في كتابه المنشور، لترى وتفكر في آيات جلاله وجماله وحسنه وإحسانه وكرمه وإنعامه، ثم عد ببصرك وبصيرتك معتبرا إلى مهجتك التي بين جنبيك، أنت أيها الإنسان الضعيف المبتلى بكينونته في هذا الكون، السائر إلى مولاه لا محالة، المسافر يوما بعد يوم من غير رجعة، وتأمل تأمل الحائر المسكين في مديدة (تصغير مدة) زمن وجودك - الغريب- في ثنايا عظائم هذا الكون اللامتناهي، المعجز والعجيب، وقف عند قدرتك وسلطتك وحاجتك ومحاجك وإيجادك وإمدادك ومبتداك ومنتهاك، وتذكر حالك واحتيالك ومصيرك وإصرارك. فسترى أخي المؤمن أنك مخلوق صغير طارئ في هذا الوجود، نسي مخلوقيته في زحمة الملاهي، ومغرور مشبع بالغفلة والسهو والعمى، بل سكران حتى الثمالة بما بين يديه ورجليه وما بين يومه وأمسه - المال والجاه والولد- لذلك فهو غائب لا خبر لديه عن سؤال وجوده وقيمته ومصيره، وللأسف غيابه غير مبرر. أعذاره مردودة عليه. قتل الإنسان ما أغفله، لا يرى أبعد من قدميه المنغمستين في طين الأشغال والشقوة والمال والولد والكسوة والتعب والنصب، مغرور بمالي وعندي وأنا وأملك، وفعلت وأفعل… ولم يتخلص من استغفال العقل وركوب الجنون، وسوء الظنون، واتباع الشهوات، ليواجه نفسه بالسؤال الكبير العريض المؤرق: من أنا ؟ ولماذا ؟ وإلى أين؟ ولم الحياة ؟ وماذا بعد الموت ؟ أخي المسلم- أختي المسلمة: واجه مصيرك بشجاعة وتحمل مسؤوليتك التي لا يتحملها غيرك… وستعلم، أخي الحبيب، كم هذه الدنيا مظلمة مقرفة مقفرة، بغير توفيق واهتداء، وبغير سابقة واصطفاء. وكم نحن مساكين وغافلون، نخوض ونلعب، ونتناسى ونصم آذاننا عن حقيقة وجودنا في هذه الحياة، وعن رسالة ربنا جلت قدرته لنا. وسترى أن لا منفذ للخلاص من تلك الظلمة الملتهبة الكالحة إلا بالتفكر والحيرة والتذكر والإقبال على المولى جل وعلا بالاستغفار والانكسار والافتقار، والعودة الصادقة إلى الفطرة الصافية: رب من أين الطريق؟ رب كيف أعبدك ؟… كيف أخشاك دون سواك؟ كيف أرجوك ولا أرجو غيرك؟ كيف أخرق الجدر وأعبر الأنفاق؟ رب اجعلني ممن ترضى عنهم، من أحبابك، أرنيهم، حببهم إلي، وحببني إليهم، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين… بك أستخير وبك أستجير. فلا تدعني غافلا، لا تتركني بعيدا، ولا تعذبني بفراقك، إلهي وسيدي ومولاي تب علي توبة تقربني منك وتبعدني عمن سواك، وأرني الدنيا كما أريتها عبادك الصالحين… آه ! أثقال الحاجة والعادة والطباع والشهوات، وتكاثر الحاجات والعادات والماجريات، وفتن الظلم وألوان الفساد تستغفل الإنسان وتمنعه من سلوك الطريق الصحيح، وتحاجه بضراوة وصرامة لتقف أمامه عقبة تستعصي على الاقتحام، وتملأ وقته وقلبه وعقله واهتمامه، وتنازعه لتأخذ منه أعز ما يملكه: عمره الذي لا يكرر، أغلى فرصة. حتى إذا أفقدت وجوده كل معنى وغيبت شهوده من كل حضور، صيرته تافها يلهو بين قوم تافهين أصابهم داء صدأ الفطرة (أو ردمها بالمرة)، فاترة إرادتهم، كسيحة عزائمهم، غارقون في دوامة فناء قسري وتنويم قهري،… مجموع عادات تمشي على الأرض… بلا وجهة. فلا ينتبه الغافل إلا وهو في عالم آخر لا غفلة فيه ولا موعظة. قال الإمام علي كرم الله وجهه: "الناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا". أخي المسلم- أختي المسلمة: استيقظ من نومك واصح من سكرك وانتبه من غفلتك، واخرج من سجنك، ولا يمنعنك من فعل ذلك منصبك وسنك وجاهك وحزبك وسربك وألمك وأملك، "متاع الغرور"، وفارق طوعا قبل أن تفارق كرها، قبل أن يفارقوك وإلى الأبد، توهم وكأن ما بقي ليل ولا نهار من عمرك تملؤه، وكأن منادي الرحيل ناداك باسمك وأجلك، وكأن مقامك في الخالدين قد هيئ لك، فعلى أي حال أنت ؟. وبأي وجه ستلقى ربك؟.. سارع أخي - وأخيتي- إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات. واشتغل بعيبك قبل عيوب الناس، "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس". قريبا ستستيقظ ولكن قد لا ينفع الاستيقاظ آنذاك، قريبا ستنتبه لكن بعد فوات الأوان، لحظات قليلة وستصحو إلا أن الصحو حينئذ مضاعف للندم…أما الندم في الدنيا فمدعاة للفضل والكرم. والخائفون هنا آمنون هناك، والمطمئنون بالدنيا خائفون في الآخرة. من خاف الله نجا، ومن احتمى به أمن. "من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء". أخي المسلم- أختي المسلمة: فرصتك عمرك، وعمرك فرصتك، إن ضيعتها ضاع معناك وخار مبناك، أكلتك السباع وتخطفتك الطير واحتوشتك الشياطين، وندمت ندما وددت لو تفتديه بوالدك وولدك والناس أجمعين، فعد أخي واعقد الصلح مع مولاك وتب إليه ليتوب عليك ويفرح بتوبتك، واخرج من قصورك وتقصيرك وتسويفك، وارحل من حولك وقوتك واهجر عادتك وطبعك وفارق هواك وظنك وهواجسك وإلفك، واقمع شيطانك وتسويفك واطرد ارتيابك وتشكيكك، واصحب الذين صدقوا وسبقوا، وتعلموا ليرتقوا، وللدرجات العلى طلبوا فحصلوا، وبكتاب الله تعالى احتفلوا وتغنوا وحكموا، هم حسبك ونسبك وأحبابك وجلساؤك في الدنيا والآخرة "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "، معهم حيث هم "و لا تعد عيناك عنهم". مهما صرفك من هم. أخي المسلم- أختي المسلمة: ارتفع عن الأحزان الصغيرة فهي لا تنتهي حتى تنهيك، حتى تقبرك، كن قويا ولاتكن "عاد يا" أينما اشتهيت ارتميت، تخوض مع الخائضين وتلهو مع التافهين وتؤجل يقظتك إلى يوم ليس من عمرك، وذلك لسبب بسيط: هو أنك أخي تريد أن تكون مؤمنا واعيا مكلفا مستقيما، ومعنى أن تكون مؤمنا حقا وحقيقة هو أن تصير عبدا لله تعالى، تريد وجهه الكريم، تسعى لتكون حلقة في سلسلة الموكب النوراني النوعي العظيم من نبيين وصديقين وشهداء وصالحين، وتتحمل مسؤوليتك مع المومنين في الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتبليغ عنه ببصيرة الرحمة والحكمة، ملبيا مستجيبا: "ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد". ولا تلتفت لقالوا وقيل لهم - لأن الملتفت لا يصل- وإن جمعوا وعددوا وأبرقوا وأرعدوا وأرغوا وأزبدوا، ولا تكن من حزبهم ولا تركن لطبعهم ولا تثق في وعدهم ولا تخف من وعيدهم، بل "أفنهم من حيث لم يخلقوا". ودر مع الحق حيث دار. والموعد تلك الدار. والموعد الله الواحد القهار. ولما كنت مؤمنا ف"قل لهم في أنفسهم قولا بليغا"، ولا تخشى في الله لومة لائم… ونفسك من "هم"… أخي المسلم- أختي المسلمة: يا أيها الإنسان! عجل التوبة واحسم خيارك ووحد مقصدك ودع ما يريبك إلى مالا يريبك واترك العجز والكسل والجبن والبخل، وتسلح بسلامة القلب وصدق النية وجميل الأدب، وأكثر من الاستغفار-دعاء الأنبياء الأبرار-، فبه يمحو الله الخطايا ويضع الأوزار، ولا تفتر عن الصلاة والسلام على خير الأبرار فإنها تزيل الظلمة وتملأ القلب بالأنوار، وبالكلمة الطيبة "لا إله إلا الله" أفضل الأقوال والأذكار، يلهج اللسان رطبا إن واظبت عليها بالإكثار، ووردك أخي من القرآن الكريم حافظ على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار. والصلاة في المسجد ليشهد لك بالإيمان بعد الإعمار، وتكون من الأخيار… صلاتي منجاتي، ترعاني وتنهاني… ولساني حصاني إن أرسلته أكلني، وجميع الصالحين أحبابي لا أنساهم في دعائي… …. و"إنما المومنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون". اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين. آمين.