إن غياب الاهتمام بتواصل الأجيال أنتج شبه قطيعة بين الشباب و بين الفئات الأكبر سنا , تجلت بوضوح في الحراك الشعبي الذي جمع مختلف فئات المجتمع مع غلبة فئة الشباب و حضور مكثف أيضا للمراهقي. وكشفت المطالب بالتغيير السياسي الجذري و الفوري في البلاد الذي ترفعه هذه الفئة، مدى الاحتقان الذي تختزنه, ومدى طموحها نحو غد أفضل للجزائر وللجزائريين ولو بالتمني،لأن الدنيا تؤخذ غلابا. و تجلى من خلال الحراك الهوة العميقة التي أحدثتها شبكات التواصل الاجتماعي بين جيل الأمس و أجيال اليوم , بين جيل اختار التشبث بالوسائل التقليدية للتواصل , بين أجيال تكيفت مع عصر تكنولوجيات الاتصال الحديثة و أتقنت تطبيقات أجيالها المتسارعة التطور , فكانت القطيعة التي حالت دون تفاهم الطرفين . ولكن آجيال اليوم غالبا ما تتجاهل أنها ما كانت لتحظى بهذه التقنيات و الخدمات , لولا الجهود التي بذلتها أجيال الأمس لتطوير البنى التحتية التي سمحت بتوفير هذه الإمكانيات السريعة في التواصل , و خاصة بعد وضع تجهيزات التدفق الفائق السرعة للهاتف النقال من الجيلين الثالث و الرابع، في الخدمة، خلال السنوات الخمس الماضية ,الأمر الذي عمم الاستفادة من خدمات الانترنيت ليصل عدد المشتركين إلى أكثر من 34,5 مليون مشترك . وقد شجع التدفق السريع للانترنيت على استعمال الهواتف الذكية التي تمكن صاحبها بالاطلاع الآني على المعلومات المتاحة على شبكات التواصل الاجتماعي الفيسبوك و التويتر و أخواتهما , عبر تطبيقات إلكترونية قابلة للبرمجة لتناسب كل الحالات و كل الأوقات، خلافا لوسائل الإعلام التقليدية العاجزة عن مجاراة هذه الشبكات الإلكترونية التي تتسع لنشر كل أنواع المعلومات التي يتعذر غالبا التأكد من صحتها . ومن هنا اكتشفت بعض الأحزاب دور وتأثير وسائل التواصل الإلكتروني , فسارعت ولو متأخرة إلى ولوج هذا العالم الافتراضي بفتح مواقع خاصة بها، على الشبكة العنكبوتية و إنشاء صفحات وحسابات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، للتواصل مع مناضليها و لتجنيد مناضلين جدد تحسبا للاستحقاقات النتخابية. بينما توظف أحزاب أخرى الفضاء الإلكتروني في نضالها لإقناع مستعملي النت بطروحاتها و مواقفها الحزبية . غير أن هذا الاستغلال السياسي للنت من طرف الطبقة السياسية الرسمية , يظل محدودا ومحصورا في قلة من الأحزاب الكبرى، وفي صوره البدائية ,أي بنقل الصور والخطابات التي أثبتت فشلها في الواقع المحسوس، إلى الواقع الافتراضي. و هو ما ينفر فئة الشباب من الأحزاب و من الممارسة السياسية , و غالبا ما يتجلى هذا النفور من خلال المواقع الإلكترونية التي يواظب الشباب على زيارتها عبر الشبكة العنكبوتية إذ تشير دراسات مُحْكَمَة في هذا الخصوص إلى قلة اهتمام هذه الفئة بالمواقع ذات المحتوى السياسي , و إلى اهتمامهم أكثر بمواقع التوظيف , و بفرص العمل في الخارج , و بالزواج بالأجنبيات و بالمواقع العلمية و التعليمية بالنسبة للطلبة و الدارسين , فضلا عن مواقع الرياضة و أخبار الرياضيين . كما هناك من يرى أن طريقة ممارسة السياسة جعلت الشباب متشائما بخصوص مستقبل الديمقراطية في البلاد , و يعتقد أن نسبة العزوف عن السياسة ستتعاظم و تعكس حاجة (...) من الافتراضي إلى الواقع و العكس بنفس الأدوات الشباب إلى أسلوب خاص بهم للتواصل السياسي معهم, وهو أسلوب لم يستطع رجال السياسة التقليديون استيعابه وامتلاك تقنياته , فما كان على الشباب أنفسهم سوى اختيار الأسلوب الذي يناسبهم عبر قنوات اختاروها بأنفسهم ما دام المجتمع السياسي عاجزا عن التواصل الإيجابي مع هذه الفئة، فكان الحراك الشعبي الذي عاشت الجزائر جمعته السادسة أول أمس . وهو الحراك الذي بدأ في العالم الافتراضي عبر شبكات التواصل الاجتماعي لينتقل إلى العالم الواقعي لكن بأدوات و شعارات و أساليب فيسبوكية , فالتحرك وسط الحشود البشرية يبقي جل المشاركين «مجهولي الهوية» كما هي حال المواقع و الصفحات الإلكترونية بأسماء مستعارة و هويات مجهولة , كما أن الحشد البشري يشجع على استعمال كل العبارات و الشعارات القادحة أو المادحة للأفراد و الهيئات وكل المطالب الشرعية و غيرها، دون خشية المساءلة القانونية . و كما هو الشأن على المواقع الافتراضية , فإن ما يجري في الواقع من حراك يتحول على الشبكة العنكبوتية إلى «حدث» يدخل حلبة المنافسة من أجل الفوز بأكبر عدد من «اللايكات» (الإعجابات) و أكبر عدد من المشاهدين لجعل الصفحات و المواقع الإلكترونية حيزا مناسبا لنشر الإعلانات الإشهارية . و بذلك يدخل الحدث السياسي بورصة الإعلانات الإشهارية ,( للعلم فإن الإشهار السياسي وفر لشركة فيسبوك أكثر من 256 مليون دولار في ظرف 6 أشهر بالولايات المتحدةالأمريكية العام الماضي ). وإذا علمنا أن الجزائر هي ثاني دولة في العالم العربي بعد مصر من حيث عدد مستخدمي الفيسبوك البالغ عددهم 21,9 مليون مستخدم , و أن تسعيرة الوحدة الإشهارية على هذه الشبكة هي الأرخص في شمال إفريقيا، عرفنا المستقبل الزاهر لسوق الإشهار السياسي في المنطقة على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي قد يفسر جانبا مما ينشر عبرها من حملات «التضليل الإعلامي المنتظمة عبر حسابات مشبوهة بهدف إثارة النقاش», بل ولا تتوانى في نشر الأخبار الكاذبة و الشائعات بهدف زيادة عدد المشاهدات أو القراءات . هل يعتبر هذا الأسلوب شكلا من أشكال الممارسة السياسية أو نوعا من المشاركة في الحياة السياسية ؟ للإجابة على هذا التساؤل نكتفي بنقل مفهوم المشاركة السياسية كما يحددها الباحثون الأكاديميون فالمشاركة ببساطة تعني حسبهم الاعتراف والتصرف في تفاعل المرء مع مجتمع أكبر أو شبكة من المثل الفلسفية، قد يحس الناس الذين يصوتون في الانتخابات أنهم سيشاركون في عمليات ديمقراطية، حتى وإن لم ينخرطوا في منظمات سياسية.» فالمشاركة تعني التفاعل بشكل ما تجاه قضايا المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، بينما المشاركة السياسية بصفتها أحد أنواع التفاعلات الاجتماعية المرتبطة بحقل السياسي، فهي «عملية ديناميكية، يشارك الفرد من خلالها في الحياة السياسية المجتمعية بشكل إرادي وواعٍ، من أجل التأثير في المسار السياسي العام، بما يتفق مع أرائه وانتمائه الطبقي، وتتم هذه المشاركة من خلال مجموعة من الأنشطة؛ الاشتراك في الأحزاب السياسية، والاهتمام بالحياة السياسية والتصويت.» إذًا، يعدّ التصويت أحد أوجه المشاركة فهل يعيد الحراك للممارسة السياسية نجاعتها ؟ السياسية في الانتخابات، فعن طريقه يحرص الفرد على أن يكون له دور إيجابي في الحياة السياسية، من خلال مزاولة إرادية لحق التصويت، أو الترشيحللهيئات المنتخبة، أو مناقشة القضايا السياسية مع الآخرين، أو الانضمام إلى المنظمات الوسيطة.» ومن الباحثين من يختصر المشاركة السياسية في عمليات التصويت في الانتخابات، «إذ تختزل المشاركة السياسية في عملية التصويت والمشاركة في الانتخابات، أو ما يسمّى السلوك الانتخابي، والتركيز على السلوك الانتخابي، لم يكن ينبع من فراغ، وإ نمّا يستند إلى أهمية هذا الفعل في التأثير في صناعة القرارات المصيرية بالنسبة إلى المجتمع والجماعة»، وتعدّ المشاركة في الانتخابات أحد أوجه المشاركة السياسية التي تمنح القابعين على هرم السلطة المزيد منالشرعية، أنّ الانتخاب العام والشامل « يقوم، على الأقل، بوظيفتين: إعطاء المزيد من الشرعية لأولئك الذين يمارسون السلطة، وينشّط الإحساس لدى المحكومين بانتمائهم للمجموعة الكبيرة، بفضل ممارستهم الجماعية لامتياز مشترك.»وفي الأخير، تُعدّ المشاركة في الانتخاب فعلاً إراديًا يتمكّن من خلاله المواطنون مناختيار من يحكمهم .و»تُعدّ المشاركة في الانتخابات عملية إرادية واعية ومتراكمة، وإن كانت موسمية، يتمكن الشبان من لهم الحق في مباشرة حقوقهم السياسية من خلالها إمكانية الانتماء أو الاختيار أو المفاضلة أو الاقتراع على من يمثلونهم أوينوبون عنهم». وللمساعدة على الربط بين الأفكار، تجدر الإشارة إلى أن نسبة المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية تهاوت إلى مستوى 40 % وعادة ما اقتصرت المشاركة في فئة المسنين حسب التقارير الإعلامية الخاصة بتغطية العمليات الانتخابية .فهل يرفع الحراك الشعبي هذه النسبة إلى الضعف ؟ ذلك هو المطلوب .