ليسوا أربعين ولا خمسين.. الأحاديث التي تروى عن النبي بأنه قال إن الجيران الذين يوصي بالإحسان إليهم هم فقط الأربعون جارا الذين يعيشون بجوار مسكنك هي أحاديث ضعيفة ، و علاقة الجوار لا تقتصر على من يعيش في المنزل المجاور لمنزلك ، علاقة الجوار أوسع من ذلك ، وسنضيّق واسعا عندما نبحث عن حدود مثل هذه لصفة الجار الذي نحسن إليه ولا نؤذيه. أعلم أننا نفعل ذلك بحسن نيّة..أعلم أننا نريد أن نعرف من هو الجار الذي أوصى به النبي حتى نحسن إليه ؟..نريد أن نعرف من هو الجار الذي أوصى به جبريل عليه السلام حتى ظن النبيّ أنه سيورّثه ويجعل له حقّا في المال مثل حقّ البنات والبنين؟ ومن هو الجار الذي قال النبيّ عنه أن خير الجيران عند الله خيرهم إلى جاره ؟..أعلم أن نوايانا كانت طيّبة جدا عندما جعلنا الجيران أربعين جارا يعيشون بمحاذاة بيوتنا ، أو أربعون في كلّ جهة من جهات البيت الأربع، وجتى عندما تقلّص العدد إلى جار واحد حين توّهمنا أن النبي أوصى بالجار السابع !..لكن من الواضح أن الإجابات التي قدّمناها لأسئلتنا غير صحيحة ، بل إن طريقة طرح الأسئلة كانت خاطئة أصلا ، فالسؤال الذي كان علينا أن نطرحه قبل "من هو الجار؟" و "ماذا نفعل وماذا لا نفعل مع الجار؟" هو "لماذا يوصينا النبي بالجار؟" و لماذا مازال جبريل يوصيه عليه الصلاة والسلام بالجار حتى ظن أنه سيورثه؟ ، ولماذا يقسم النبي :"والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن..من لا يأمن جاره بوائقه" ؟ ، ماهو السبب الذي يجعل الجار يحظى بهذه العناية؟.. لماذا الجار بالضبط؟.. ألأنه مسلم؟..لا ، الدين يأمر بالإحسان للجار مسلما كان أو غير مسلم، فإن كان مسلما فله حقّ الأخوة في الدين وحقّ الجوار ، وإن لم يكن مسلما فله حقّ الجوار..إذًا لقرابته العائلية أو لأنه ابن البلد أوالعشيرة ؟..لا ، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز :" وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ" ( النساء – 36 )، فالإحسان يكون للجار ذي القربى و الجار الجُنب أيضا، أي الجار الذي لا تربطنا به علاقة قرابة عائلية ، فالأمر إذًا لا يتعلق بالأخوة في الدّين ولا بالقرابة ، هناك حقّ لأخوة الدّين ولصلة الرحم والقرابة ، ولكن للجار حقّا آخر على ما يبدو وهو الجوار ، ولكن هل هو جوار السكن وحسب ، أم أنه الجوار في أيّ مكان..؟..لا بدّ من أن يكون الجوار الذي يوصي به جبريل عليه السلام بتلك الطريقة التي وصفها لنا النبي أوسع من مجرد تجاور المساكن ، لا بدّ من أن يكون سبب هذه العناية الفائقة بحقّ الجار أمرا أهمّ وأجلّ من ذلك التعداد الساذج لمن تشملهم "حصرا" صفة الجوار.. الجار ليس من يسكن بجوار مسكنك فقط.. ولكنه أيضا من يجلس بجانبك في الحافلة ، ومن ينتظر خلفك أو أمامك في الطابور ، إنه من يستعمل مقاعد الحدائق العامة ومصاعد البنايات التي تستعملها ، ومن يقود سيارته على نفس الطريق التي تقود سيارتك عليها..الجار هو أي شخص يمكن أن تكون قريبا منه ويمكن أن يكون لقربك وجوارك تأثير عليه ، بالسلب أو بالإيجاب ، وهذا هو السبب الذي يخوّله هذه العناية المقدّسة ، إنه سبب للنفع ، وسبب للضرر في نفس الوقت ، أقرب الناس إليك في أي مكان هم من بإمكانهم أن يسببوا لك الإزعاج أكثر من غيرهم ، وأقرب الناس إليك في أي مكان هم من بإمكانهم أن يجعلوك تبتسم أكثر من غيرهم ، فعندما يشعل شخص ما سيجارة في مكان عام فإن الذين سيؤذيهم بشكل مباشر هم الذين يكونون بجانبه ، ولذلك يوصي الدين بالجار على وجه الخصوص..أي ذلك الشخص الذي يكون قريبا منك في أي مكان ، لأنه أكثر من يمكن أن تؤذيه ، وأكثر من يمكن أن تحسن إليه بسبب الجوار. لا تعطّل مسيرة شخص بسبب عبورك من نفس خطّ مسيره..لا تقُد سيارتك بشكل يضايق السائقين الآخرين ، إنهم جيرانك في الطريق..لا تركنها في مكان غير مناسب فيعجز الآخرون عن السير إلى مشاغلهم ، إنهم جيرانك في تلك اللحظة التي يمرّون بها أمامك ، فأحسن إليهم..لا تكسر كراسي الانتظار في محطات الحافلات ، سيأتي جيرانك في هذه المحطات وسيكونون في حاجة إلى المقاعد..اترك أي مكان تمرّ به نظيفا لجارك الذي سيأتي إلى نفس المكان في المطعم أو في الحديقة العامة ، ربما لن تلتقي به ولن يراك ولن تراه لكنك بمجرد أن تمرّ بنفس المكان الذي يمرّ به فقد أصبحتم جيرانا في ذلك المكان ، فإما أن يؤذيه مرورك ولو بعد حين وإما أن تكون جارا جيّدا ..و هذا هو مبدأ حسن الجوار : أن لا يكون قربك وجوارك سببا للأذى ، في المسكن أو في أي مكان وزمان يجب أن لا يكون وجودك وجوارك سببا للأذى أو الإزعاج أو المضايقة لأي شخص لأنه "جار". يروي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجَد غُصنَ شَوكٍ على الطريق فأخَّره، فشَكر الله له؛ فغَفَر له))؛ (متفق عليه) ، يمكننا أن نعتبر ما فعله هذا الرجل السعيد من حسن الجوار ، لأنه أبعد غصن شوك عن الطريق ليزيل الأذى عن جيرانه في تلك الطريق..لقد أحسن جوار جيرانه الذين سيأتون فيما بعد ، فالجار ليس من يجاورك في المسكن وحسب ، ولكنه أيضا من يستعمل نفس الطريق ونفس الوسائل ونفس المرافق العامة ، في أي مكان وبأي وقت.