لم يكن المفكر المغربي الخطيبي مخطئا، يوم حفر في أعماق الجسد العربي الجريح. قد يبدو الموضوع بعيدا عما درجت على العمل عليه في زاوية جمهورية واسيني، حيث حاولت أن أنقل تجربة الشاب الذي كنتُه في الصحافة والإعلام ومشقة العمل، بالخصوص ما تعلق بحرية التعبير. وكيف أن الحاضنة اللغوية العربية تحولت إلى وسيلة إقصاء قاسية وصعبة. ولا يمكن توصيف الحالة إلا بالتخلف والتجني على الخبرة والتجربة الإنسانية الحية. نحن اليوم أمام حالة مشابهة في جوهرها. لا تختلف إلا في شكلها المقارب من حيث الجوهر لمطالب الحرية والحق في التعبير. كيف تحولت مجموعة من الصحفيين في الجمهورية، الذين أسسوا الجريدة، واستماتوا في جعلها أهم جريدة وطنية، إلى أشخاص غير مرغوب، لم تنفع احتجاجاتهم، ولا إضراباتهم ولا جوعهم، ولا جهودهم لتعلم العربية والكتابة بها. وتم طردهم وإخراجهم من الباب الضيق، وكأنهم لم يكونوا أبدا، إلا قلة قليلة ممن نفذوا بأعجوبة من فخاخ اللغة ومن عيون الغربال. كان حظها معرفة متوسطة باللغة العربية سمحت لها بتطوير رصيدها والكتابة بها. قد لا تعوض الكتابة الإنسان في مختلف تحولاته الوجودية وصراعاته المباشرة ضد الظلم، لكنها صرخة مساعدة، وصرخة قوية ضد هيمنة الظلم. عندما سئل أحد الجمهوريين الإسبان بعد أن ألقى عليه القبض زبانية فرانكو الذين أطاحوا بالجمهورية الفتية: - ما السر في دفاعك عن الثورة باستماتتك، وأنت تعرف سلفا أنكم ستهزمون إذ لا تكافؤ في القوة؟ أنت تدافع عن ماذا إذن؟ أجاب، هو يخرج من جرابه الصغير مسرحية غارسيا لوركا، ماريا بنيدا : - كنت أدافع عن هذه. الدكتاتورية لا تخيف من يناضل من أجل الحق. المعتقل الفلسطيني الذي يضرب اليوم عن الطعام، يفعل الشيء نفسه. هو صاحب حق لهذا يدافع بالوسائل المتاحة، عن حقه الإنساني الطبيعي. ويستميت بما تبقى له من أسلحة. جسده الذي يقاوم موتا كل يوم يقترب أكثر. يصرخ ويرفع رأسه في اللحظة التي توجهت فيها الأسلحة العربية نحو صدورها ونحوه، لتنهي نفسها بنفسها. يحاول الأسير الفلسطيني أن يعيد كرامة مهدورة، تنافس في سرقتها، الهزائم، و الخسارات الفلسطينية، و الخيبات العربية وعمى الأعداء الذين لا يرون شيئا إلا سلطانهم. يصنع المعتقل الفلسطيني في هذه اللحظة، ملحمة الجوع والانتصار على كل تكنولوجيا الحروب المتقدمة، بجسده فقط. ويجدد صرخته الكبيرة جسدي حطب، أشعله كلما أُجبِرت الدنيا على الدوران عكس منطقها، باتجاه قاتل لم يعلمه ألم التاريخ شيئا، من موت طاله قبل زمن، ونار أحرقته في لحمه وذاكرته، ووحشية سحبته نحو أفران الرماد. لم يتعلموا، القوة عمياء بلا حد. قالها وترنح بجسد نحف حتى أصبح ظلا، ثم مضى نحو أبدية بلا حد، يخترق حيطان عالم تواطأ ضد حلمه. يموتون وحيدين في صمت العالم الخادع. لا مطلب لهم إلا أن تعود الحياة إلى استقامتها الأولى قبل أن يسجنها مالك النار، ويد القتلة في كل مكان. غابت كما تغيب شمس نقتسمها جميعا، في كل مكان، بلا مقابل. من يستطيع اليوم أن يحجب نورا هو في النهاية ملكا للإنسان والنباتات والمخلوقات كلها، بلا ايتثناء؟ من أين جاؤوا؟ بعد أن اختاروا موت الوفاء، أو حياة ظلت مؤجلة طويلا. يموتون وحيدين في صمت عالم القوة والمال والخيانات الأخوية. من أين جاؤوا؟ من نار الصمت، أم من حزن الغياب؟ كنا نظنهم قبل عشرات السنين أنهم ناموا ؟ أو ماتوا، أو انسحبوا، و تماهوا في عمق الظل. وهاهم يقومون من رماد المرارة والسواد، كمن يخرج من حفرة النسيان ليوقظ صمتنا الميت، ويشعل فينا فتيلة القنديل الذي نسيناه في زاوية الظلام، ويضعنا وجها لوجه أمام حياة مسروقة أو ممكنة. الكثير منا نسيهم أو نام في غبارهم وهم يصرخون فرادى أو جماعات: مازلنا هنا. ليس من أجل هذا افترشنا التراب وتوسدنا برد الحجارة؟ تركوا القهوة والشاي في هذا المساء البارد، تركوا الزوجة والراحة والأبناء، وانتسبوا إلى الماء وعواصف الروح والنهر الأعظم الذي لم يتوقف نوما. من أين جاؤوا ؟، من درب الآلام، والأحياء المجاورة التي لا تحمل اسما، أو تلك التي سرقت عناوينها أو بُدِّلت بيد من يظن أنه الأقوى. من أين جاؤوا؟ من ساحة بيت المقدس؟ من شوارع رام الله؟ من دم غزة وجرح الخليل؟ من أحزان يافا وبحر حيفا؟ من مدن غيبتها الخرائط الجديدة. من أين جاؤوا؟ على رؤوسهم أكاليل حنين وورد كلما جف، اخضرت أوراقه ليكبر من جديد.عندما وصلوا، كانت أمعاؤهم فارغة، وعظامهم هشة، وجلدهم محروق. لم يقفوا، لكنهم استمروا في المشي حتى ضفة الشمس الغائبة. شكلوا حزاما من نار ضد قهر ظل يسرق منهم النور وحاسة الشم واللمس والحب. كان الزمن يسير وفق شهوة الأقوى والقاتل، وسارق التربة والأرض والهواء، فأجبروه على الدوران عكس الاتجاه. أن ينظر بغرابة لبدء زمن آخر يصعب عليه فهمه. الوقوف في وجه سارق الأرواح كما يشاء، ليس رصاصا وبنادق وأدخنة ودما فقط، لكنه إبداع أبدي لسبل الحياة من جديد. ها هي ذي الشعلة تتحول إلى نقطة لا ثبات لها. تتمدد بسرعة النار. ليعرف البشر على امتداد أركان الدنيا، أن لا سلام على أرض سيدها الظلم، سُرقت وتحولت إلى سجن كبير، وظلمة بلا مدى. السجون تتسع بالظلم، وبه تموت، وتنهار حيطانها، وتسقط عندما ينتشي الظلم بيقين خلوده. مات الكثيرون فيها. دخلوها بعمر التمر والفجر، وغادروها بلا عمر حين كُتِبت لهم الحياة. لا لغة تقوى على قهر لا نعت له هذا إلا لغة الصبر وابتداع الحياة. أن تمنح جسدك للفناء يعني أنك تؤمن بأن هناك تاريخا يكبر سرا، لم يصنعه الجبابرة الذين أتوا ثم مضوا، ثم أتوا ثم مضوا، ثم انتهوا. فمن يستطيع يا جريح القلب، والعمر، والذاكرة، وضيق المكان، أن يسرق جسدك، شعلتك، وحائطك الأخير؟ لا يعني هذا سوى أن أرضا حية ما زالت تتسع كل يوم وفق شهوتها لحرية تقترب مثل السيل، وتهرب كالفراغ، إلى أن تستقيم. أن تموت جوعا عن سبق إصرار وترصد، فهذا يعني أنك تريد أن تعطي معنى لجسد متعب بالنسيان، كأن السجن مجرد إقامة عابرة، سرقته منك الحيطان، تستعيده الآن لا لتحجزه ثانية، لكن لتحوله إلى حمامة سلام تفضح القتلة، وحش الزمن الحالي، الذي كبر في الدم والحروب المتعاقبة حتى أصبح استحالة. وأحرق كل حقول الزيتون لكي لا تنجب سلاما. صلاة لكم جميعا، لأرواحكم المعلقة، في انتظار أن يعود عطر زهر الحقول. من أين جئت أيها النبي المنسي الذي يرفض أن يموت ظلا وصمتا، وأصبح يمشي بتوقيت جسد لم يعد مستباحا. يبكي الطفل على صليل البوابات الثقيلة، ويسأل أباه أو أمه عن سر الماء والملح؟ أرمم ذاكرة الحياة المنسية، يا ابني، حتى يصبح جسدي ملكا لكم، في أيديكم شمسا وخبزا. هو مفتاحي لفتح البوابات المغلقة ليمسها النور ويزيل عنها صدأ النسيان والغياب. لا سلاح لي لكي أستمر طويلا غير الإيمان بملح هذه الأرض ومائها. قد أموت يا ابني في منتصف المسالك القلقة، فاحملني فيك وتذكر أن الجسد الذي عاد إلى مسكن الحرية والتربة المقدسة، قد يتعب، لكن نبهه بابتسامتك لكي لا ينام. قد يمضي نحو قدر اختاره منذ البداية، لكنه سيترك لك ميراث حياة قلقة لكنها حياة، وظلا أبيض لأرض أصبحت فيك. ليس الجوع هو من يفني يا ابني، وليست الأمعاء الفارغة هي من تقتل، ولكن صمت الذل والاستكانة يجب أن ينتهي. الجسد لا يموت أذ يموت، لكنه يمضي فقط نحو أبدية الاستحالة. حفنة من نور. وذرات من حب وتراب محروق، وابتسامات خفية. هو لا ينتهي إذ يعيد امتلاك بقايا تدب فيها الحياة. هي انتفاضة الجسد الكريم، الذي تمزق كثيرا، ومرض كثير وانفجر كثيرا، وتعدد بلا راحة أو توقف، ها هو الآن يجد مسلكا آخر، ويبدع فرحا جديدا في عز الألم، واستمرارا في عز التوقف، ونهاية أخرى للحياة، غير تلك ابتدعها القاتل والسجان معا. بنشيد الحياة الأكبر: جسدي ملكي. إن بقيت بقى، وإن مضيت اختاركم. كلما صمتت دمدمة الرعد والعواصف، قام من ظله بجوعه ليذكركم فقط بأن الحياة ما تزال هنا. لم يتخل أبدا عن نشيد الذين مضوا: نموت ونموت، ويحيا الوطن. كل صلوات الغياب لا تكفي لاستعادته إلا ذاكرة تحيا بمائه، وشوقا ينتشي بملحه. لقد آن لهذا الجسد المتعب، الذي سال دمه وصمته وخوفه حتى أستكان، أن يقوم من بين شقوق الحيطان وجفاف النسيان وخيبة القلب، نحو أبدية لن يسرقها منه أحد.