ينطلق مخلوف عامر من مجموعة من النصوص في كتابه «الهوية والنص السردي»، كما يسعى إلى الاستفادة من كتابات «امبرتو ايكو» Umberto Eco)) في تحليله لعلاقة النص بالتلقي و التأويل. و الواضح منذ البداية أن موقف الباحث من الهوية هو موقف سياسي، إذ يتساءل عن ماهية الأخر، من يكون؟ و يرى أنه «غالبا ما ينصرف الذهن إلى الأجنبي محصورا في الأوروبي دون أن يطال بشرا من قارات أخرى و لا يمس أبدا من كان عربيا أو مسلما بينما تُحّتِم ضرورة التمييز ألا ننظر إلى المجموعات الإنسانية ككتلة واحدة منسجمة.» و ضمن هذا التوجه يدعو إلى ضرورة التمييز بين «جان بول سارتر» Jean- Paul Sartre)) و «هنري علاق» (Henri Alleg) و حملة الحقائب (Les porteurs de valises) من الفرنسيين الذين ساندوا الثورة الجزائرية و ضحوا بالنفس و النفيس لأجل ذلك، وبين الشاعر المصري أحمد شوقي «الذي زار الجزائر بغرض الاستشفاء و لم ير من أوضاعها المزرية إلا ماسح الأحذية و لغته» ، و قد رد عليه الشيخ ابن باديس في مناسبات عديدة. و لا يتوقف الباحث في هذا الكتاب عند النصوص الأدبية، بل يتوجه إلى تخصصات أخرى، إذ يرى «أن ألاف الكتب التي ظهرت منذ الاحتلال في التاريخ و الفلسفة و الأدب و غيرها، ما زالت تمثل مادة خاما تستوجب من الباحثين على اختلاف تخصصاتهم مراجعتها و دراستها بروح موضوعية تستبعد الانحياز العاطفي و الشطط في إطلاق الأحكام نفسها» . و إذا كانت العلاقة بين الأنا و الآخر، هي علاقة جدل و انجذاب و نفور و تبادل و قطيعة وتأثير و تأثر، هي علاقة تتميز بكونها متلازمة و غير ثابتة، و لا تشكل «صورة نمطية واحدة» في النصوص الأدبية ومقاربتها تختلف من واحد لأخر، وذلك على الرغم من اشتراكهما في البلد الواحد و لغة الكتابة الواحدة. وعليه يتناول نصين لأديبين ينتميان للبلد الواحد و يعيشان ظروف الاحتلال الفرنسي ذاتها في النصف الأول من القرن الماضي و يكتبان باللغة الفرنسية، هما علي الحمامي بنصه السردي «إدريس» و مالك بن نبي بنصه السردي «ليبك». و يتوصل الباحث في تحليله للنصين أن ما يميز الأديب الأول يتمثل في الاعتزاز بالأنا و بتاريخ و ماضي الأجداد والدخول في معترك المقاومة مع الانفتاح على الآخر، بينما يتميز نص الأديب الثاني كذلك بالاعتزاز بالأنا و بالحنين للماضي مع الانغلاق تجاه الآخر الذي يرى أن مدنيته المتحضرة «هي مدنية متحضرة خالية من الروح، فإنها لم تنتج إلا الصراعات و البؤس» . إن الاختلاف و التباعد بين الأديبين يكمن في العقيدة التي يحملها كل واحد منهما، و «في رؤيتهما للواقع و إلى المستقبل، ما يؤكد – حسب مخلوف عامر- أن اللغة في هذه الحالة ليست سوى وسيلة تعبير وتبليغ بحيث تبقى القناعة الفكرية هي البوصلة المُوجِّهة و المتحكمة في مسار كل منهما» . و مما يجعلنا نقرر أن مخلوف عامر يميز بين اللغة والخطاب التأسيسي للهوية في الجزائر، و هي مسألة في غاية الأهمية تحتاج لنقاش عميق، و قد تفضي إلى نتائج مهمة في معالجة علاقة الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية بالواقع الاجتماعي و بالتاريخ. و لا يتوقف مخلوف عامر عن متابعته للحركة الأدبية في الجزائر التي نشطت أيما نشاط في مطلع الألفية الثالثة، إذ يخصّها بكتاب مهم يتناول فيه مجموعة من النصوص الروائية على وجه الخصوص، أي سبعة وثلاثون نصا لثمانية و عشرين كاتبا و كاتبة. جاء هذا الكتاب ليسد فراغا هائلا في الاهتمام بالكتابات الروائية التي تم نشرها في هذه الآونة الأخيرة لمجموعة من الأدباء، منهم من هو معروف في الساحة الأدبية و منهم من هو وافد عليها. و ينطلق مخلوف عامر من نقطة البداية و هي مرحلة السبعينيات التي يرى أنها تمثل «المرحلة التي ازدهرت فيها الكتابة باللغة العربية و نشأت فيها الرواية» . و يؤكد، أنه في ظل هذه الأجواء السياسية انساق معظم الكتاب مع موجة النهج الاشتراكي و التزموا في كتاباتهم بهذا الاختيار السياسي و ركزوا على مضمون النص أكثر مما ركزوا على شكله و فنياته السردية و التعبيرية. أما فترة الثمانينيات التي شهدت تحولات جديدة على المستوى السياسي التي شهدت التراجع عن النهج الاشتراكي، فقد عرفت بداية «نجم الأديب الملتزم في الأفول تدريجيا» و تساوق ذلك مع بداية الاهتمام الكبير «بالجانب الفني للأدب من قبل بعض الذين أغفلوه لصالح المضمون» . و ساد نوع من الخطاب الجديد الذي يناقض النهج الاشتراكي السابق و سادت ضبابية فكرية أدت بالأدباء إلى الانغلاق حول الذات، ثم كانت مرحلة التسعينيات التي عبر عنها الأدباء بإشكال أخرى و كتبوا عن «هول الصدمة» . تعرض الناقد مخلوف عامر لمجموعة من النصوص التي ظهرت في بداية هذه الألفية، منها نصوص جديدة لكتاب معروفين و كذلك أسماء جديدة تطرق باب الأدب للمرة الأولى، عدا رواية «بعيدا عن المدينة» أسيا جبار الصادرة سنة 1991. و تشكل هذه الرواية استثناء في هذا الكتاب من حيث سنة النشر و أيضا اللغة التي كُتبت بها، أي اللغة الفرنسية. و ما يلاحظه الناقد على الذين برزوا في السبعينيات، أنهم قاموا بتغيير أساليبهم في الكتابة تحت وطأة الأحداث، بينما هناك من الأدباء الجدد ممن دخل مباشرة في عملية التجريب و الابتعاد عن النمط الكلاسيكي للكتابة الروائية و اعتماد تقنيات مستحدثة» . و يعترف الناقد في كتابه هذا بعدم قدرته على معالجة جميع النصوص التي نُشرت في هذه المرحلة، نظرا لمحدودية الجهد و لكثرة النصوص المنشورة، كما يعترف أن ما يقوله عن هذه النصوص هو مجرد انطباعات مبنية على الذوق، حيث لم يلتزم فيما يقول بمنهج نقدي معين. الرواية و التاريخ و التراث: يرى الناقد مخلوف عامر، أن الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية هي امتداد لتراث سردي عربي عريق يبدأ مع البدايات الأولى لعصر النهضة مع كل من «أحمد فارس الشدياق» و «الطهطاوي» و «جرجي زيدان» و غيرهم، الذين أسسوا للكتابة الروائية الأولى بغية تجديد الصلة مع التراث و التاريخ بعد انقطاع طويل. و الشيء نفسه حدث مع المسرح الجزائري، حين استدعى بعض الجزائريين التاريخ و الاحتفاء بالشخصيات التاريخية. كان الهدف من وراء ذلك يتمثل في الرد على «محاولات استعمارية ظلت ترمي إلى إنكار هذا التاريخ و طمس هوية الشعوب المستعمرة» ، فالأدب كان حاضرا في سائر المعارك التي خاضتها الشعوب . و كان لتوظيف التاريخ في النصوص الروائية، حيث ارتبطت الرواية الجزائرية بالتاريخ الوطني الثوري، المعروف منه والمسكوت عنه. و قد كان لكل من الطاهر وطار (اللاز) و رشيد بوجدرة (التفكك) و لعرج واسيني (ما تبقى من سيرة الأخضر حمروش» أدوارا كبيرة حيث أشاروا في نصوصهم إلى الصراعات الداخلية التي عرفتها الثورة الجزائرية. كما يلاحظ الناقد، أن بعد محولات التجديد في الكتابة الروائية و التجريب، عادت الكتابة التسجيلية و الواقعية و التقريرية مع مرحلة الإرهاب، أو ما سمي آنذاك ب«الأدب الاستعجالي». و يلاحظ أيضا أنه مع مرور الوقت، بدأ الاختفاء التدريجي لصور حرب التحرير الوطني من النصوص الروائية، و التركيز على التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعرفها المجتمع الجزائري، و منها نصوص كل من السعيد بوطاجين (أعوذ بالله) و روايات سمير قاسمي و نصوص الشاعرة ربيعة جلطي التي تحولت إلى الكتابة الروائية، إلى جانب موضوعات جديدة ومتنوعة مثل، مصير الجمهوريين الأسبان في الجزائر لعبد الوهاب عيساوي، و الخيال العلمي لفيصل الأحمر، و الرواية البوليسية مع إسماعيل بن سعادة و بشير مفتي في (دمية النار). و لا يتوانى الناقد على التذكير بأن العديد من النصوص المنشورة غير ناجحة فنيا، كما نجده لا يتساهل مع النقاد و يعيب عليهم «الافتقار إلى استيعاب المنجزات النقدية المعاصرة التي هي ضرورة أدبية و حضارية، تماما كالافتقار إلى الموروث البلاغي العربي» . و يمكن القول في ختام هذه الكلمة، أن مجرد الانتباه لهذه النصوص الروائية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية و التي تعاني من التغييب يعدّ خطوة مهمة و جبارة تستحق الإشادة و التقدير من ناقد كرس حياته للعمل النقدي، و لم يترك شاردة أو واردة تهم الرواية الجزائرية إلا و ذكرها وانتبه غليها و خصها بالدراسة النقدية. و مع اعترافه بمحدودية الجهد الفردي يدعو مخلوف عامر إلى «جرد كامل لما صدر من روايات و كذا الدراسات التي تتناولها» ، و ذلك لتوفير مادة كافية للباحثين في هذا الحقل و لأجل إعداد دراسات وافية عن هذا الإنتاج الأدبي الوطني. و هذه الكلمة بمثابة توصية أو وصية لناقد يدرك أهمية الأدب في بناء الهوية الوطنية و دوره في التثقيف اللغوي و الجمالي. و يمكن القول أن المنجز النقدي لمخلوف عامر في حاجة إلى دراسة مستفيضة، بل إلى دراسات مختلفة و متنوعة، تكشف عن دلالاته العميقة و عن السياقات الفكرية والتاريخية التي نشأ فيها و تفاعل معها.