تبييض الأموال... رحلة المال الفاسد نحو الملاذات الآمنة .. يلجأ إليه الفاسدون للإفلات من المحاسبة مع إعلان رئيس مجلس قضاء الجزائر عن إصدار مذكرة توقيف دولية ضد وزير الطاقة والمناجم وأفراد من عائلته، وباقي شركائه في ما يعرف إعلاميا ب"فضيحة سونطراك2"، حتى بدأت التحليلات حول إمكانية سير إجراءات الدعوى القضائية، ومثول المتهمين أمام العدالة الجزائرية، والأهم من كل ذلك هو استعادة الأموال التي نهبها المتورطون في هذه القضية، التي قاموا بتهريبها إلى دول أجنبية عبر تبييضها من خلال ممتلكات وعقارات وحسابات بنكية، الأمر الذي يثير إشكالية كبيرة حول مدى استطاعة الجزائر استعادة أموالها المنهوبة عبر الصفقات الفاسدة. فعمليا، يعتبر تبييض الأموال هو القرين الأساسي لمختلف الجرائم المالية، وهو الحل المثالي للمتورطين في الصفقات الفاسدة التي تمكنهم من إزالة الشبهات عن الرشاوى والعملات التي يتلقونها بطرق بعيدة عن الكسب المشروع، ومن ثم تهريبها إلى دول أجنبية توفر لهم ملاذات آمنة لهم ولأموالهم التي غالبا ما يلتحقون بها لاحقا ليحيون في رغد العيش الذي وفره لهم "المال الفاسد". وعند نظرنا إلى الجسم التشريعي الجزائري الذي يواجه به قضايا التبييض، نجد أن أهم وأحدث قانون يعالج بهذه القضية هو القانون 05-01 الصادر في 6 فيفري 2005، الذي يتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما. وبدا ملفتا جمع المشرع الجزائري بين جرائم التبييض وجرائم الإرهاب، وهو ما يدل على أنه إضافة إلى كون المجموعات الإرهابية قد تجد في الفساد جنتها التي توفر لها التمويل الكافي لنشاطاتها التجنيدية والتسليحية، فإنه يدل أيضا على أن الفساد هو الخطر الأكثر تهديدا للجزائر، بعد سنوات قليلة من عبورها عشرية الإرهاب الدموي، التي كادت قضايا الفساد التي تفجرت في السنوات الأولى للألفية الجديدة، أن تنسيهم جحيم التسعينات. وسعى هذا النص القانوني إلى إيجاد تعريف جامع لجريمة تبييض الأموال بأن اعتبرها "كل تحويل للممتلكات أو نقلها مع علم الفاعل بأنها عائدات إجرامية، بغرض إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع لتلك الممتلكات، أو مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب الجريمة الأصلية التي تحصلت منها هذه الممتلكات على الإفلات من الآثار القانونية لأفعاله". كما أضاف المشرع إلى هذه الشروط المتعلقة بالتبييض شرطا آخر يتعلق بإخفاء الأموال والتستر على حركتها، وهي الفقرة الموجهة إلى البنوك وغيرها من المؤسسات المصرفية التي يمكن أن تدخل في دائرة الأشخاص الذين تشملهم شبهات الضلوع في الفساد. وتماشيا مع الانتشار الكبير للتعاملات المالية الرقمية عبر شبكة الأنترنت، فإن المشرع أضاف ضمن نفس النص القانوني وفي المادة الرابعة منه تحديدا، الأموال التي تأخذ شكلا إلكترونيا إلى باقي الأشكال الأخرى التي تبين ملكية الأموال والمصلحة فيها، من شيكات وحوالات وأسهم وسندات وكمبيالات وخطابات اعتماد. ولأن الطرف الخارجي في جريمة تبييض الأموال هو جانب أساسي ومحوري فيها فإن القانون ركز على هذا الجانب، حيث اعتبر أن الجريمة تبقى أصلية حتى لو ارتكبت في الخارج، وسمحت لمرتكبيها بالحصول على الأموال حسب ما ينص عليه القانون. قصة ال27 مليار دولار كانت إحصائيات الفساد في الجزائر خلال الفترة الممتدة بين 1962 وحتى انتفاضة أكتوبر عام 1988، من الأسرار التي أرادت سلطة الحزب الواحد آنذاك إبقاءها في كتمان مطلق، إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه الوزير الأول الأسبق عبد الحميد براهيمي وضع الجزائريين في صورة ما كان ينهش اقتصاد بلادهم من فساد مستشر خلف جهاز التسيير الاشتراكي. فقد اختار براهيمي محاضرة ألقاها في كلية العلوم الاقتصادية في الخروبة بالجزائر العاصمة، ليقوم بعملية بسيطة من خلال توقعاته الناتجة عن معرفته بشؤون البلاد التي استقاها من الوظائف السامية التي تولاها، حيث بنى حسابه أن الفساد في الجزائر يلتهم ما مقداره مليار دولار كل سنة منذ استقلال البلاد، ليحول 26 سنة من عمر الجزائر المستقلة، إلى 26 مليار دولار منهوب! لينزل هذا الرقم المهول كالصاعقة على الجزائريين، وهم لأول مرة تلتقط آذانهم رقما يعبر عن مدى شراسة وحش الفساد الذي التهم قدرا معتبرا من مقدرات وطنهم، وليكون بداية للبحث والتساؤل عن مصير هذه الأموال المنهوبة، وتدخل بعدها مصطلحات غسيل الأموال وتبييضها في الخارج في التداول الشعبي والإعلامي في الجزائر. وكانت تصريحات عبد الحميد براهيمي شهورا فقط قبل انتفاضة 6 أكتوبر 1988، التي كانت بمثابة انفجار غضب قطاعات واسعة من الجزائريين إزاء الفساد وسوء التسيير الذي غزا مفاصل الدولة. 173 مليار دولار تطير من الجزائر عبر أجنحة الفساد من أصعب الأرقام التي يمكن الحصول عليها، هي كم عدد المليارات التي تسربت من الجزائر على أيدي الفاسدين لتجد مستقرا لها في دول أجنبية على شكل مدخرات في بنوك أو مشاريع عملاقة يجني منها ناهبوها الثروات على حساب اقتصاد الوطن الذي هو في أمس الحاجة إليها، لذا يكون الاعتماد على ما تنشره المؤسسات المالية الإقليمية والدولية هي الأقرب إلى الواقع، مع كشف تقرير نشره "البنك الإفريقي للتنمية"، شهر ماي الماضي بمراكش المغربية، أن الأموال التي خرجت من الجزائر بطريقة غير مشروعة في الفترة بين 1980 و2009 بلغت 173.11 مليار دولار. ويعد البنك الإفريقي للتنمية أكبر مؤسسة مالية إفريقية وتتوزع المساهمات في رأسماله ما بين دول إفريقية وغربية أبرزها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة لمؤسسات مالية دولية. وأضاف التقرير الذي عُرض اليوم خلال الاجتماعات السنوية ال48 للبنك، أن صافي الموارد المالية التي خرجت من الجزائر على مدار الأعوام الثلاثين الماضية بطريقة غير مشروعة مرتبط في أغلب الأحيان بحالات الفساد في التي تشوب المشروعات العامة في قطاعات النفط والمعادن وغياب الشفافية في تنفيذ الموازنة وغسل أموال، وتهرب ضريبي، ورشاوى، وعمليات تهريب أخرى. وحسب التقرير الذي أعده خبراء البنك الإفريقي للتنمية بالتعاون مع مؤسسة النزاهة المالية العالمية، فإن الجزائر تعتبر رابع دولة في القارة الإفريقية التي تعاني من نزيف الأموال نحو الخارج بعد نيجيريا بما يعادل 252.35 مليار دولار، وليبيا ب222.875 مليار دولار، ثم جنوب إفريقيا ب183.794 مليار دولار، خلال الأعوام الثلاثين الماضية. ويمثل نزيف الأموال الذي تعرضت له الجزائر على مدار ثلاثة عقود، الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2012 بالقيمة الجارية للدولار. واعتبر الخبراء أن التحولات الاجتماعية والإنفاق العام على المشروعات الاستثمارية التي تمولها الحكومة عن طريق الموازنة، بأنها مصادر للفساد والاغتناء غير المشروع في الجزائر. وفي الأعوام الأخيرة، ظهرت إلى السطح عدة قضايا فساد مرتبطة بتمويل مشروعات بنى تحتية وفي قطاع الطاقة، وتبين أن شركات إيطالية وأمريكية وصينية متورطة في منح رشاوى لمسؤولين جزائريين، للحصول على مشاريع طرق ومياه واتصالات وطاقة. قضية الخليفة... ثبت التبييض ولم يُسترجع المال أول ما يخطر على ذاكرة الفساد في الجزائر، هو قضية عبد المومن خليفة الذي بنى امبراطورية مالية من المال الفاسد، الذي جعلته بين ليلة وضحاها مالكا لمجموعة اقتصادية ضخمة تضم بنوكا وشركة طيران عملاقة، وأظهرت تقديرات اقتصادية أنه ألحق خسائر فادحة بالخزينة العمومية الجزائرية بلغت حوالي 2 مليار دولار، تاركا الآلاف من الموظفين عاطلين بلا شغل وعدد مشابه من زبائن البنك الذين طارت أموالهم التي قضوا سنين في جمعها، مثلما طار بطل القضية عبد المؤمن خليفة الى بريطانيا ومعه ملايير استطاع جمعها عبر الفساد، فقد رأى أنه سيكون أكثر أمنا في لندن من فرنسا التي يملك فيها واحداً من أفخم القصور في نواحي سان تروبي (جنوبفرنسا)، فبريطانيا لا تربطها بالجزائر معاهدة تعاون قضائي وبقاؤه هناك سيكون أسلم له، وهو ما يبدو أنه كان قرارا صائبا جدا اتخذه "الفتى الذهبي"، حيث وجد هناك الملاذ الآمن من أي متابعة جزائرية حتى بعد أن أصدرت الشرطة الدولية "الانتربول" مذكرة توقيف دولية ضده، الذي جاءت بعد أن أعلنت الشرطة الجزائرية أنها لم تستطع إلقاء القبض عليه بنفسها، أو عبر تسليمه من المملكة المتحدة. وتلت ذلك جلسات محاكمات كثيرة لم تغير شيئا في القضية، تزامنت مع محاكمة المتهمين فيها بالجزائر التي أصدرت حكمها الحضوري في حق من استطاعت القبض عليهم. فيما اكتفت بالحكم غيابيا على من استحال عليها إحضارهم وعلى رأسهم "زعيم امبراطورية الفساد" عبد المؤمن خليفة الذي وجد ملاذا في الدولة التي تحاسب فيها ملكة البلاد على بضعة جنيهات استرلينية خارج الميزانية التي تخصصها لها الحكومة، لكن ناهب الملايير الجزائرية وجدت له المبررات "القضائية" كي تبقيه بعيدا عن أي محاكمة ومحاسبة في بلاده. هذه الدول استطاعت استرجاع أموالها المنهوبة لكن وسط التشاؤم الذي يبديه بعض المراقبين من إمكانية استرجاع أموالها المنهوبة والمهربة نحو الخارج، نظرا لصعوبة وتعقيدات الإجراءات القانونية في مثل هذا القضايا، إضافة إلى تعمد الدول التي توجد فيها الأموال تصعيب استرجاعها من طرف الدول التي تطالب بها، إلا أن أمثلة وسوابق لدول استطاعت أن تتجاوز كل هذه العقبات واسترجاع مبالغ معتبرة من أموالها التي هربها الفاسدون نحو الخارج. ومن هذه الدول: مالي: بعد إسقاط حكم الديكتاتور موسى تراوري عام 1998 قدمت الحكومة المالية التماسا قضائيا إلى سويسرا في إطار متابعته جنائيا من أجل استرجاع الممتلكات التي اكتسبها بطرق غير مشروعة طيلة فترة حكمه، واسترجعت ما يقارب 1.5 مليار فرنك سويسري. - نيجيريا: بعد وفاة الديكتاتور العسكري ساني آباشا عام 1998 إثر أزمة قلبية، استرجعت ما يقارب 820 مليون دولار كانت في حساب لدى أحد بنوك مدينة "بال" السويسرية، وحوالي 500 مليون دولار كانت مهربة في بريطانيا و90 مليون دولار في فرنسا. - أنغولا: استرجعت أموال رئيسها خوزي ادواردو دوس سانتوس الذي تولي الحكم عام 1979، لكن إجراءات إعادة ممتلكاته المنهوبة تأخرت حتى عام 2005، بعد توقيع اتفاق بينها وبين سويسرا التي خبأ فيها الديكتاتور السابق ملايينه المنهوبة والتي بلغت 21 مليون دولار. - العراق: بعد إسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، سعت حكومة بغداد لاسترجاع الأموال التي يشتبه أنه قام بتهريبها هو وأفراد من عائلته نحو الخارج، والتي كشفت عن مفارقة كبيرة، حيث كان النظام الذي أطاحت به الولاياتالمتحدة يخفي أمواله في بنوكها، حيث بلغت قيمة ما استرجعه العراق 1.7 مليار دولار. هذه الأمثلة هي جزء قليل من الدول التي استطاعات استرجاع الأموال التي هربها المتورطون في قضايا، وهي كلها تنتمي إلى دول العالم الثالث، مما يشير بوضوح أن اختباء البعض خلف الادعاء أن لا حول ولا قوة لنا أمام الدول الغربية الكبرى التي تخبأ فيها الأموال المنهوبة هو عذر فيه مبالغة كبيرة، ويبين أن الإرادة القوية في استرجاع الحقوق هي الأساس الذي يُنجح كل المساعي المبذولة في سبيلها، إضافة إلى تعيين الكفاءات القانونية القادرة على تسيير الإجراءات القانونية نحو الهدف المنشود. عمار خبابة: فضائح الفساد التي هزت الجزائر تعرقل مساعيها لاستعادة ثرواتها المنهوبة ربط الحقوقي عمار خبابة، في اتصال ب"البلاد"، قدرة الدول التي تعاني من تهريب أموالها نحو الخارج، بتوفر الإرادة السياسية وامتلاكها لدبلوماسية قضائية قوية، مؤكدا أن الطريق نحو استرجاعها شاق ويتطلب إجراءات كبيرة ومعقدة، غير أنه ليس بالأمر المستحيل، حيث سبق لعدد من الدول أن استعادت ممتلكات وأموال من دول أخرى، حولت إليها بعد أن استفاد منها سياسيون أو رجال أعمال بطرق غير شرعية، عبر الاختلاس أو النهب أو التحايل. و أكد عمار خبابة أن عملية استرداد الأموال المنهوبة المودعة في المصارف العالمية، باتت أكثر سهولة مما كانت عليه في السابق، نظرا إلى الإجماع الدولي حول الدور البارز الذي تلعبه هذه الأموال الوسخة في تمويل خلايا الإرهاب العابرة للحدود، وارتباطها الوثيق بعصابات المافيا الدولية، مضيفا أن الدول الكبرى أو ما يعرف بفردوس أصحاب المال الوسخ أصبحت تقيم ألف حساب للأموال التي تحول إليها من طرف أجانب، وتعمل ضمن شبكة مراقبة قوية لحرجة رؤوس الأموال على التدقيق في مصادر هذه الأخيرة، والتأكد إن كانت شرعية أو نتاج معاملات ملتوية وخارجة عن القانون. كما أن البنوك تحرص على التسيير الشفاف للأموال، وهي لا تتردد في تجميدها إذا ما أثبتت اندراجها ضمن عمليات تبييض الأموال والنهب والاختلاس التي جرّمها القانون الدولي ويعاقب عليها. وأكد المتحدث أن استعادة دولة لأموالها وثرواتها من دولة أخرى برغم وقوف التشريعات القانونية إلى جانبها، ليس بالسهولة التي تبدو عليها، إذ يستدعي إلى جانب توفر الإرادة السياسية والإصرار، إجراءات معقدة. كما يحتاج دبلوماسية قضائية قوية قادرة على التفاوض ودفع الدولة المستقبلة للأموال إلى إعادتها. وتساعدها في هذا الصدد جملة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية والثنائية التي تحارب الفساد وتجرمه. ويكفي -حسب المتحدث- أن تكون الدولة عضوا في الهيئة الأممية، لتلتزم بالتعاون مع حكومة دولة أخرى طلبت تسليمه ممتلكات حولها رعاياها عن طريق النهب والتبييض، و في إطار احترام الأعراف الدولية والاتفاقيات الثنائية والمعاملة بالمثل. وقد سبق أن استعادت مصر بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، كافة الأموال والممتلكات التي كانت مودعة في البنوك العالمية باسم الرئيس المخلوع وأفراد من عائلته، وكذلك بالنسبة إلى تونس التي استرجعت ما قام الرئيس السابق زين العابدين بن علي وزوجته بتحويله من أموال وعقارات في العواصم الأوروبية. وبخصوص الجزائر التي تعد من أكثر الدول عرضة لتهريب الأموال، حيث تحتل المرتبة الرابعة إفريقيا، أوضح خبابة أنها في حاجة إلى إصلاح منظومتها القانونية أولا، حتى تكون في موقع قوة حينما تطالب بتجميد واستعادة ثرواتها المهربة، مضيفا أن قضايا الفساد التي فجرت مؤخرا خاصة ما تعلق بمجمع سوناطراك، قضت على سمعة الجزائر بين الدول وأثارت عدة تساؤلات حول مصداقية عدالتها، وهذا -حسبه- يعرقل مطالب الجزائر لاستعادة أموال وممتلكات سواء فريد بجاوي، أو شكيب خليل إذا ما ثبتت إدانتهم قضائيا، أو عبد المومن خليفة وغيرهم من الأسماء التي لاتزال مجهولة.