بقلم: الأستاذ الدكتور عبد الرزاق قسوم لا نريد، علم الله، لأشقائنا في دول "الربيع العربي" إلا ما يريده الشقيق الوفي لإخوته، من أمن وأمان، في ظل الاستقرار والاستمرار. غير أنّ الأخبار الواردة إلينا، من دول الجوار، تونس وليبيا ومصر، لا تبعث على الاطمئنان، بل وتنذر بكلّ ألوان النزاعات والشنآن. فقد كان الناس، ممن يحبون لتونس، ولليبيا، ولمصر، ما يحبه أبناؤها لها، من خير عميم، ونماء سليم، فما الذي دهى هذه الشعوب حتى أصيبت بما تعانيه، وأرهصت بما لا تشتهيه؟ كنا نحسب، أن عصر الدماء والدموع، قد ولى إلى غير رجعة، مع طي صفحة الاحتشادات والمسيرات، والمظاهرات، وكنا نظن وظننا ليس بإثم أن ما كان يوصف عندهم بعصر الاستبداد، والظلم، والقهر، قد دفن مع أنظمته المدبرة، ولكننا نفاجأ اليوم بما يحدث، في بلدان الجوار العربية الشقيقة من تدمير، وتفجير، وتكفير، وتهديد بالتغيير، فعادت إلى أذهاننا الأمثولة الشعبية القائلة "القطة تأكل أبناءها". نحن ندرك بكل واقعية أن عملية التحول الشعبي، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، من نظام الرأي الواحد، والحزب الواحد، والزعيم الواحد، إلى نظام تعددي، تنطلق فيه الألسنة بعد التكميم، ويسود فيه الضياء بعد التعتيم، ليس بالأمر الهين، ويتطلب جهودا مضنية، كي تستقر الأمور، ويتجاوز الجميع عهد الصدمة، إلى تحقيق عظائم الأمور. غير أن ما لم نكن ندركه، في عملية التحول هذه، أن يتحول الأشقاء الأخلاء إلى أعداء ألداء، كما يحدث في تونس الشقيقة. فما الذي يدعو، بعض المنتمين إلى الإسلام والغيورين على تطبيق الإسلام، أن يخرجوا من الخندق الإسلامي الشامل الذي يتسع للجميع، بدءا بالنهضة الإسلامية وانتهاء بالحركة السلفية بمختلف مسمياتها، كأنصار الشريعة الإسلامية، وغيرها، لينتصبوا في خندق العنف، والتبديع، والترويع، والتكسير، والتكفير، ثم يصبوا الزيت على النار، ويزيدوا الماء إلى طاحونة الكافرين بالتوجه الإسلامي، والساعين إلى إسقاطه. منطق غريب والله لم نجد له تعليلا، لا في الدائرة الإسلامية، ولا في المنهجية العقلانية..فأن يصبح الأخلاء ?اليوم- بعضهم لبعض عدو، هو ما لم يهضمه أي عقل إنساني. لقد أتيح لي منذ أيام أن أصلي الجمعة في جامع الزيتونة المعمور، وكنت في نشوة خاصة، أن أجدد العهد مع القلعة العلمية التاريخية في تونس، التي ارتسمت في ذهني عنها ذكريات جميلة، عندما كنت طالبا، في الزيتونة، وكان جامع الزيتونة يعج بالطلاب والشيوخ، بالأزياء البيضاء، كحمام السلام، فإذا بي أجد نفسي أمام إمام زيتوني، من نوع آخر. كان الإمام يستغل المصلين المضطرين إلى الإنصات، لتستمر خطبته ساعة كاملة، وليتها كانت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، لقد كانت الخطبة، على عكس كل ذلك، هجوم على المتدينين في تونس بدءا بوزير الشؤون الدينية والأوقاف إلى زعماء النهضة الإسلامية، والسبب الوحيد هو منازعتهم للإمام، في الاستئثار بمشيخة جامع الزيتونة، وعدم السماح للدولة التونسية بالتدخل في شؤون المسجد الأعظم. والسؤال: لماذا تأخرت المطالبة باستقلال المسجد الأعظم إلى اليوم؟ لماذا لم ترفع هذه المطالب في عهد الرئيس بن علي؟ ثم ما ذنب المصلين الذين قصدوا المسجد ?مثلي- للتزود بزاد التقوى أن يُقحموا في موضوع ديني وسياسي لا شأن لهم به؟ إلى هذه الفتنة الزيتونية، تضاف فتنة أخرى، وهي استغلال الانقسام السياسي السائد اليوم في تونس، بين الأحزاب العلمانية المعارضة، والحزب الإسلامي الحاكم، ليحرجهم دعاة الحركة السلفية، بإعلان الحرب في الجبال على الحكم، وشن الحملة التبديعية التكفيرية في المساجد، ضد حركة النهضة الإسلامية. إن السلفيين في تونس، بهذا السلوك الغريب، قد فتحوا على تونس شرخا في بنيانها، يصعب ترميمه. فقد علّمنا الإسلام الذي يدين به الجميع في تونس، أن الفتنة أشد من القتل، وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وعلمتنا الثقافة الإسلامية التي نتمثل دوما بحكمتها، في مثل قوتها: وكونوا حائطا لا صدع فيه، وصفّا لا يرقع بالكسالى "فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا"؟ ففي الوقت الذي تستعد فيه تونس لخوض معركة الاستقرار الديمقراطي، بتنظيم الاستفتاء على الدستور، والانتقال إلى الانتخابات التشريعية، والرئاسية، ينبري بعض الإسلاميين لإفساد العرس، وتهديد الاستقرار، وتقديم صورة مشوهة عن الإسلام السياسي، وعدم صلاحيته للتعايش مع المخالفين، حتى داخل الصف الإسلامي الواحد. نريد لأبناء تونس، على اختلاف قناعاتهم الأيديولوجية، ومعتقداتهم المذهبية، أن يرتقوا في هذا الوقت بالذات، إلى مستوى ما تتطلبه تونس، من التعقل، والحكمة، والتضحية بالطموحات الشخصية، إلى مستوى الآمال الوطنية، وأن يدركوا أن الدين لله، وتونس للجميع. إن الإيمان بالوطن التونسي، وهاجس النهوض به من كبوته، ووضعه على سكة الاستقرار، واستعادة الثقة في تنميته، وسياحته، وسياسته، يجب أن يسكن الجميع، فتمتد الأيدي، وتتوحد الرؤى ليتصالح بعد أن يتصارح، ويتصافح كل أبناء تونس لمصلحة تونس. إن الأحزاب قد تزول، وقد تتغير، ولكن البقاء لتونس التي تتسع كل أبنائها، فتحتضنهم بكل خلافاتهم، وقناعاتهم، ومعتقداتهم، فتصبح تونس مؤنسة كما يدل عليه اسمها، لا موحشة، كما يحاول ذلك بعض أبنائها.