لم تشر أي دراسة من تلك الصادرة بشكل دوري عن معاهد الدراسات والاستشراف الغربيةوالأمريكية إلى إمكانية حدوث ثورة أو مجموعة من الثورات في المنطقة العربية، مما دفع بالبعض إلى اعتبار ما يجري في العالمين العربي والإسلامي انتكاسة لعلم المستقبل ''فيوثورلوجي'' الذي ظهر أول ما ظهر في الولاياتالمتحدةالأمريكية على يد العالم الألماني ''فولتخياهم'' عام 1943 بعد فراره من ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية. ما يجري اليوم في العالم العربي شكل مفاجأة قوية لكافة المنتديات السياسية والاقتصادية والاستخبارات في أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية، كما شكل ضربة قوية للدراسات الاستشرافية التي ظلت تركز على التوريث وهوية الجيل الثاني من حكام الجملوكيات العربية. فقد ظلت الدراسات التي نشرت هنا وهناك وقامت هنا وهناك عدة معاهد مختصة في الدراسات المستقبلية والاستخباراتية بإعدادها لصالح مؤسسات غربية وأمريكية. هذه الدراسات ظلت تعتمد على انشغال واحد يتعلق بهوية الخلفاء الجدد للآباء والزعماء والرؤساء في العالم العربي، وهذا ما نستشفه على سبيل المثال من برقيات السفارات الأمريكية التي سربها موقع وكيليكس، والتي أشارت إلى تركيز أمريكي وغربي على الخلفاء المحتملين للقادة العرب لدرجة أن إحدى البرقيات أشارت إلى معلومات طلبتها الخارجية الأمريكية حول ولي العهد البحريني تخص أدق التفاصيل المتعلقة بحياته الشخصية. وفي ليبيا كانت الأنظار الأمريكيةوالغربية والعربية متجهة صوب سيف الإسلام القذافي الذي حاول والده تقديمه كخليفة محتمل لحكم ليبيا. أما في مصر فكانت الأنظار والمصالح والمراكز منكبة على متابعة تحركات جمال مبارك، والتفاعلات السياسية التي كانت تشير كلها إلى خطوات للتوريث، ولم تتوقف الأحاديث والتحاليل السياسية والتكهنات الإعلامية عن رسم سيناريوهات ما بعد هذا الرئيس أو ذلك الزعيم لدرجة أن المسألة كانت شبه محسومة، لأن كافة تلك الدراسات كانت قد أقصت الشارع العربي من حساباتها، كون هذا العامل برأي القائمين عليها في الغرب لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على حسابات وترتيبات الحكومات في العالم العربي. تفاعلات الشارع تجاه تراكمات من الداخل والخارج فجرت دون سابق إنذار ثورة غير محسوبة، بدأت في البداية بصوت خافت شبه محتشم حول مطالب اجتماعية بسيطة، ثم امتدت إلى قلب كافة التوقعات والنظريات السياسية في مفاهيم الثورات في العالم العربي، لا أحد في الغرب أو في أي منطقة من العالم كان يتوقع سقوط أحجار الدومينو في العالم العربي بهذه السهولة، حتى الدراسات المعمقة التي أوكلت إلى مؤسسات ذات تقاليد راسخة في هذا المجال من قبل مصالح استخباراتية في الغرب، فشلت في توقع انتكاسة في العالم العربي بالصورة التي نراها اليوم. من تونس مرورا بمصر إلى ليبيا، تشتعل ألسنة الثورة في عباءة الأنظمة العربية. وفي العراق وبرغم الوضع الصعب الذي يمر به هذا البلد فقد اشتعلت ثورة الضعفاء كما يصفها بعض فقهاء العراق، وقبلها في اليمن لايزال الشارع يغلي، وغير بعيد عن المنطقة تفاعلات خطيرة تعرفها مملكة البحرين، وفي الأردن حراك خاص على النحو الجاري في المملكة المغربية حيث تطالب المعارضة بالحد من صلاحيات الملك. وبين هذا وذاك تعرف سوريا والجزائر إجراءات تحت عنوان الإصلاح تسابق في تسارعها سرعة الثورة المشتعلة في الجسد العربي. لا شك أن مؤسسي علم المستقبل والاستشراف سيضطرون إلى مراجعة الكثير من الآليات والأسس التي يستند إليها التعبير الاستشرافي في قراءة الأحداث وخلفياتها وأبعادها. حيث لم يعد كافيا أن ينكب العلماء على قراءة مجموعة من الرسائل السياسية والاجتماعية والإعلامية لاكتساب مهارة استشراف الأحداث. إن خطأ الاستخفاف بعوامل تبدو بسيطة أو محدودة التأثير أدى إلى إسقاط كافة التوقعات مما يؤدي بالتالي إلى ترسيم خطط خاطئة للتعامل مع أحداث وتطورات غير موجودة أو مطروحة على الواقع. لقد أحست تلك المخابر والمعاهد بأن الثورات القائمة في المنطقة العربية ألحقت بها هزيمة نكراء على النحو الذي ألحقته بالمنظمة التي كانت تستقي منها معطيات خاطئة هي الأخرى تلتقطها أجهزة الداخل المنقطعة عن الشارع أو التي لا تتحصل على حقيقة التوجهات الغالبة لدى الرأي العام. شيء آخر لا بد من الإشارة إليه، وهو أن التفاعلات القائمة في المنطقة أصبحت غير معروفة في حدود نهاياتها المتوقعة، ورياح التغيير التي تهب على العالم العربي لا يبدو أنها ستتوقف عند حد معين كما لا يمكن التكهن بامتداداتها، تماما مثلما يصبح من الصعب توقع تأثيراتها على البلدان العربية التي لن تحدث فيها تفاعلات بالشكل الذي نراه في تونس ومصر وليبيا...فقد أصبح الأمر مفتوحا على كافة الاحتمالات بعدما وجدت المعاهد المختصة نفسها أسيرة حالة استثنائية في التاريخ العربي.