ظلت الثورة الجزائرية، مع اختلاف حساسيات الأجيال التي كتبتها، حاضرة في المدونة الروائية، كتيمة، وكنشيد يحتفي بتاريخها وبطولاتها وأمجادها. هذا النشيد الذي طاله النقد لأنه «حسب الدراسات والمقاربات الأخيرة» تمادى في مديح وتقديس هذه الثورة. وفي كتابتها من زاوية أحادية النظرة، وهي نظرة وردية في الغالب.وفي المقابل، انفتحت كوة الأسئلة حول هذه التيمة التي ازدهرت واستوطنت لزمن طويل في المتون السردية. أسئلة من قبيل: كيف حضرت الثورة في الرواية الجزائرية؟، وهل سياق الثورة النموذجية المسرودة أدبيا والتي سادت في الكتابة الروائية، والتي تم وضعها في برواز ضخم من التمجيد والتقديس، خدم الثورة وأضاء عليها حقا، أم العكس؟. وهل استفادت الرواية من تيمة الثورة التحريرية دون مغالاة أو مغالطات.كُتاب ونقاد، يجيبون على أسئلة ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد، ويتحدثون عن"حضور وصورة الثورة الجزائرية في الكتابة الروائية". إستطلاع/ نوّارة لحرش عامر مخلوف/ كاتب وناقد الثورة بصورتها المُقدَّسة فقدت بريقها ليس بفعل الكتابة الروائية فقط وإنما لأن الخطاب السياسي عمد إلى إفسادها استمرت الثورة تُلقي بظلالها على الكتابة الأدبية بمختلف أنواعها، وهذا طبيعي، لأنها كانت صرخةمدوية في العالم ومؤثرة في حركات التحرر.لذلك نادراً ما نجد نصّاً يخلو من ملامحها.وإن تفاوتت رؤى الكُتَّاب في الارتداد إليها.فغداة الاستقلال كانت غشاوة من الانبهار والتمجيد تهيْمن على مخيلة الكاتب، زاد من تكريسها الخطاب الرسمي الذي ركب الشرعية التاريخية وامتد إلى الرواية يصوِّر الصراع بين طرفيْن: مستعمِر ومستعمَر، ولا استثناء من ذلك إلا ما يتعلق بالحرْكي/ الخائن. فأما الطرف الثوري فيحوم بجناح ملائكي لا عيْب فيه. وكان لا بد أن ننتظر فترة كيْ تُستحضر صورة الثورة بوصفها مرجعاً يُذكِّر بتضحيات الشهداء، في موازنة بين مُثُلها العليا وبين ما آل إليه الواقع. ولما ارتبطت فترة الاستقلال بالتوجُّه الاشتراكي،أصبحت تطفو على سطح الرقعة الروائية القضايا الاجتماعية، وصار حضور الثورة في النص متَّكاً للنقد.إلا أنه-تدريجياً وفي فترة السبعينيات تحديداً- كان الاختيار الاشتراكي مع التحولات التي عرفتها البلاد يومئذ، قد جعل الفكر الماركسي يتسرَّب إلى الكتابة على نحو أعمق، ومن ثمَّ سنشهد في الكتابة بوادر طرح جديد يتجاوز الانبهار والنقد معاً، ليبحث في جذور الأزمة التي حَوَّلت مجرى النهر. فإذا الكتابة الروائية تُقشِّر ظاهر الصورة الملائكية لتنبش في باطنها. دشَّن ذلك "الطاهر وطار" بروايته "اللاز" ليُبرز الخلاف بين الجبهويين والشيوعيين خاصة، ثم توالت الأعمال التي سارت في هذا الاتجاه ومنها على سبيل المثال: "التفكك" 1982 ل"رشيد بوجدرة" وأخرى صدرت سنة 1985 "صهيل الجسد" ل"أمين الزاوي" و"زمن النمرود" ل"الحبيب السائح" و"ما تبقى من سيرة الآخضر حمروش" ل"واسيني الأعرج"وغيرها من الروايات التي كتبها "ابن هدوقة" و"جيلالي خلاص" ومرزاق بقطاش"، و"أحلام مستغانمي" و"محمد ساري"و"السعيد بوطاجين" و"إبراهيم سعدي"،بصرف النظر عمَّا كُتب بالفرنسية. ففي تقديري أن قياس مدى إسهام الرواية في خدمة الثورة أو بالعكس لا يمكن تحديده في غياب سبْر نسبة المقروئية للكتابة الروائية، وعدم تكفُّل المنظومة التربوية بإدراج هذه النصوص في برامجها بوصفها بقيت –دوْماً- جهازاً سياسياً خاضعاً للخطاب الرسمي ما عمَّق النظرة الدونية للأدب الجزائري وخاصة النص الأدبي الذي ينطوي على نقد لهذا الخطاب. لكن الذي لا ينبغي إغفاله، أن الجيل الجديد من الروائيين لاشك قد تأسَّس على هذه الأرضية السابقة إنْ تقليداً أو تجاوزاً، وبفضلها اكتسب درجة من الوعْي سواء بطبيعة الرهانات السياسية والاجتماعية أو بخصوصية الكتابة الروائية من حيث هي نشاط فني يرتقي بالمألوف إلى اللامألوف، وينجح في تحقيق أدبية الأدب بإخفائه البُعد السياسي/الإيديولوجي دون تغييبه. وبالنظر إلى الواقع من حولنا، يتبيَّن- في يُسر- أن الثورة بصورتها المُقدَّسة قد فقدت بريقها ليس بفعل الكتابة الروائية التي –لاشك- لها تأثيرها في النخبة القارئة، وإنما لأن الخطاب السياسي-الذي كرَّسها صورةً صافيةً ليس بها شائبة-هو الذي عمد إلى إفسادها. ونهض الواقع-هاهنا بما فيه من التردِّي-ليحملق في عيون الناس ويدعوهم إلى المراجعة. إن مَنْ يقرأ النصوص الروائية بوعْي -على تمايُزها وتفاوتها- سيجد الثورة حاضرة لا محالة، لكن القراءة الواعية تستوجب أن يكون القارئ على دراية بالتاريخ الوطني، بالقدر الذي يكون فيه الكاتب أيْضاً بهذه الدرجة من الإدراك وأكثر، وعندئذ قد يفيد من الرواية دروساً لم يُقدَّر له أن تلقَّاها على مقاعد الدراسة، وإلا فلن يخرج كلاهما من دائرة الانبهار والتمجيد أو رصْد الوقائع ونقدها. ثمَّ إن عدة أعمال روائية لم تبْقَ في حدود الثورة والتاريخ الوطني ولكنها تدعونا إلى مراجعة التاريخ العربي الإسلامي برمَّته، أي تدعونا إلى البحث عن هوية يبدو أننا مازلنا نطاردها. عبد الحفيظ بن جلولي/ قاص وناقد وضع الثورة في «برواز التمجيد والتقديس» جنى عليها والرّواية تعيد إنتاج موضوعها إنتاجا تخييليا إنّ الثورة موضوعة تثير الكثير من الجدل الفكري حول مضامينها ومساراتها وحقائقها التي تُقرأ من زوايا مختلفة، ولهذا فهي متجدّدة في انبثاقاتها على مستوى الوعي، وعندما نربط بين موضوعة الثورة والرّواية، فإنّنا بذلك نستنطق حقلين دلاليين مختلفين، حقل الدلالة الفني الخيالي في معنى الرّواية، وحقل الدلالة الواقعي العنفي في معنى الثورة، والإختلاف في طبيعة الدلالة ينتج صراعية تؤدي إلى ترتيب معنى مختلف، وهو مكمن الجمالية، حيث الرّواية لا تكتب الثورة، ولا تؤرّخ لها، ولا تصفها. الرّواية تعيد إنتاج موضوعة الثورة إنتاجا تخييليا مرجأ على الدّوام، وفي الإرجاء يتأسّس الاختلاف، فليس رواية الثورة لعام ستين هي ذاتها لعام تسعين، وسياق الرّاهن الذي تطرح فيه موضوعة الرّواية والثورة، يطرح بدوره سؤال المناسبة، بمعنى هل استحضار موضوعة الثورة يخضع للمناسبة؟ أم هي حركة تستمر مع الكينونة في حضورها الوجودي؟. إنّ حضور الثورة في الرّواية ينقسم إلى مرحلتين على الأقل، ماقبل الاستقلال وما بعده، ولعل ذلك يظهر في توظيف الثورة من خلال الحدث البعيد أو القريب منها، والملاحظ عبر سبر خفيف للمعالجة الرّوائية للثورة، نلاحظ أن ما قبل الاستقلال وبحكم المعايشة للحدث، استطاعت الرّواية أن تخلّد الثورة وفق ما أحدثه النص على مستوى الوعي من إنتاج للرّمز، وفي هذا الإطار لا يمكن أن نتجاوز ثلاثية محمد ديب"الدار الكبيرة، الحريق والنول" 52 57. وعندما نتكلم عن "الحريق" بصفته عملا أدبيا روائيا تحوّل إلى عمل تلفزيوني، شكّل ذاكرة استمرّت في الكينونة ومعها، حيث أصبحت موضوعة الثورة تحمل جماليتين: كيانية ووجدانية، الكيانية تتمثل في توسيع دائرة المتلقين، أمّا الجمالية الوجدانية فهي استمرار الثورة كموضوعة وكحدث في الكينونة، وبهذا أصبحت الثورة ذاتها ذاكرة، ولا تشكل فقط جزء من الذاكرة، فالبنّسبة لجيلي على الأقل، لا يمكن أن نذكر "الحريق" دون علاماته الرّمزية المتمثلة في "عمر"، "للا عيني" و"دار السبيطار" في تناجيهم الدرامي عبر الذاكرة وعبر المخيّلة، وعندما أستحضر رواية "الحريق" والتحوّل إلى عالم التلفزيون، أستحضر أيضا اللهجة العامية، وبمفهوم نقدي المستوى اللغوي، الذي عنده، أقول بأنّ عملية الإيصال "إيصال المعنى" لم تكن لتحدث لولا أنّ المستوى اللغوي تأسّس في غير العامية، ذلك لأنّه يلامس الشعور القومي والوطني والإنساني برهافة الشعبي. إنّ تمثل موضوعة الثورة في فترة ما قبل الاستقلال انطلاقا من ثلاثية محمد ديب استطاعت عبر منهجية في تخريج العمل الأدبي عند مستويات فنية متعدّدة، أن تحقق معادلة الترافق الوجودي بين الثورة والذات. أمّا حضور الرّواية في فترة ما بعد الاستقلال، حقّق جماليات معيّنة لاستمرار الثورة في الوعي والذات، أذكر على سبيل المثال الروائي السايح لحبيب الذي اشتغل على تطعيم نصوصه الروائية بحدثية الثورة، ولعله كان يروم الوصول إلى شوق اللغة في بناء مسار الحدث وفق جمالية الحضور التيمي للموضوعة، ونلمس في أعماله الجمالية الثورية من خلال اللغة الرصينة المفتوحة على الرّهان. يمكن أن نذكر أيضا الروائي محمد مفلاح في بعض أعماله التي رافقت فيها حدثية الثورة الموضوعة الأساس للعمل الأدبي، كما نذكر أنّه خصص رواية "خيرة والجبال" للثورة، ومحمد مفلاح كان يشتغل على اللغة المتوائمة والواقع، لذلك جاءت موضوعة الثورة في أعماله متناسقة والإحساس القريب من نبض حركة الناس في إقبالهم على وجدان خاص، وهو الثورة. ثم يمكن أن نذكر "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، حين أهدت الرواية إلى مالك حدّاد، الذي قرّر التوقف عن الكتابة بلغة ليست لغته، وهو ما يحيل دلاليا وضمنيا إلى موضوعة الاستمرار، استمرار الثورة على مستوى الذاكرة والوجدان، فاللغة كانت رهان المستعمر على محو الهوية والذات وتحقيق المسخ الوجودي، كما أن الشخصية الرّئيسة في الرّواية، "خالد"، المثقف الفنان الذي شارك في الثورة وبُترت يده، عملية البتر المستدامة في الجسد، استمرار لوعي الثورة وواقعها وأحلامها في الذات والوجدان. وفي كل هذه الأعمال لم يكن هناك تمجيدا بالمعنى الإيديولوجي للمفهوم، وهو ما يعني أن تلك الأعمال التي وردت على سبيل المثال، لم تكرّر تجربة معالجة الثورة روائيا، لأن الراهن، وخصوصا بعد الانفتاح الدّيموقراطي، ظهرت حركة السير الذاتية التي تحمل وجهات نظر مختلفة ومتضادة، لأنها ترى الحدث من زاوية ذاتية، وهو ما يجعل التبجيل الدّوغمائي للثورة منافيا لحقيقة المعالجة الفكرية والفنية لها، ووضع الثورة في "برواز التمجيد والتقديس" جنى عليها من حيث ضيّق زاوية الرؤية لها، وأخرجها عن إطارها البشري المعرّف أساسا بالصراع الدافع على الحركة وعدم الكمال. يبدو لي أنّ الرواية استفادت من الثورة، من حيث إنّها شكلت لها مخزونا من الحدث الذي كانت له علاقة مباشرة مع الوجدان الشّعبي والوطني، من هذه الناحية تظهر العلاقة جد حميمية بين الرواية والثورة، وخصوصا في سنين الاستقلال القريبة من الحدث، لكن ما أثّر على هذه العلاقة هو ظهور أعمال لم تكن تبالي بتقديم الرؤية بقدر ما كانت تراهن على الانتصار للإيديولوجيا خدمة لواقع فرض نفسه، وبالتالي يكون هذا الاتجاه الذي تجاوز الجمالية والرؤية لصالح الإيديولوجيا قد قاد العمل الأدبي إلى مضائق الخفوت، لأن التطوّر سمة من سمات الحياة، وكلما تطورت أساليب الحياة تطور معها الوعي بتلك الأساليب الناظمة لعلاقات جديدة تربط الواقع بالفن والأدب والفكر، وبالتالي لم تصبح الذائقة مرتبطة بالتبجيل والتقديس، بل راحت تلامس وجودها في ما آل إليه الواقع من نقدانية لعناصر تكوينه التاريخية. سعيد موفقي/ قاص وناقد ما كُتب عنها يحمل هاجسا وطنيا صادقا وخطابا إنسانيا مثيرا لا مبالغة فيه الحديث عن الثورة هو الحديث عن الاحتلال في عمقه التاريخي، مشاهدة أو رواية، ولذلك التعبير عن الثورة يعني الوقوف على رحلة زمنية شاقة، حقائق ومواقف وآثار ومآس وخراب ودمار وثقافة، وبطولة ونضال، ضريبة كبيرة، كلّ ذلك بحاجة إلى توثيق موضوعي وحسّ إبداعي مواز يتحمّل مسؤوليته الجميع، إذ تشكّل العملية الإبداعية عموما والرواية كجنس أدبي خصوصا، متنفسا حقيقيا في نقل تفاصيل هذه التجربة، واقعا وتخييلا، نقلا عميقا وواسعا إلى المتلقي الجزائري لاشباع فضوله في معرفة ما حدث، والأمر يتعلّق بأمّة كاملة، تحاول الرواية الجزائرية بمختلف مراحلها أن تسهم في تشخيصه في مختلف الوضعيات التي شهدها المجتمع الجزائري، فما كُتب عنها «الثورة» منذ البدايات وباللّغتين العربية والفرنسية، في الجزائر أو خارجها يحمل هاجسا وطنيا صادقا وخطابا إنسانيا مثيرا لا مبالغة فيه، وقد عبّر عنها روائيون جزائريون وغير جزائريين منذ ما قبل الثورة، فكان التزاما حقيقيا باعتبارها مصدر إلهام بما تحمل من ألم وأمل وما سبّبه العدو عاجلا وآجلا للوطن والإنسان، ومهما كان من اختلاف عن أسبقية التناول بالعربية أم بالفرنسية فإنّ الجدير بالموضوع أن تكون الرواية التي كتبها مولود فرعون أو محمد ديب أو مالك حداد أو عبد الحميد بن هدوقة أو الطاهر وطار و واسيني الأعرج... ومن تبعهم ذات صلة بالتاريخ، تحاول الرواية أن تقف على الحقائق ومناقشة الأفكار والأحداث والشخصيات كما تقتضيها الحقيقة التاريخية وهي في عملها الفني المبتكر الذي لا يبالغ في عرضها، بعيدا عن الاستثناء والاستغراب الذي يثير جدلا عقيما ويتعارض مع المتواتر تاريخيا موقفا وتعبيرا. ما يجب ذكره في هذا المقام أيضا أنّ الرواية الجزائرية بعد الاستقلال برغم من بقاء هاجس الثورة حاولت أن تبحث في التاريخ والواقع بنوع من الذاتية التي طغى عليها أسلوب السيرة الذاتية والنرجسية التي لا تحمل طرحا واضحا أو موقفا محددا، وتسعى أن تؤسس لمرحلة ما بعد الأحداث التي شهدتها الجزائر في العشريات الأخيرة لم تتضح معالمها الفكرية سوى رؤى متناقضة ومتعارضة تحمل خصوصيات ثقافية متفاوتة الطرح من حيث العمق والسطحية كثير منها لم يعد يبال بالثورة التي من الممكن أن تكون مادة وافية والتفت إلى الواقع وتفسيره وانتقاده اجتماعيا وايديولوجيا من وجهات نظر محاكية أكثر منها مبتكرة. عبد القادر رابحي/ شاعر وناقد الرواية الجزائرية الآن تعاني من انفصال عن هذه التيمة المركزية «الثورة» التي انبنت عليها مدونة الجيل الأول من الروائيين الجزائريين قد لا يتوفر للباحث الجاد، نظرا لتداخل الأيقونات التاريخية والزمنية في المخيال السردي الثريّ لجيل جديد من الروائيين الجزائريين، المعيارُ البارومتري الدقيق لقياس نسبة حضور الثورة التحريرية في الرواية الجزائرية المعاصرة كما تتجلى في أعمال الجيل الثاني من الروائيين، لا بما هي حدث مهمين في النص السردي فحسب، ولكن كذلك بما هي خلفية سطحية أو عميقة في مسار السرد يعود الروائيّ إلى أحدهما أو كلاهما من حين لآخر لدواعي تاريخية أو لمقتضيات فنية تضطره للقيام بزيارة مرحلة ثورة التحرير بوصفها زمنا من ضمن الأزمنة الروائية للإحالة إلى حدث ما أو لتبرير قضية ما، أو لتقويض فكرة ما من جهة، أو بوصفها مكانا من ضمن الأمكنة المتعددة التي تشكل بنية المكان في الرواية يستنجد بها الروائي من أجل شحذ الذاكرة المثقوبة لتستعيد ما يساعد الروائي على إتمام فصل لم يستطع فيه البطل الإشكالي أن يقوم بواجباته السردية على أكمل وجه. ربما أحال هذا السؤال إلى تشبُّثٍ ما بمفهوم المنعكس الشرطي الذي يرتبط فيه الروائي الجزائري ضرورة بالثورة التحريرية ارتباطا آليا يحيل إلى مدى تمسّكه العنيد بالطرق التقليدية في توظيف التاريخ، أو توظيف التراث، أو توظيف غيرهما من الموضوعات التي أصبحت لصيقة بالمدونة الروائية الجزائرية لكثرة تكريسها المبالغ فيه من طرف نقاد الرواية على قلّتهم. وذلك على الرغم من أن الرواية لم تكن في يوم من الأيام تاريخا، كما لم تكن تراثا. وليس من دورها أن تتحوّل إلى سجلّ للتهاني أو للتعازي التي يجتهد الروائيون في توزيعها على أبطالهم غير الواقعيين وكأنّهم أبطال حقيقيون تفوق درجة تصويرهم في صدقها واقع ما حدث للأبطال المنسيين من طرف التاريخ ومن طرف الرواية أثناء الثورة التحريرية. ذلك أن الثورة التحريرية تحوّلت في نظر العديد من النقاد والمبدعين إلى زمان ومكان. زمان ومكان وحسب. وحسبُ الرواية في نظر العديد منهم أن تشير في طياتها إلى الجزائر مكانا، وإلى السنوات السبع المشهورة زمنا، لكي يتحقق شرط حضور الثورة فيها، ولكي تحقق عندها ما يصبو إليه الروائي من تخليد لتاريخ الثورة في الرواية خاصة. ربما كانت هذه الصورة النمطية وليدة الدور الذي لعبته الثورة التحريرية في خدمة الرواية الجزائرية، خاصة عند جيل الرواد ممّن عاصروا الثورة التحريرية وعبّروا عنها بالحدة نفسها وبالعمق نفسه اللذين عهداهما في ما عايشوه من المستعمر الفرنسي. ولعله لذلك، كانت رواية جيل الرواد تطرح الشرط الإنساني بقوة في أعمالها الروائية بالنظر إلى ما كان يعانيه الإنسان الجزائري من جرح كولونياليّ عميق. وربما استطاع هذا الجيل بالذات، من خلال جعله الثورة التحريرية تيمةً مركزية، أن يجد الدافع الحقيقي للكتابة عن الذات من منطلق المعاناة الحقيقية التي عايشها والتي تعتبر شهادة تاريخية حقيقية احتضنتها الرواية ولم يسع التاريخ الكثير من جوانبها. غير أنه يمكن ملاحظة ما تعانيه الرواية الجزائرية الآن من انفصال عن هذه التيمة المركزية التي انبنت عليها مدونة الجيل الأول من الروائيين الجزائريين والتي غذّت خياله الروائي وشحذت رغبته في الكتابة، وذلك نظرا لابتعاد الأزمنة عن بعضها، ونظرا لعدم وضوح صورة الحادثة التاريخية في ذهن الجيل الجديد الذي لم يعايش الثورة عن قرب كأسلافه، ولم يعرف عنها غير ما قرأه في كتب التاريخ المجزوءة، أو ما شاهده عنها في الشاشة التي احتضنت الرواية فتحولت العديد من الأعمال الروائية الكبرى إلى أفلام تاريخية. ولعله الأمر الأهم الذي لم يتحقق لرواية الجيل الجديد على الرغم من انفتاح الخطاب الروائي على القراءة المختلفة للحادثة التاريخية، وعلى الرغم من ممارسة هذا الجيل من الروائيين للنقد المبطن لواقع الحادثة التاريخية واستعادته غير المباشرة لمضمرات ما تحمله الحادثة التاريخية من إمكانية تفسير للراهن المعقد الذي يتصدى للروائي الجديد ويضطره في العديد من الأحيان إلى العودة إلى الثورة التحريرية من أجل تفسير ما يكمن أن يحدث للبطل من اصطدامات بواقعه الراهن. محمد مفلاح/ روائي حضورها ضعيف في كل الأجناس الأدبية وبخاصة في الرواية تعتبر ثورتنا التحريرية من أهم الملاحم الكبرى التي عرفها العالم خلال القرن العشرين، وبالرغم من مكانتها العظيمة في وجدان الشعب الجزائري إلا إن حضورها ضعيف جدا في كل الأجناس الأدبية وبخاصة في الرواية الجزائرية. فالروائيون الذين عاشوا زمن الثورة، كتبوا عن معاناة الشعب الجزائري في فترة الاحتلال الفرنسي وخلال الثورة أيضا، وطرحوا قضاياه المصيرية وكانوا صادقين في التعبير عن مواقفهم الوطنية ومنها التنديد بالظلم والفقر والحرمان والتمييز والفوارق الاجتماعية. وروايات محمد ديب، وكاتب ياسين، ومحمد ديب، ومولود معمري، ومولود فرعون، وآسيا جبار، ومالك حداد -وهم من كُتّاب هذه المرحلة- عبرت عن جوانب حية من هذه المعاناة، ولكنهم لم يكتبوا عن الثورة بعمقها الملحمي ولن يستطيعوا تحقيق هذا الحلم ولو أرادوا ذلك لأن الكتابة الروائية تتطلب من صاحبها أن تكون بينه وبين الحدث التاريخي الذي يعيشه، مسافة من الوقت معقولة لانجاز أي مشروع إبداعي. أما الروائيون الذين كتبوا في عهد الاستقلال فلم يبذلوا جهدا معتبرا لإنجاز عمل يكون في مستوى هذا الحدث العظيم، والأمر يشمل أيضا الروائيين الذين ظهروا بعد الثورة ومنهم جيل المؤسسين للرواية المكتوبة بالعربية، ويعود السبب في ذلك إلى أن الرواية الملحمة تتطلب من الأديب اطلاعا واسعا على تاريخ الثورة وتفاصيل الحياة وقتذاك، وهذه المادة غير متوفرةوإلى حد الآن في مكتبتنا الوطنية. وحتى جهود الباحثين والمؤرخين الجزائريين هي دون طموحنا في كتابات جادة وجريئة يمكنها أن تحيط بكل جوانب الثورة التحريرية فتصبح بذلك مصدرا يستند إليه الروائي لكتابة إبداعاته. والمطلع على الروايات العالمية التي تناولت الأحداث التاريخية الكبرى، يكتشف الجهد الخرافي الذي بذله هؤلاء الروائيون في جمع المصادر والوثائق كما فعل تولستوي في «الحرب والسلم»، وباسْترناك في «الدكتور زيفاقو» الخ. لاريب في أن الخطاب السياسي التمجيدي قد أثر على النشاط الإبداعي وبخاصة في زمن الأحادية. والملاحظ أن جل إنتاجنا الإبداعي يعكس، في مضمونه، هذه العلاقة المتبادلة بين الحقلين السياسي والأدبي، وهي إلى حد ما مبررة، فالروائيون لم تكن لهم تقاليد عريقة في هذا الجنس الأدبي كما هو الأمر في دول أوربا.وأهم الروايات التي استلهمت الثورة محاولةً قراءة بعض أحداثها بشكل مختلف عن الخطاب السياسي المتداول، أذكر منها «اللاز» للطاهر وطار و«التفكك» لرشيد بوجدرة.كانت «اللاز» أول رواية بالعربية جعلت تيمة الثورة فنًا روائيًا، وقد أبدع فيها وطار وطرح قضية شائكة وبجرأة نادرة. والجيل الذي ظهر في عشرية السبعينيات احتضن هذه الرواية بإعجاب كبير، وتحت تأثيرها خاض بعض الروائيين تجربة الكتابة عن أحداث جرت في أثناء الثورة ولكن بتجارب مختلفة المشارب وبمستويات فنية متنوعة. كما تطرقت «التفكك» إلى أحداث مغيبة في الثورة، وتطرقت إلى تجربة مرة عاشها مناضلو الحركة الوطنية، ولكن وطار وبوجدرة انطلقا في كتابة روايتيهما من خلفية تجاربهما في أثناء الثورة ومن قناعاتهما الإيديولوجية، وتشعر أن الروايتين ردة فعل على الخطاب الرسمي. وأرى أن جل كُتّاب السبعينيات وحتى العشريات المتتالية، حاولوا في رواياتهم تسليط بعض الضوء على حيوات الناس الذين أنجزوا نصر الاستقلال، ولكن لم يخوضوا في الصراعات السياسية. ومؤخرا قرأت روايات وهي لرشيد بوجدرة وأنور بن ملك وبوعلام صنصال، استلهمت الثورة التحريرية فوجدت موضوعاتها تهدف أساسا إلى تسليط الضوء على حدث بعينه لتصفية حسابات سياسية وتبدو خلفيتها واضحة لكل قارئ.والجزائر اليوم في حاجة إلى أقلام جادة تكتب ثورتَها للتعريف بتضحيات شعبها من أجل الحرية والتحرر. حبيب مونسي كاتب وناقد أدبي الثورة كما عرضتها الروايات لم تكن سوى شبحا باهتا لخطاب سياسي أراد للأدب أن يكتب ما كتبه التاريخ بلغة خيالية لا يمكن أبدا عزل واقع الأدب عن واقع السياسة، لأن الأدب مأخوذ أصلا بتتبع الواقع الذي ترسمه السياسات وتترك على وجهه آثارها في الفرد والمجتمع، وحتى وإن أغرق الأدب في الرمزية وابتعد عن الواقعية فإنه يظل مشدودا إليه لأن مكونات المخيال الأدبي تمتح مادتها من تربته أساسا. ومن ثم نجد علامات التأثر والتأثير بادية في الكتابة الأدبية وظاهرة علنا في التوجيهات السياسية التي تحاول دوما أن تجعل من الأدب منبرها المفضل لتطل منه على الطبقات الاجتماعية وقد استكملت دورتها الدعائية في حلقة كاملة. لذلك كانت الآداب التي تكتب تحت مظلة السياسي وتوجيهه كتابات مادحة، تشيد بالمنجز السياسي الذي حققته الدولة أو الحزب. ولما كان التوجه الغالب على الكُتاب إبان الاستعمار وبُعيد الاستقلال اشتراكي الهوى يساري المنزع، كان التعبير عن البطولة ينحو منحى العمل الجماعي، الذي يؤطره الفريق، وكان التأكيد على الخطاب الحزبي واضحا في كل فقرة يكتبها الأديب. من ثم إذا أردنا أن تكون قراءاتنا لهذه الكتابات قراءة سليمة، فإنه يتوجب علينا أن نقدم بين أيدينا دوما سياقاتها الخارجية لنعرف كيف ننظر إلى تلك اللوحات التمجيدية التي كُتبت في وصف البطولات الخارقة، وكيف نفهم معنى التضحية والإيمان بالأهداف والمرامي التي تنتهي بها فقرات القصص والروايات. لم تكن الثورة الجزائرية تخلو من بطولة، بل الخروج في وجه الاستعمار وحده يعد بطولة، بله حمل السلاح والتوجه إلى الأدغال لنصب الكمائن، وتخريب المنشآت،وزعزعة استقرار المعمرين. كل ذلك يشكل مادة لكتابة صفحات من البطولة التي تتجلى فيها الذات الفردية بهمومها ومخاوفها، بما تفهمه من واقعها الجديد، وما تنكر منه من تقلبات تحدث على الساحة السياسية الفرنسية والعالمية. فليس كل المجاهدين على وعي واحد مكتمل، يدركون طبيعة الصراع الذي أدرجوا فيه. فإذا كان فيهم المتعلم الذي يعرف أبعاد القضية، ففيهم من أخرجه الفقر، وفيهم من أخرجته رغبة الانتقام ممن قتلوا أباه وأمه، وفيهم من جند على الرغم من تردده، هناك وضعيات كثيرة كان يمكن للرواية أن تعالجها لتستخلص منها معنى البطولة بعيدا عن البطولة «الفكرة» التي يحملها الحزب في نصوصه الأيديولوجية. ما يُكتب اليوم عن الثورة فيه هذا الاهتمام، وأخاله اهتمام محتشم اليوم يطل برأسه من خلال نصوص يكتبها روائيون شيوخ وكهول عاصروا النمط البطولي المؤدلج، وأدركوا فيه انحرافه عن الواقع والحقيقة، فعادوا مرة أخرى يجددون القول في الثورة ومآسيها، ولكن من منظور ذاتي واقعي، لا يلتفت إلى الأيديولوجي بقدر ما يعطي الواقع الصرف حق الوجود في هيئاته التي هي له، كما تدركها الذات في عزلتها أو في اندماجها مع غيرها. كما يكتب الرواية شباب لهم من الأسئلة التاريخية التي تقلق وتضع التاريخ في مأزق، حينما ترفع إليه من المذكرات واليوميات التي يكتبها من شاركوا في صنع الثورة وأحداثها، وما يجدونه فيها من تناقض وتضارب واختلاف، فتعود الأسئلة هذه المرة بعيدا عن بيانات الحزب أسئلة وجودية تحتاج إلى من يجيب عنها ولو افتراضيا عن طريق مخيال السرد. قلت في مقال آخر أن نص الثورة لم يكتب بعد، إشارة إلى هذا المنحى في السؤال والكتابة. وأن الثورة كما عرضتها الروايات التي كتبت في الثلاثين سنة من القرن الماضي، لم تكن سوى شبحا باهتا لخطاب سياسي أراد للأدب أن يكتب ما كتبه التاريخ بلغة خيالية، تعرف كيف تردد شعارات الحزب والدولة. وكيف تقدم بطولات يمكن أن تقتطع وتوضع في برواز لتعلق في مداخل المؤسسات الحكومية، تذكيرا بماض مجيد.