العشائر العراقية عرفت عبر تاريخها بمواقفها المبدئية, والتاريخ يشهد لها أثرها الفاعل في قضايا الأمة, وأصالة العشائر العراقية نابعة من اعتزازها بعروبتها التي تستمد من بيئتها شموخ العشيرة وأنفتها عن الخضوع للمستعمرين, والغيرة العروبية من أجل الشرف في العشيرة والتي تقدم من أجله الأرواح والأملاك حتى وإن دعا ذلك الأمر إلى التضحية بكل ما تملك العشيرة, وهي تقدم أغلى أبنائها من أجل الدفاع عن الشرف, وجاء الإسلام فأضاف لها عزة الإيمان وقوة المبدأ الإسلامي الحنيف, واعتزازها بإسلامها وعقيدتها ومنهجها القويم, حتى صار الدين فيها أغلى المكرمات, الذي أوجب فيها حفاظها على دينها وحرماتها ومقدساتها ونهج إسلامها, الذي استمدّت منه عزة الإيمان وثبات المجاهدين, وهي تفخر في الحفاظ عليه وتقدّم من أجله التضحيات الجسام, وكم حفظ التاريخ المواقف العشائرية التي ذادت عن الإسلام. ولا يخفى الدور العشائري في عملية التغيير في المجتمعات, والتأثير الكبير على المتغيرات الدولية, ولطالما وقفت دول بكل ما تملك من قوة, عاجزة أمام النفوذ العشائري في المجتمعات, وكم من المعضلات التي عجزت عن حلها دول تدخلت فيها العشائر وقامت بحلها, وهذا ما يثبت سلطان العشائر وثقل تأثيره في إحداث عملية التغيير, وهذا الاعتبار الذي تميزت به العشيرة إنما كان لقوة الحق الذي تتبناه, من الغيرة والشرف ورفع الظلم والحكم في الدماء وتحديد الديات وفصل المواقف بين المكونات العشائرية في الدول, واستطاعت أن تفرض نفسها ووجودها على ساحة الأحداث عبر التاريخ وتكون هي اللاعب الأكبر في أحداث سجلت التغيير الواضح في سياسات الدول .. لأنها تدور مع الحق, ولكن إذا استدرجت وركنت للظلم وجانبت الحق وابتعدت عن جادة الصواب فإنها تكتب على نفسها التغييب وذهاب السلطان, وقد تؤول الأمور في العشيرة إلى تغيير الهيكلية في الترؤس ومشيخة العشيرة, وقد يأتي الدور السلبي للعشائر في مرحلة ما, على انحسار الدور العشائري وغيابه وذهاب اعتباراته في المجتمع, وقد يأتي على النظام العشائري فيزيله عن المجتمع عندما يغرر بالعشائر وتسقط في المشاريع التي تؤدي بها إلى انقلاب الموازين والأصول التي قامت من أجلها العشيرة, والخروج عن السنن قانون الله تعالى الذي يسري على جميع خلقه أنظمةً وأقاليم ودولاً وتكتلات وأي نظم مجتمعية أخرى في جدلية العدل والظلم الذين أسس لهما علماء الإسلام القاعدة العلمية التي تقول:(إن الله تعالى لا ينصر الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة, وينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة) والعشائر في الأمة لها كيانها الواضح الذي لم تستطع النظم الجديدة في التاريخ من أن تلغي وجودها وهيكليتها ومسمياتها, ولم تلغي وجودها المؤسسي والوظيفي والعصبوي, على الرغم من سعة النظم الجديدة التي ظهرت في المجتمعات ولم تتغلب عليها, مثل: الأمة الإسلامية وحتى مسمى الأمة بمفهومها القومي والدولة والمجتمع, بل كانت القبيلة حجر الزاوية والنواة في نظام الأمة الإسلامية, لذا فالعشيرة كيان له وجوده واعتباراته وهو يخضع أيضاً لقانون الله تعالى في قاعدة "العدل والظلم" وارتباط وجود الكيانات وقيامها عليه. والعشائر في الإسلام ومجتمعاته ليست نظاماً لحفظ الأنساب فحسب, وإنما صيّرها بوتقة لانصهار الأخلاق ومعاني الإيمان وضوابط الإسلام والغيرة والتضحية من اجل عفة النساء في العشائر وشرفهن, وعدم انحراف أبناء العشائر وجنوحهم باتجاه الأخلاق الفاسدة, حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من التأثير والسلطان, وصار رؤساء العشائر هم أصحاب النفوذ والسلطان ولهم الكلمة المسموعة والطاعة من أبناء عشائرهم, ولكن إذا انحرفوا بهم عن الشرف والغيرة وضوابط الدين فستنبذهم رعيتهم وتجاوزهم حتى يصل الأمر إلى عدم الاعتراف بهم والتخلي عن النظام العشائري لأنه فقد العلة من وجوده. لعشائر العراقية وإستراتيجية الدائرة الخبيثة "دراسة ومقارنة الأدوار" و"الدائرة الخبيثة"التي استدرجت إليها العشائر العراقية هي الشر الوبيل والخطر المستطير الذي خطط له الاحتلال الأمريكي وسعت حكوماته لتنفيذ ذلك المخطط الذي يستهدف تغييب النظم العشائرية في العراق, لما عرفته عنها عبر تاريخها بأنها صمّام الأمان في الأمة, وهي الحصن الحصين للأخلاق في الأمم والبلاد, وهي التي تقدّم الأبناء وتضحي بهم من أجل الذود عن الإسلام ومقدّسات المسلمين والذود عن حياض الأمة, وهي التي تُحَرّضُ الأبناء من أجل الإقدام وبذل الأرواح لطرد المحتلين, فعملت على الإيقاع بها في "دائرتها الخبيثة" لكي تميت فيها الروح المعنوية وتقتل فيها الأخلاق, فإذا تمكنت من ذلك فإنها تعلم قطعاً إن وجود العشيرة مرتبط تماماً مع الأخلاق والغيرة والمحافظة على شرف المسلمات وعفتهن, وهي تزول ويغيب ظلها إذا تخلت عن ذلك, وراحت تلهث وراء سراب الاحتلال ووعوده وإغراءاته, والحكومة إذ تستقبل العشائر وهي تبارك للمالكي وهو يستخدمهم شر استخدام ويجعلهم مطية لأحلام الكافر المحتل وهم يتخلون عن البلاد والعباد, ويتخلون عن شرف النساء في العشائر التي ملأ المالكي سجونه بهن, ويتخلون عن أبنائهم الذين يرزحون بعشرات الآلاف في سجون الاحتلال وحكومته, ورضوا لأنفسهم بمكاسب الدولارات وهم يبيعون الأرض والعرض وقد أصبحوا السيف الذي يضرب به الاحتلال أبنائهم, واستطاعت حكومة الاحتلال استخدام بعض شيوخ العشائر بتجييش أفراد عشائرهم لخدمة المالكي وهو ينفذ بهم مآربه وغاياته لشرعنة حكومته وخدمة المشروع الأمريكي, والأموال التي تبذلها الحكومة من أجل شراء الذمم, لا تشكل شيئاً أمام إزالة وجود العشائر وهيكليتها وتغييب نظامها القبلي في العراق وإزالته من الوجود. وعند اشتداد المنافسات السياسية بين القوى المتناحرة في الأحلاف السياسية الاحتلالية, فإننا نشهد ذلك الحراك السياسي باتجاه العشائر للاستقطاب والتوغل والاستخدام والتحكم, ومن العيب الكبير على العشائر العراقية الضاربة في التاريخ وهي تنطلي عليها تلك المخططات لامتطائها وجعلها جسراً لأطماع الكافر المحتل ومشاريعه وهي تتخلى عن دورها التاريخي المشرف. وعندما يستدرج الاحتلال ومرتزقته من بعض العشائر العراقية لدائرته الخبيثة فإنه يحقق في ذلك مجموعة غايات وأهداف ومنها:- 1. ضمان اصطفاف العشائر مع الاحتلال وحكوماته واستدراجها لدائرته التآمرية على الأمة الإسلامية, وبذلك تعمل على تجييش العشائر لقتال أبناء جلدتهم وأبنائهم الغيارى على الدين وعلى العرض والأرض. 2. تحصل الحكومة من خلال التأييد العشائري لها, لتعلن نجاحها بكسب التأييد الشعبي المرحلي في مرحلة الضعف, لكنها عندما تقوى في أداءها فإنها سرعان ما تتخلى عن إسناد العشائر لها, لأنها لا تعتمد على ذلك كثيراً لعدم ضمان استمرارية التأييد العشائري, لأنها ستضعها في خانة من يبيع ذمته, ومن يفعل ذلك لا يمتنع عنه أن يبيع ذمته لغير الحكومة لا سيما إذا كان الدفع أكثر. 3. تضمن قوات الاحتلال عمل العشائر لتنفيذ مشاريعه وإيصال المعلومات الدقيقة لجميع الأحداث, وإيصال الأخبار لقرب أفراد أبناء العشائر للمعلومة التي يحتاجها الاحتلال وحكومته. 4. استخدام العشائر لضرب جميع فصائل المقاومة بأفاعيل غيرهم, من أجهزة المخابرات والشركات الأمنية ومليشيات الأحزاب المرتزقة, المشاركة معه بعمليته السياسية, المتنافسة على المناصب السياسية والمكاسب التي يعرضها الأمريكان عبر احتجاجهم على عمليات المقاومة وتبعاتها البسيطة إذا ما قورنت بمجازر الاحتلال ومقابره الجماعية في قصف مدن بكاملها, وجرائم القتل الجماعي التي ترتكبها مليشيات أحزاب الحكومة وهي تهجم على مدن بكاملها. 5. سَخّرَ الاحتلال بعض العشائر لتسليم المطلوبين والإخبار عنهم, أو قتل المجاهدين من فصائل المقاومة. 6. إلغاء دور فصائل المقاومة عندما تعلن حكومة الاحتلال اصطفاف بعض العشائر عبر مبالغاتها الإعلامية, بأن جميع العشائر تزدحم اليوم على بوابات المنطقة الخضراء ومكاتب المالكي وهي تطلب اللقاء والتأييد لحكومته, وبالتالي فلا شرعية لأعمال المقاومة, ومن يخرج عن هذا الاصطفاف العشائري فإنه يدخل في قوائم الإرهابيين المطلوبين للحكومة. 7. عندما تعمل الحكومة على الحصول على اصطفاف العشائر مع مشروعها فإنها تعلم يقينا إنها إذا وفقت في أداء ذلك فإنها تصيب العشيرة في مقتلها, وعندها ضمنت إسقاط النظام العشائري في الهيكلية الاجتماعية, وإذا نجحت في ذلك فإنها تكون قد قضت على حصن كبير من الحصون المنيعة التي إذا ما انتفضت فإنها لن يقف بوجهها واقف, وستقضي على الروح الباعثة للإقدام والتضحية في الشعب العراقي,, والاحتلال وأجراؤه يعرفون قدرة العشائر العراقية عندما تنتفض غيرتها فلا تنتهي إلاّ بتحرير البلاد ولن تبالي بكل التضحيات. ولكنه إذا ضرب العشيرة عبر إسقاطها وجلبها إلى دائرته الخبيثة لتَخْبُث معه في دورها وتنتكس, وعند ذلك يكون قد حقق ما عجز عنه الأمريكان, في قتل النظام العشائري وإزالته من الهيكلية المجتمعية العراقية • العشائر من العصبية المفرطة إلى التدجين: كانت العشائر تبذل خيرة شبابها وأغلى ما تملك من أجل شرف المرأة في العشيرة, ألم تكن العشائر قبل الاحتلال تضحي بالمئات من الشباب الغيارى في العشيرة إذا ما تعدّى شخص ما؟ على عفة المرأة في العشائر؟, ألم تكن العشيرة تستنفر كل أبناءها إذا ما انتهك شرف المرأة فيها وهي تعتبر شرف المرأة فيها شرف كل أفراد العشائر؟؟ ألم تكن العشائر تجيّش الأفراد إذا ما تجرأ أحدٌ من أبناء عمومتها أو من عشيرة أخرى أن ينظر إليها بنظرة ولو عن غير قصد؟ ألم تكن العشائر تفقد عشرات الأبناء من أجل قنطرة على نهر, أو على بضعة مترات من الأراضي الزراعية؟ ألم تكن العصبية القبلية طاغية وواضحة في المجتمع العراقي؟ واليوم يسكتون عن احتلال لكامل أرض الإسلام, والكافر الصليبي ينتهك أعراض نساء العشائر ويغتصب السجينات اللاتي يعتقلهن بجرائر آبائهن أو إخوانهن من أسود الوغى, الغيارى على الدين العرض والأرض, وهم يصمون آذانهم كالخشب المسنّدة, كأن الأمر لا يعنيهم, ولا تستفزُّهم كل بحار الدم من جرائم الاحتلال وهو يذبح أبنائهم, وقد ذبح المئات من العوائل بأطفالها وشيبها وشبابها في بيوتها, وبعض شيوخ العشائر يباركون للمالكي وأسياده تلك الأفاعيل وتلك الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية, وهم يرون الاحتلال ينشر المخدّرات والأفلام الماجنة ويشجع على التخنّث وزواج مثيلي الجنس في شوارع العراق ومن يتجرّأ على إنكار ذلك فإنه يتهم بالإرهاب والعنصرية, واليوم تنتشر الرذائل في ثنايا المجتمع العراقي كلها وشيوخ العشائر كأنهم لا وجود لهم, وفعل الاحتلال بأبناء العراق الأفاعيل من محو الهوية الإسلامية وإماتة الغيرة العروبية في نفوس أبناء العشائر, ووصلت المخدّرات التي تصدّرها "إيران"إلى العراق وقد انتشرت في جميع المحافظات ووصلت ليتعاطاها أبناء العشائر ومحيطها, وتم تغيير المناهج الدراسية إلى المناهج الشعوبية الحاقدة على العرب والإسلام والمسلمين, وبدأ طلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة وجميع المراحل الدراسية بتعاطي الحبوب المخدّرة, وفي الكليات تباع اليوم حبوب مخدِّرة يسمونها "حبوب النشوة" إيرانية الصنع وتباع المائة حبة منها بخمسمائة دينار عراقي -أي ما يعادل نصف دولار- ولا غرابة في رخص أسعارها فإن إيران لا تبالي بإنفاق المليارات من الدولارات إذا كان الهدف تدمير العراق وإفساد شعبه, والطلاب في جميع المراحل الدراسية يتداولون المقاطع"الفديوية"الماجنة, وتكشف المدارس اليوم عن تداول الطالبات لهذه المقاطع في أجهزة الهاتف النقال حتى أصبحت إدارات المدارس تشتكي من هذه الظواهر الباعثة على الرعب, وتستصرخ كل من في دمه ذرّة من غيرة؟؟!! فكيف واليوم.. بعض مضايف شيوخ العشائر اليوم تضيف الأمريكان الصليبيين وتصنع مآدب الطعام الفاخرة-مقبوضة الثمن سلفاً- وغاصب شرف العراقيات يُضيّف بالكرم العشائري العربي, ويدخل الصليبي النجس بيوت الضيافة"مضايف العشائر"! ويدخل مباشرةً بحجة التعرف على الطبائع العربية في الداخل, ويدخل إلى المطبخ مباشرةً ويسلم على النساء ويصافحهنّ وقد كان لا يتجّرأ ابن عمها أن ينظر إليها غيرةً منه عليها, والأصول العشائرية تقتضي أن لا يفعل ذلك, والبعض منهم يُقِيمُ "للأمريكان الأصدقاء"-وفق العرف العشائري الديمقراطي الجديد- يقيم الحفلات الراقصة ويأتي ب"الراقصات" وأغرب ما نقل الإعلام: (عندما خاطب أحد شيوخ العشائر إحدى الراقصات لتجلس مع الميجور جونسن ليحتضنها, فقالت له ألا تستحي على شرفك إنما جئتم بنا للرقص وليس غير وفي الآونة الأخيرة نشط الحراك السياسي الأمريكي والحكومي والأحزاب الحكومية المشاركة في العملية السياسية تجاه العشائر العراقية, ليس من أجل عيون العشائر, وإنما للانحراف بها واستخدامها في مشروعه لغرض توظيفها كأداة طيعة بيد الاحتلال وأجرائه لتنفيذ مشروعه في العراق, ضارباً فيها عمقها الإسلامي وأخلاقها العربية وغيرتها ومبدئيتها, ومذيباً لكيانها من خلال مخطط أمريكي لإيقاعها في شراكه, ليصطاد بهم أبناء العراق الأمناء, وصيّر من وقع منهم في حقوله الملغمة أدوات لمشروعه, ولم يحدث لعشائر العراق عبر تاريخها أن انكفأت في مواقفها مثل هذا الانكفاء وهذا التقهقر من الارتماء بأحضان الاحتلال والسقوط في مشاريعه, وهذا مما يؤسف له, ويشكل وصمة عار في تاريخ العشائر العراقية, التي ضربت أروع الدروس في مقاتلة المحتلين قبل الإسلام وأظهرت إقداماً وبذلاً للتضحيات, من اجل الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية, ويعرف التاريخ العربي والإسلامي مدى إقدام العشائر في العراق يوم القادسية يوم خرج من أبناء العشائر مع جيش سيدنا سعد بن أبي وقاص(رضي الله عنه) ضعف عدد الجيش القادم من المدينة لتحرير العراق, وبذلوا الأموال والرجال في درس القادسية الأشم, وفي قتال التتار, وقتال جميع المستعمرين. واستهداف التركيبة العشائرية غاية أمريكية نفذت بأدوات الاحتلال, واستغلت الحكومات العشائر شر استغلال لتفكيك التركيبة العشائرية, ولا يتم ذلك لها إلاّ بفصل شيوخ العشائر عن عشائرهم عبر استخدامهم كأداة لمشاريعه, وبذلك يسقطون التأثير العشائري الذي يتمتع به الشيخ عندما ترى العشيرة بأن زعيمها قد أسلم زمامه بيد الكافر وبلغ به الهوان مبلغه, وابن العشيرة وهو يرى رأس القبيلة الذي كان يسبقه لكل فضيلة ويدعوهم لبذل الروح إذا اعتدى أحد على شرف القبيلة وأعراض النساء فيها, فماذا تراه يعمل وهو يراه في القاعدة الأمريكية التي تعذّب أخاه وتغتصب شرف العشيرة وتعتقل أبناء البلد كلهم وتزج بهم في سجونها؟. مآسي الأمة الإسلامية لم تكن ذريعة للسقوط في مشاريع الاحتلال ولا نريد أن نبتعد كثيراً, فالتاريخ القريب في القرن الذي نعيشه يعرف سطوة العشائر وتأثيرها في صنع القرار, والتأثير في المواقف التي تغيّر موازين سياسات بكاملها وتقلب نظام دول وتزعزع كيانات دولٍ إقليمية, وهي تمثل اللاعب الأكبر في المواجهة الدولية على الصعيد العالمي. ولسنا نجهل التركيبة المجتمعية الديموغرافية لكل البلدان العربية ودول أمتنا الإسلامية, فإن اغلبها يقوم على الروابط العشائرية التي لا تختلف كثيراً من بلد إلى بلد, فهي نفسها في كل مجتمع. تضرب في جذور التاريخ عمقاً, وقوّى روابطها وتَمَّمَ فاضلها ومكارمها ديننا الإسلامي الحنيف, ولا تختلف في أي بلد مسلم. والدول التي تعرضت للاحتلال, هي من أفقر الدول ولا تملك شيئاً من حطام الدنيا, تعرضت لأبشع الجرائم والمآسي, لكنها لم تعط الدنية في دينها, ولم تصل إلى الهوان, مثل ما وصلت إليه اليوم, ونستعرض فيما يلي بعض الدروس التي سطّرها أبناء العشائر, عبر التاريخ في العراق ومحيطه العربي والإسلامي: أولاً:درس عشائر العراق في "ثورة العشرين"وجهادهم:- والدروس القريبة في تاريخ عشائر العراق ليست ببعيدة ومازالت الصفحات التي سطّرها شيوخ العشائر وعلماء الدين والمفكرين, من أروع ملاحم العزّة والكرامة وكان شيوخ العشائر في مقدّمة الركب وهم قادة الإقدام والشرف في تلك الملاحم الجهادية, يوم جثم الاحتلال البريطاني على أرض العراق الأعوام الطوال وفعل ما فعل واستدرج من استدرج ممن وقع في أحابيله وحيله. والاحتلال البريطاني للعراق يعرف سطوة العشائر في قتالها "للانگليز" بأسلحة بدائية, ولم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام سلاح الاحتلال المتطور الذي قتل به أبناء عشائرهم, ولم تتردد العشائر عن أداء دورها, ولم تثنها التضحيات عن الإقدام في قتال الاحتلال, إلاّ من تلطخ من بعض شيوخ العشائر في عمالته "للانگليز" وهم نفسهم الذين وقعوا في عمالة الاحتلال, وورث الأحفاد تلك العمالة واستقبلوا الاحتلال الأمريكي في عام 2003م, ومن محاسن الأقدار أيضاً أن الله ادّخر أحفاد المجاهدين الذي وقفوا بوجه الاحتلال البريطاني, ليقفوا بوجه الاحتلال الأمريكي وقد أضحوا رموز عزٍّ وإباء لعشائر العراق وجميع أبنائه, ولذلك عرف الاحتلال البريطاني في تاريخ العراق مكانة العشيرة فسعى جاهداً لتفتيتها وعمل على انفراط عقدها عبر استدراج البعض من العشائر, والقضية كلها من أجل تفتيت النظام العشائري, الذي عرفته قوى الكفر والاحتلال وخَبَرَتْه بأنه الحصن المنيع للأمة ضد الهجمات البربرية وجحافل المغول وأحلاف الصليب. ثانياً:فشل الاحتلال في استغلال العشائر الأفغانية:- حيث شهدنا ذلك في ثمانينات القرن المنصرم في أفغانستان البلد الفقير المسلم, المجتمع ذي التركيبة القبلية المتعصبة من قبائل (الباشتون, والهازارة, والبلوش, والكوتشي), وكان قادتها هم شيوخ القبائل نفسها التي أذاقت الاحتلال السوفيتي مر الهزيمة وهو القطب الثاني في رحى المواجهة العالمية إبان الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والإتحاد السوفيتي مع الولاياتالمتحدةالأمريكية, وكان المراقبون لمواجهة الأفغان مع السوفيت يرون أن الروس سيسحقون الأفغان في بضعة أيام وسيحسمون الملف الأفغاني في مدة قليلة من الزمن, وإذا بالأيام الحبالى تلد ما يسر الصديق ويُنكيءُ العدو, وإذا بالدب الروسي لا يملك لنفسه حيلة لِلَعْقِِ جراحه المتوالية, لأنه اصطدم بصخرة العشيرة الأفغانية العتيّة, وهي تبذل فلذات أكبادها وكل ما تملك من غير جزع ولا تشكّي ولا ركون للظالمين ولم يعطوا الدنية في دينهم, وقد تأتي المواقف بتضحية العشيرة بنصف رجالها, لأنهم يعلمون أن حرب تحرير البلد هو جهاد أكرمهم الله به, ليفتح لهم به جناته وأن يسجلوا تاريخاً مشرفا لإسلامهم وعشائرهم, وقد بذلوا كل ما يملكون وهم الشعب الأفقر في العالم, ولم يسمع أحد منهم بأن يقولوا أن المجاهدين جرّوا علينا المصائب بعملياتهم أو أن يقولوا بأننا جوعى ولا طاقة لنا بالروس ولا مقارنة بالسلاح, أو أن المجاهدين قد حالوا بيننا وبين المكاسب التي طالما لوّح بها "نجيب الله" الرئيس الأفغاني آنذاك, ولم ير العالم أو يسمع منهم تململاً بالمواقف ولا ولولة كولولة النساء التي ثارت من بعض شيوخ العمالة في المواجهة العراقية للاحتلال الأمريكي. وإذا بالقبائل الأفغانية تفاجيء العالم بصمودها وثباتها وتضحياتها, وصارت محط فخر للعالم بأسره, وصار النساء تسابق الرجال في الثبات والصمود, وهي تقدم الزوج والأبناء والأب والإخوة. في عام 2002م, قامت أمريكا بحملة أخرى لتحقق ما عجز عنه الاتحاد السوفيتي, للقضاء على إباء المسلمين واعتزازهم بدينهم, بحجة الحرب على الإرهاب, وساعدها في حملتها الكثير من الدول التي شاركتها ودخلت في حلفها, وتآمرت على الإسلام والمسلمين, واصطدمت هي الأخرى بذلك الامتداد وذلك الإرث الجهادي الذي ورثه الجيل الأفغاني, وتحطمت الأحلام الأمريكية على جبل ثبات الأفغان وما استطاعوا أن يدخلوا حدود أفغانستان إلاّ عن طريق عملائها في التحالف الشمالي المسنود من إيران وبمشاركة أعداد كبيرة من الحرس الثوري الايراني. إنجازات الخيانة والمكاسب الهزيلة المكاسب التي يتوهم شيوخ العشائر وهم يباركون الاحتلال الصليبي وهو يغتصب أعراض نساء بلدهم ويقتل أبناء عشائرهم ويفسد أخلاقهم وينشر المجون والدعارة ودور البغاء في ثنايا مجتمعهم كلها, بإمكانهم أن يحصلوا على أضعاف أضعافها ممزوجة بعبير الكرامة ومُتَوّجة بتيجان العز والفخار, وينالوا رضا ربهم ويرثوا جناته, وتصبح محط فخر العالم بأسره وعندها سيسجل التاريخ مواقفهم بأحرف من نور, وهم يخرجون احتلالاً صليبياً كافراً من بلاد الإسلام, والأساس الذي وجددت من اجله العشائر, والأصل الأصيل الذي يجعل الجماهير والشعوب تلتف حولها في التركيبة المجتمعية في المجتمعات العربية والإسلامية هو هذه المباديء النبيلة من الذود عن الشرف والغيرة من أجل الإسلام, ولكنها تصبح ما أرخصها عندما يرخص عندها دينها وتتنازل عن عزّتها وكرامتها, وتتنصل عن مكامن الشموخ فيها وهي تتخلى عن عرضها ليغتصبه كافر مستعمر, وتتخلى عن الغيارى من شبابها, وتصبح سلاحاً أمريكياً وحكومياً بيد حكومة المالكي الطائفية وتعمل على تنفيذ مشروعه لإطالة أمد الاحتلال وشرعنته. وهم لا يعلمون أنهم بارتمائهم بالمشروع الأمريكي إنما يلغون وجودهم ويرهنون زعامتهم لعشائرهم بقرار السلطة والحكومة التي نصبها الاحتلال, وبخضوعهم فإنهم يسلمون قياد عشائرهم لمن يسوقها إلى مهاوي الانحراف والضياع, وهم سيسعون نحو الانتحار, والمواقف كلها لن تمحى سليمها وسقيمها, وعار خيانة الدين وتسليم البلد لن تغسله بحار المعاذير والحجج الواهية, إذ ليس وراء الخزي من خزيٍ يركب رؤوس من مدّوا أيديهم مع جيش الاحتلال وقتل أبناء البلد المجاهدين والحيلولة دون استمرار العمليات ضد الاحتلال الأمريكي, حتى وصل الأمر قادة الاحتلال بأن يفاخروا بتعاونهم وخدماتهم وانجازاتهم. تغيّر الدور العشائري من العدل إلى الظلم والغفلة والعشيرة التي كانت ترسي قواعد العدل بما عرف عنها من إرث عشائري والتزامٍ ديني وتمسكها بالأحكام القبلية وغيرتها على الأعراض والضرب على أيدي السارقين والعابثين, وحضور شيوخ العشائر ليحكموا في النزاعات والدماء والتجاوزات والمظالم..أصبحت اليوم هي الظالمة وهي التي تقتل أبناءها خدمةً للاحتلال وهي تغتال الغيرة على الأعراض وتميت إرادة الأبناء في الإقدام ورفض الاحتلال, وأصبح بعضهم خادماً في القواعد العسكرية الأمريكية ينقل المعلومات التفصيلية عن البطال المقاومين في عشيرته ويلقي القبض عليهم ويقتلهم أو يسلمهم للأمريكان عبر قيادته لقوات الصحوة من عشيرته الذين هم تحت أمرته, ولقد أتى الاحتلال عراق الإسلام من قبل بعض شيوخ العشائر الذين امتطاهم الاحتلال لكسر إرادة أبناء عشائرهم. والعشائر اليوم لاهية تماماً عما يجري من خروج الناس على الدين والأعراف والأخلاق فلا ضابط لها اليوم, حيث حاولوا تغييب كل ما هو خيّر وطاهر وشريف, وفعل الكافر أمامهم الأفاعيل الشنيعة, قتل الآمنين في دورهم واغتصب الأعراض وأفسد الأخلاق ونشر المخدرات ودور البغاء وبارات الخمور وحرق القرآن وشرب الخمور في حرم المساجد ودمّر أكثرها بقصفه ودنّس مقدساتهم بجزمته, من غير تردد أو مراعاة لمشاعر أحد, وقد استخدمهم المحتل الكافر شر استخدام, وحقق أهدافه في تضييع النظام العشائري وتغييب تأثيره وسلطانه والانحراف بها نحو التفتيت والانقسام والتدجين والانبطاح له ولمشاريعه, وصارت حكومة الاحتلال تتعكّز عليها في مشاريعها السياسية وتوظيف العشائر ونعراتها وعصبيتها لغايات تتعلق بالاستحواذ والانفراد بها لخدمة السلطة, وستتمكن بذلك من تفتيت العشائر واستعداء بعضهم على بعض, واتباع سياسة الإيحاء بالتقريب إلى السلطة أو الإبعاد عنها, وإخضاع العشيرة للاحتلال وحكوماته سيؤدي بها إلى ضياع النظام العشائري في المجتمع العراقي نتيجة لتغير ولاء القبيلة للجور والظلم, والتخلي عن أداء الدور الذي من أجله وجدت العشيرة, علما إن الأمريكان لن يُدمجوا قوات الصحوة الخاضعة لقيادة العشائر كما خدعوهم بأكاذيبهم, لأنهم يرون فيهم خيانة وطنهم والخروج عن صف شعبهم, والخونة الخانعون هم أكثر من يعرف بأن قوى الاحتلال كلها تحترم في المجاهدين دفاعهم عن بلادهم, ويحتقرون الأذلاّء الخائرين, وهذا ما تظهره الأفلام المصورة التي يخرجها الاحتلال وهو يصوّر الاعترافات الهزيلة والمعلومات التي يقدّمها بعض شيوخ العشائر, وآثار الإهانة بادية عليه, والكلمات البذيئة توجه إليه, قاصدين ذلك حتى يذكّروه دائماً بأن لا ينسى أصدقاءه الأمريكان. العدالة الربانيّة والمصير المحتوم,وشهادة التاريخ كل احتلال مصيره إلى الاندحار والخروج, إما بتحقيق مصالحه ومشاريعه وإما بوجود بقية من أبناء البلد الغيارى بمقاومته وجهاده, وبمجرد وجود صوت يرفض الاحتلال ويقاومه, فإن ذلك يصنع إرادة جيل بكامله لن يقف عمله إلاّ بتحرير البلد من ربقة عبودية الاحتلال, أما الفترات الاستثنائية التي تمر بالبلاد من خنوع أبنائه فإن الشعوب تتجاوزها بعدما تشعر بذلّها وعارها وخضوعها تحت احتلال كافر, والتاريخ أصدق شاهد على ما نقول, فما من بلد تعرّض لاحتلال إلاّ ويتحرّر بإرادة أبنائه..والعراق ضرب أروع الأمثلة في طرده للاحتلالات. والتاريخ لا يرحم كل من استخذى بموقفه وركن إلى الظلم, وكذلك الأجيال لا ترحم, وإذا قُدِّر للعمل المقاوم أن ينحسر شيئاً ما؟ وفق السجال الذي يطرأ على مسار عمليات المجاهدين, فلن يضيع أي دورٍ سلبي لشخص ما, واستغل البعض هذا الانحسار فإذا به يكشف عن ذله وعاره وخيانته لإسلامه وبلده, وما يعرف هؤلاء بأن السنن الربانية التي تتدّخل بقوّة في لحظات ولادة الأمم من جديد, وهي تؤسس مساراً طاهراً وتبني جيلاً ثابتاً لولادة عهدٍ جديد, ولا بدّ أن تحدث الابتلاءات والاختبارات التي تلد جيل المحنة من الرجال الأشدّاء الذين يزن كل واحدٍ منهم أمة بكاملها, الذين سيعيدون الأمور إلى نصابها وسيطهرون أرض الإسلام و الحضارة.