمة الإسلامية، فمن غير المقبول أبدا أن تكون القناة الدينية الجزائرية مجرد صورة باهتة للقنوات الدينية الأخرى أو تكون مجرد نموذج منقول بغباوة عن النماذج التي تعج بها السماء العربية أو الإسلامية. طريقة التقديم، هي أيضا على غاية من الأهمية، لذلك فلا بد من تكوين المقدمين للحصص والمتحدثين في هذه القناة ليتمكنوا من شد المتفرجين والمتابعين لحصصهم. التحدث إلى المؤمنين (وغير المؤمنين) عبر قناة تلفزيونية ليس كالحديث في المنبر. هناك شروط عديدة متعلقة بالفصاحة والجرأة وملامح الوجه وحتى باللباس ولونه لا بد أن تتوفر في المقدم الذي يفضل دوما أن يكون من الشباب لما لهذه الفئة من سرعة البديهة (بالنسبة للحصص التي تبث على المباشر) والقدرة على التعلم والتأقلم مع التكنولوجيات المستعملة في التسجيل والاتصال.