في دراسته المعنونة "القبيلة والدورة العصبية: قراءة في التحليل الخلدوني للمجتمع المغاربي" يشير الباحث المغربي المختار الهراس إلى تحديد إيف لاكوست لمفهوم العصبية عند ابن خلدون والدكتور محمد العابد الجابري؛ فالأول "لاكوست" يرى أنها "المقياس الذي حدا ابن خلدون على التحدث في نطاق العمران البدوي عن صنفين من القبائل: قبائل خاضعة ومنقادة وضعيفة التلاحم، وبالتالي فاقدة لقوة العصبية ومنفعلة بالتاريخ ثم قبائل قائدة ومسيطرة وشديدة الاندماج وبالتالي ذات عصبية فاعلة في التاريخ ومحركة للتطور المجتمعي". العصبية والرابطة الاجتماعية بالنسبة للدكتور المفكر العربي " فإن العصبية رابطة اجتماعية سيكولوجية شعورية ولا شعورية معا تربط أفراد جماعة ما قائمة على القرابة ربطا مستمرا يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد: كأفراد وكجماعة، فماذا تبقى من هذه الرابطة في مجتمعاتنا المعاصرة"؟ ويدعو ابن خلدون تلك الرابطة بالعصبية. يجمع دارسو فكر هذا المؤرخ الكبير بأن العصبية تعني أساسا روح الشعب، أوالجماعة، وتعني أساسا روح الشعب أوالجماعة، وتعني أيضا مزاجه وعبقريته. فالعصبية ليست رديفا للتعصب كما يحلو للبعض أن يؤولها. فالشعوب التي لا تربطها العصبية- أي تلك الروح المشكلة لهويتها وللبنيات المكونة لتاريخها ونفسيتها- هي شعوب متشظية ومحكوم عليها بالتفتت. فماذا بقي من هذه العصبية في بلداننا من المحيط إلى الخليج؟ إذا كانت روح الجماعة، أو الشعب، أو النظام، أو الشكل البشري الأكبر والأوسع هي ضمان الوجود، والأمن والتطور، والإبداع والحرية فإن مشهد بلداننا على المستوى القطري الداخلي أوعلى المستوى الكلي والعام ينذر بانحطاط شامل. في هذا السياق فإنه ينبغي أن ندرك بأن الدفاع عن العصبية لا يعني فرض الوحدة بالقوة أوالتنكر للتنوعات التي هي الرأسمال الجوهري للكل وللجزء معا. فالعصبية التي نظر إليها ابن خلدون قد اشتقها من المجتمع الإسلامي الذي عرف إذ ذاك بتعدديته وتنوعاته من حيث اللغات والآداب والعلوم والفلسفات، والفنون، والاجتهادات في فهم وتأويل النص الديني. ومن هنا فإن المفهوم الذي أعطاه هذا المؤرخ للعصبية يتنافى مع الانغلاق، ويتناقض مع تعسفات المركزية المستبدة بالأطراف. إنها تدل على تلك التركيبة التاريخية المشتركة التي تتشكل من التنوعات دون أن تتحول إلى نفي للعناصر المكونة والمتماسكة والمتناغمة. فالعصبية بهذا المعنى لا تعني الحكم الشمولي ولا تعني اختزالا للفروقات، بل هي تأسيس إبداعي للكليات التي لا تدمر الأجزاء المكونة لها ككليات. فالثقافة الإسلامية التي وفرت على سبيل المثال فضاء للتعايش الأوزبكي والطاجيكي والأفغاني والهندي والعراقي والمصري، والجزائري والأندلسي وهلم جرا هي كلية متفتحة لم تلغ مكوناتها الجزئية. في هذا تكمن قوة وإبداعية هذه الثقافة، وبمجرد أن شرعت في التخلي عن هذا التقليد انحدرت الدولة الإسلامية وتفككت وتحولت إلى موزاييك من دويلات ملوك الطوائف، وإلى مشيخات وإمارات مجهرية. فالسؤال الذي يطرح هنا مرة أخرى هو ماذا تبقى من موروث هذه العصبية التي تحدث عنها ابن خلدون، وطنيا وإقليميا وعلى المستوى الممتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج؟ من بين أخطر نتائج مرحلة الاستقلال ببلداننا هو جعل الإيديولوجيات السياسية الحزبية المغرقة غالبا في المحلية اللاغية للوحدة كأساس لتحديد الهوية، علما أن هذه الإيديولوجيات ليست نتاجا للعمق الثقافي الديمقراطي، إنما هي مجموعة من شعارات السلطة المفروضة فرضا. تغير في المفاهيم والدلالات فالعلاقات بين بلداننا مؤسسة إذن على أيديولوجية السلطة وليس على سلطة الديمقراطية، وهكذا حولت العصبية إلى تعصب إيديولوجي لأنظمة الحكم، وتحولت أيضا إلى عصابات، ولذلك انتشرت ببلداننا إيديولوجيات العصابة بدلا من ثقافة العصبية التي هي روح الشعب، أو الجماعة ونتيجة لذلك وجدنا مفهوم الرعية قد حل محل مفهوم المواطنة، ومفهوم الحشد قد حل محل الجماعة ومفهوم الشلة يقصي مفهوم الفريق.. إلخ. الأدهى والأمر أن كل هذه الانحرافات على مستوى المفهوم والنظرية والممارسة قد وجدت لنفسها تجسيدات في الحدود العالية والمسننة والمحروسة بالخناجر، وفي التعليم ومناهجه وبرامجه، وفي حقل الإعلام النخبوي السلطوي. إنه بدلا من عصبية تتجسد في الاقتصاد المتكامل، وفي الأمن الموحد، وفي المواقف المعبرة عن المصالح الواحدة والموحدة فإننا نجد تكريسا للعصابات القطرية وللأقطار كعصابات. فحتى مفهوم الوطنية قد حرف عن مساره وفرغ من محتواه. وفي الواقع المعيش ببلداننا نجد شعار الدولة الوطنية لا ينطبق على واقع الحال كما يقول ابن خلدون. إنه بدلا من الدولة الوطنية والدولة- الأمة، هناك تكريس لدولة المستوطنين ولدولة الجهل المجذرة للأمية وللفقرين: المادي والتعبدي كما يقول الفقهاء. فالتوطين هو عملية نقل للبشر من فضاء إلى فضاء وهذا ما يطبق علينا يوميا، إذ نوطن في الزنازين إذ عارضنا وانتقدنا الأخطاء، ونوطن في الأقفاص الفكرية إذا قبلنا وأصبحنا جزء من الشعارات والإيديولوجيات المفصلة مسبقا، أي قبل ولادتنا والمفروضة بحذاء الشرطة. وهكذا يشعر كل واحد منا بأنه مجرد مستوطن، ومن هذا الإحساس ينبع حس عدم الانتماء ومن الإحساس بعدم الانتماء تتفرخ النعرات الضيقة والأمراض الاجتماعية وشتى ظواهر التخلف والعشوائية واللامبالاة والتحايل على الناس والقانون، وهلم جرا. وهكذا تتولد أيضا سلوكات لا علاقة لها بالوطنية فما هوالبديل إذن؟ إنه يكمن في تجاوز هذا الإرث الثقيل بشجاعة وتجاوز ما يولد العنف في بلداننا. أشكال العنف يقول فانون، بما معناه، بأن كل مجتمع تراتبي ومنقسم ومقموع وفيه تفاوت طبقي بين سكانه هو مجتمع عنيف ومجتمع عنف، وهكذا فإن انتشار الجهل عند غالبية المستوطنين منا وتمتع الأقلية المجهرية بكل شيء هو منتهى القسوة والظلم. إنه يبدو بأن هذه الظواهر المتعسفة هي التي تحطم وتجهض بعض المحاولات التي تبذل هنا وهناك لتلحيم الشظايا، وجمع الأوصال المشتتة سواء على مستوى ما يدعى بالوطن أو الأمة الإسلامية. إن التفاوت الطبقي الذي أشرنا إليه هو مصدر الفرقة، وإسقاط الإحساس بالانتماء. إن احتكار الثروة من طرف جماعة أو شلة تشترك في العرق أو الطائفة أو الإيديولوجية، أو في المصالح البراغماتية على حساب الأغلبية الساحقة من المواطنين من علامات تخلف بلداننا وخاصة في فترة الاستقلال. إن الإنسان ليصاب بالدهشة والفزع عندما نصطدم في مدينة واحدة، وفي قرية واحدة بعالمين عالم متخم ومشبع بالملذات ومكدس بالشقق والفلات الضخمة، وعالم آخر يعاني من البطالة والتشرد، وتتوزع فيه البيوت القصديرية، وتنتشر فيه الأوبئة، وتعم في ظلامه الجريمة. إن الأبشع من ذلك هو أن السلطات الحاكمة تلقب هذا العالم بفضائه الجغرافي، وبشره الذين يبدون كالظلال المرتجفة بالمنطقة الشعبية التي يجب المحافظة عليها باعتبارها تراثا وطنيا. على أية حال فإن انقسام هذين الفضائين إلى فضاء للمترفين و أهل الحل والربط وفضاء للرعية المسكينة ليس ظاهرة بلد واحد من المحيط إلى الخليج، بل هو واقع عام وشامل، ويبدو أنه القاسم المشترك ويمثل القاعدة وليس الاستثناء. على ضوء الإشارة إلى هذه الصور المؤذية يمكن لنا أن نجيب عن الأسئلة التي طرحتها منذ البداية والتي تتعلق بانعدام تحقق التنمية والتحديث وعلى المستوى القطري. وتتجلى هذه الصور المؤذية في العلاقات القائمة بين الدول العربية، وبين الدول الإسلامية. إنها علاقات أنظمة متصادمة ومتصارعة ومتناقضة لحد التطليق. ولقد أدى هذا إلى إنتاج ثقافة التشكيك وعدم الثقة، والولاء للقوى الأجنبية وفي طليعتها القوى الغربية المعادية والمتربصة بنا سياسيا وأمنيا واقتصاديا وعسكريا. إنه لا يمكن أن تزدهر التنمية على جميع الأصعدة في مناخ القيود والوصاية وتحجيم المواطنين، والتلاعب بمصائرهم. وفي الواقع فإن الأنظمة العربية والإسلامية باستثناء بعض قليل جدا من الدول الإسلامية في آسيا، مثل ماليزيا لم تحقق مشروع دولة القانون، والكفالة الاجتماعية والتحديث العمراني الذي يراعي الهوية الثقافية ونسبية الازدياد في تعداد السكان، والحاجة إلى السكن اللائق. وفضلا عن ذلك فإن بلداننا فشلت فشلا ذريعا في بناء منظومات تربوية تثمر الفاعلية وترتبط بخيارات التنمية بكل أشكالها. على الرغم من مرور لا يقل عن أربعة عقود على حصول هذه البلدان على استقلالها فإن نسبة الأمية الحرفية فيها تتراوح ما بين خمسين إلى ستين بالمائة، ناهيك عن الأمية التقنية والإدارية والقانونية، والسياسية والعلمية والفكرية المنتشرة حتى بين صفوف النخبة المتعلمة شكليا وبين النخب التي تتداول على الحكم والتسيير والتوجيه السياسي والعسكري. إنه أمر واقع تشترك فيه بلداننا حتى أصبح الناس يخترعون شعار الوحدة المرفوع هنا وهناك، فلسان حال هؤلاء الساخرين يقول: "بعدما فشلنا في تحقيق التنوير، والتحرر الاقتصادي، والديمقراطية، يبدو أن التخلف هو الإسمنت الوحيد للوحدة العربية المقبلة". أليست هذه السخرية نتاجا لإحلال ثقافة العصابة محل التكامل العضوي في مجتمعاتنا؟!.