ترد الكثير من الأسئلة في ذهن المسلم، إما شُبها وإما تعجبا من حكم قد يعجز المسلم عن الوصول إلى مضمونه بخصوص بعض الحكام الشرعية في مسائل الحلال والحرام، ومن يتأمل قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، أو قوله "مَثَلُ الجَنَّةِ الَتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ"، من يتأمل الآيتين يتبادر إلى ذهنه التساؤلات السابقة، فيقول كيف تحرم الخمر على المؤمنين في الدنيا وتباح لهم في الجنة؟ في سبيل الرد التوضيحي حول هذه المسألة بالذات ذكر أهل العلم أن الله تعالى جعل الدنيا دارا للعمل بالتكليف الذي يشتمل على العبادة والعمارة في الأرض وتزكية للنفس، وجعل الآخرة دارًا للحساب والثواب، وبمقتضى التكليف الذي جعلت الدنيا من أجله، فإن الله تعالى حَرَّم أشياء على المؤمنين ابتلاءً واختبارًا وإصلاحًا لمعاشهم، ومن ذلك تحريم الخمر على المؤمنين حفاظا على عقولهم أن تغيب عن الدنيا لتنظر في احتياجات معاشهم، وحفظ العقل أحد المقاصد التي دعانا إليها الشرع لإتمام تحرير المؤمن من عبوديته لغير الغاية التي خلق من أجلها، وهي عبادة خالقه سبحانه، إذ الوقوع تحت تأثير الخمر عبودية لغير الله لا يرضاها الله تعالى، إضافة إلى حفظ الدين الذي هو مقصد دعا الشرع له. إن تناول الخمر مما يَضرُّ بالعمران البشري وبالتزكية النفسية، وذلك خلاف مقصود الله من استخلاف الإنسان في الأرض، قال تعالى "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ"، ولكن إذا كان تحريم الخمر في الدنيا قد تضمن هذه الحكم العالية التي تساعد على العمران البشري وعلى تزكية النفوس وتطهيرها فذلك أمر متعلق بالدنيا التي هي محلّ الاستخلاف وذلك بخلاف الآخرة وهي الدار التي جعلها الله تعالى دار جزاء، ثوابًا ونعيمًا للمؤمنين الذين قاموا بمقتضيات التكليف، وعقابًا للكافرين الذين نقضوا عُرى الإيمان، فالآخرة لا تكليف فيها، إذ هي دار نعيم للمؤمنين، ومن لطائف ما يُتنعمُ به في الجنة أن يعطى أهلها شيئًا من جنس ما حُرِّم في الدنيا ليكون عوضا عمَّا حُرِموه في الدنيا، فيتنعمّون بخمر دونها خمر الدنيا، وإنها لخمر بها من النعيم الحسي والروحاني ما بها، وفي قوله عز وجل "لَذَّةٍ لِلشَّارِبِين"، إشارة لذلك، فإن طعمها طيب كلونها، وطِيبُ الطَّعمِ دليلٌ على طِيبِ الريح، بخلاف خمر الدنيا.