الحقيقة أن الوقت آن ليأخذ المثقفون المسلمون مسألة التفاهم الثقافية بمنتهى الجدية وأن يجتهدوا عالمياً بالكفاح ضد العصبيات الباطلة، وذلك من خلال تهيئة أرضية عقلية وعلمية متينة، فلو قررت المذاهب العالمية أن تتباحث وتتحاور فيما بينها فلن نفقد شيئاً في حرب العصبيات الدينية الضارية، نحن نستطيع أن نجمع علماء مختلف المذاهب والأديان في مؤتمر أو ندوة، ونتحدث بشكل علمي حول قضايا أساسية تطرح خلالهما. ألسنا نواجه في جميع العالم حفنة من المتعصبين الذين لا يعرفون منطقاً في الحوار؟ أليس الإسلام هو أكثر الأيديولوجيات اهتماماً بالعقل والتفكير العقلاني؟ فلماذا إذن لا نتحرك ونخرج من جمودنا؟ ألسنا التقدميين في عصر تخلى المثقفون الغربيون فيه عن دورهم ولجأوا إلى الإقليمية وما بعد الحداثة والسفسطة وكل نوع من الانحطاط، علينا أن ندخل الميدان ولا نخاف من بعض المثقفين في الداخل والخارج، وكلامي هذا أقوله كشخص لا كعالم اجتماع، فإذا كان هناك حوار فتأكدوا أننا نحن الغالبون، وعلينا أن نقضي على عقلية الخوف من الإخفاق، وباعتباري مثقفاً مسلماً أتساءل في نفسي دائماً، لماذا يجب أن نخاف من أفكار الآخرين وآرائهم؟ لقد كنت في فترة حكم الطاغوت طالباً جامعياً، وكان المحيط الجامعي مليئاً بالانحطاط والفساد، وكانت دار السينما تعرض أفلاماً منحطة، وصوراً بعرض عشرين متراً لنساء بحالات يخجل الإنسان عن ذكرها، لكننا شاهدنا الفكر غلب على تلك الحالة وذلك الوضع واستطاع أن يقلبه، وبالطبع لا أقول بأن الفكر هو الغالب على الدوام من الناحية العلمية، لكن المهم هو الالتزام والرسالية في الحياة والفكر، وما علينا سوى أن نكون رساليين في أعمالنا، ولا نخاف من شيء، هذه هي الأرضية الإيديولوجية لدراساتي أما الأرضية النظرية لذلك، فهي التفاهم الثقافي، والنقطة التي لابد من الإشارة إليها هي أنني أحس خوفاً بيننا من المواجهات الحضارية، وهذا الخوف يأتي من عدم استعداد نخبتنا المثقفة. وأتصور أننا نعاني قليلاً من حالة بساطة وسذاجة في التفكير، وسبب ذلك أننا شعرنا ببعض الأمن من داخل أنفسنا ولم نشاهد العدو فتجاهلنا أنفسنا وتخوفنا بعض الشيء من الخروج إلى العالم الخارجي، والحقيقة أننا كمثقفين مسلمين لابد أن نطلع على العالم ونتعرف على ما يدور فيه، ففيما يتعلق بإسرائيل مثلاً، هناك قليل مَن يعرف ما يدور في داخلها، وعدد الأحزاب فيها والاتجاهات والتيارات السائدة في مجتمعها، لكن الإسرائيليين في الوقت نفسه يمتلكون معلومات وافية عنا مع أنهم كفار حربيون، ونحن في حالة حرب معهم، فلماذا لا تكون لدينا مؤسسة دراسات خاصة بإسرائيل؟ هل يكفي أن نصفهم بالنظام الصهيوني؟ وهذا الوصف ليس شتيمة بالنسبة لهم، بل هو وصف وبيان، هذا على الرغم مما كتب حول إسرائيل، لكننا بحاجة إلى معلومات علمية دقيقة. إذن فالتفاهم الثقافي وكيفية طرحه على مستوى عالمي، يعد من مسؤولية نخبتنا الإسلامية المثقفة ولهذه المسألة جانب عالمي وليس وطنياً، وعلينا أن نطرح مسألة التفاهم الثقافي بشكل يجذب إلينا جميع مثقفي العالم، فإستراتيجيتنا يجب أن لا تكون على أساس الخوف وعلينا أن لا نخاف من الحجارة التي سترمى باتجاهنا، بل يجب أن نفجر تلك الحجارة، وإننا نمتلك السلاح المناسب لها، كما أن إستراتيجيتنا يجب أن لا تكون دفاعية، بل هجومية وأن ندخل الساحة بقوة، هذه المواضيع اطرحها كفرد مسلم، وما قلته في القسم الأول من البحث هو أرضية علمية يتبعها جانب من السيرة الشخصية، أي إنني كانسان أمتلك هذه القيم، وبعد ذلك لي تلك الأفكار، وليس من الضروري أن تعودوا من تلك الأفكار إلى هذه القيم، كما أنه لم يكن ضرورياً طرحها، بل هي أرضيتان مختلفتان في أذهاننا، وعندما نتحول إلى المستوى العالمي، يجب أن نتعامل معها بهذا الحجم فنحن لا يمكن أن نتحاور مع الشاب النازي أو الشاب الهندوسي المتطرف. وإذا أردنا أن نحفظ أرواح المسلمين ونصون دماءهم، فلابد أن نفكر بهذه الطريقة فيما يتعلق بالعالم، وأن نمسك زمام الأمور بأنفسنا، ففي إيران يشكل المسلمون الأكثرية. لكنهم ليسوا كذلك في الهند، فهناك يتعرضون لضغوطات جمّة، لكن هناك فراغ إيديولوجي في الغرب، ويجب أن نوظفه لمصلحتنا، وعلينا أن نستغل الساحة، هذه هي أرضية البحث من الناحية الإيديولوجية، إذن المثقفون هم حملة التفاهم الثقافي والمثقفون المسلمون هم الأجدر والأليق. الأساليب العملية للتفاهم الثقافي قد يتساءل بعضهم عن الأسلوب العملي لهذا التفاهم، وهل يوجد أساساً طريق عملي لذلك، أو أن المسألة مجرد نظرية؟ وأتصور أن السبل العملية للتفاهم بسيطة جداً، تأملوا الذي يقال في المؤتمرات وما هو الذي يجب أن يقال وإيصال هذا الكلام إلى مسامع مثقفي العالم سهل جداً، لكن هناك عديداً من المثقفين اليوم لا يملكون شيئاً يقولونه، ولو تكلموا، فإن مواقفهم تنشأ إما عن ضعف أو عن خوف وهذا ما ينتهي إلى التعصب، ونحن غير ملزمين بالانطلاق في مشروعنا من هذه المواقف، فلو تعرفنا بشكل جيد على المصادر الثقافية فسيمكننا التحدث بقوة في المحافل الدولية، وباعتقادي أن أهم شيء هو الفكر أي تحديد ما تبتغيه على المستوى العالمي كما إننا لا نبحث عن الخلفيات والتعامل السياسي، لأن ذلك من مهام وزارة الخارجية وليس من مهامنا، وفي اعتقادي يجب أن نفكر بهذا الشكل وهو إلقاء فكرنا وما نريده في المؤتمرات الدولية والدفاع عن أنفسنا مقابل الهندوسي أو البعثي أو الملحد أو الاشتراكي أو اليهودي المتعصب لنخوفه منا علمياً أو نعلمه كيف يجب أن يتعامل معنا، وهذه مثالية غير موجودة حالياً في العالم، وفي الوقت نفسه هي ما يطالبنا بها المسلمون الذين يعانون من ظلم المتعصبين والأصوليين. فالفكر هو المهم، أما الأساليب العملية فستظهر تلقائياً، وبعد تلك المقدمة لنرى مَن هم حملة التفاهم الثقافي وأنا اسمي مَن يدعو للتفاهم الثقافي ويسعى إليه بالمثقف، والمثقف ترجمة للفظة "Intellectual" التي تستخدم في العالم الغربي الحديث مع أن هذه الكلمة قد ينظر إليها من زوايا مختلفة، فإذا نظرنا من زاوية موضوعية تاريخية، فالمثقف هو الشخص الذي ظهر في عقد معين في فرنسا، ولا يمكن سريانه إلى بريطانيا أو ألمانيا البريطاني والألماني شخص آخر ولو أردنا النظر إلى الموضوع من زاوية جزئية، فهذه الكلمة خاصة بالفرنسيين، وأصبحت موضة في دول أخرى، وكلمة "Intelegentsia" هي روسية أو بولونية في الأساس، أما جذورها فلاتينية، وقد ظهرت في أواخر القرن ال19 وبداية القرن ال20، وعلى هذا الأساس لو قلنا أن المثقف "النخبة المثقفة" مفهوم غربي أو يوناني، فكيف يحق لنا أن نتكلم هكذا، ألا يعدّ هذا استخداماً خطأً؟ ومن جهة أخرى متى يمكن أن نطلق على أنفسنا تسمية المثقف؟ فلو كان المقصود من لفظة المثقف جوهر كلمة "Intellectual" في الفرنسية، فإن إطلاقه على أنفسنا خطأ، ما هو وجه التناسب بيننا وبين المثقف الغربي، لكن لا إشكال في استخدام مفاهيم خاصة بحضارة معينة مع الأخذ بالفروق وتعميمها على لغات وحضارات أخرى، مع الأخذ بخصائص كل حضارة، ولن تحدث مشكلة إذا قمنا بذلك عن وعي، لقد كان أولئك مجموعةً دافعت عن ضابط يهودي في الجيش الفرنسي اتهمته بالخيانة كذباً وإفشاء الأسرار للعدو، وذلك ليغطوا فشلهم واندحارهم المخزي فالقوا القبض عليه وسجنوه في إحدى الجزر، فقامت مجموعة من المثقفين للدفاع عنه، منهم «إميل دوركهايم» و«إميل زولا» وقد أطلقت تلك اللفظة عليهم منذ ذلك الحين، وكلمة "Intelegentsia" أطلقت على مجموعة من الأشخاص في روسيا وأوروبا الشرقية، لم تكن تابعة لطبقة النبلاء، مع ن أغلبهم من أبناء النبلاء والأشراف، وليسوا من طبقة المزارعين وما شاكلهم، وكان لهؤلاء شهادات علمية عامة، وهذان المفهومان من المفاهيم الخاصة التي لا نبحث فيها لكنه يمكننا تعريفها بشكل ينتج عنه إمكانية المقارنة بين مختلف الحضارات. وفي جميع الحضارات العالمية والثقافات، نشاهد مجموعة تنبذ الحياة العادية، وتتجه نحو ما نسميه نحن بالحقيقة أو الجمال أو العلم أو تحليل بنية الحقيقة، وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم العلماء أو أهل العلم أو الفنانون أو رجال الأدب، فهؤلاء تركوا الحياة وأداروا ظهورهم للناس والخلق وتوجهوا نحو شيء أسمى من ذلك، ومن حيث المعايير الاجتماعية، فهؤلاء يتحدثون بلغة خاصة تختلف عن لغة الناس العاديين، لهم اصطلاحاتهم الخاصة، وبعبارة أخرى من أهل الإصلاح ومن أجل بلوغ تلك الحقيقة يحتاجون إلى أدوات لغوية. وفي مقابل هؤلاء هناك مجموعة ملازمة لهم في هذه المسيرة نحو الحقيقة لكنهم يعودون إلى الناس في نقطة من تلك المسيرة وفي هذه العودة نصل إلى مفهوم الالتزام، وهم الذين نسميهم بالمثقفين، والفارق بين الاثنين هو أن المجموعة الأولى أهل العلم تركوا الناس والخلق، في حين ن المجموعة الثانية المثقفين يوجهون خطابهم إلى الناس ويتعاملون معهم، وهذا أحد التعاريف التي نقدمها عن مفهوم المثقف، إذن عندما نقول مثقف لا نقصد به الشخص الذي يقرأ الفلسفة، بل الشخص الملتزم الرسالي الذي يريد عمل شيء ما والاستفادة من علمه، وهناك مفهوم آخر للمثقف في مقابل ذلك المفهوم هو المستنيرون والفرق بينهما ليس في نوع من الاختيار الأخلاقي الالتزام الموجود بين العلماء والمثقفين، بل في مكانة كل فريق منهم، فلو تصورنا وجود هرم فسيكون المثقفون في قمته، والمستنيرون في قاعدته، فالمثقفون مثلاً يكتبون كتاباً والذين في القاعدة يقرؤونه، وبعبارة أخرى أولئك منتجون وهؤلاء مستهلكون وهؤلاء الآخرون يقومون بدورين، فهم من جهة يأخذون عن المجموعة التي في القمة أفكارهم، ومن ثم يقومون بنشرها بين عامة الناس، وعلى هذا فهناك إبهام في كلمة المثقف فمرة يكون هو الشخص الرسالي الملتزم ومرة يكون هو الشخص الذي ينتج فكرة معينة، وسنحاول في هذا البحث تفصيل المفهوم الذي طرحته عن المثقف، ومن خلال أقسام هذا المفهوم، أقدم مفهوماً مشتركاً للمثقف يمكن تعميمه على جميع الحضارات دون إغفال عن خصائص كل حضارة وثقافة، إذن هنا 4 أنواع من المثقفين، يمكن استنتاجها من خلال تضارب تلك المقولات الأربع وهم: المجموعة الأولى: طلاب الحقيقة المطلقة الذين يقفون على رأس الهرم الفكري ويسيرون نحو الحقيقة. المجموعة الثانية: القادة المصلحون أو الثوريون، وهم الذين يقفون على رأس الهرم الفكري، إلا أنهم رساليون إيديولوجيون من الناحية الاجتماعية، وهؤلاء يسعون إلى تحويل الحقائق إلى أيديولوجيات ثورية وإصلاحية، وقد أسميتهم بالقادة لأنهم يقفون على رأس الهرم الفكري. المجموعة الثالثة: المحافظون على السنة والتقاليد الفكرية، وهؤلاء مقلدون للمجموعة الأولى وأتباع لهم، ولا ينظرون في عملهم إلى الناس، لكنهم ليسوا في مستوى المجموعة الأولى، بل على مستوىً أدنى منهم. المجموعة الرابعة: المنفذون للعقائد عملياً، وهم على مستوىً أدنى من القادة الثوريين.