كم من الوقت مر على تلك الفتاة الخارجة للتو من الطفولة نحو المراهقة. ما أن ترجع إلى البيت، وتخلع عنها مئزرها المدرسي الوردي، وتضع محفظتها في المدخل أمام مرآة البهو، حتى تتهيأ للخروج من جديد متوجهة نحو سوق لاباستي العريق، لتشتري ربطة نعناع من عند «خالتي مامية» بائعة الحشيش، يعني بائعة النعناع والمعدنوس والقسبر والكرافس وغيره. تسير الفتاة الصغيرة بثقة وهدوء، كمن يملك أجنحة. المسافة ليست بعيدة، فبين سكنها في حي بلاس دي فيكتوار وحي لاباستي بضع دقائق فقط من الطريق، ومن زرقة البحر المحاذي، يرافقها دوما وهو يبتسم. ثم إن زوجة أبيها تفضل شاي المساء بالنعناع الطازج، الذي ينعش الروح ويعطر لغة الأمكنة. الفتاة الصغيرة تلك يسعدها انشراح أسارير وجه زوجة أبيها وتفضل رضاها. ثم إن الفتاة الصغيرة التي كنتُ، يأسرها ذلك الجزء الأخير من اليوم، تقول إن اليوم مقسم على أربعة فصول، وإنه الجزء الذي يشبه فصل الخريف. يهبط فيه المساء على مهل يختم النهار رويدا رويدا، قبل أن تشتعل قناديل مدينة وهران كلها.وتبدو وجوه الناس مبتسمة، أصواتهم أكثر بهجة. ربما لأن القلوب آنذاك كما البلاد، كانت تختزن الكثير من الأمل في المستقبل وترى أفقا زاهرا من الأحلام. كم من الزمن مر على ذلك الزمن؟!. كم مر منه لكي يتغير كل شيء. لكي تضيق رمزية شوارع المدينة التي كانت تبدو واسعة، ويخبو الضوء الذي كان يبدو أكثر قوة في الفضاء وفي عيون الناس المليئة بالمحبة، وتبرد زرقة البحر الصاخبة بالقصص والحكايات، وتختفي الابتسامات التي كانت تشع من ملامح الوجوه. كم الوقت مر لكي تطفو على السطح عاهات العصر البغيضة الآليات المالية تستوطن كل جزيء من الحياة، الاتفاقيات النووية، وحروب الطاقة، والحروب الباردة والحارقة، والأزمات الدولية وخيارات الأمر الواقع، والخيانات بكل أنواعها. كم من الزمن؟ ثم ما هو الزمن؟ لا أحد يدري، حتى فيلسوفنا السوقهراسي الكبير سانت أوغستان 354-430 يعترف في مؤلفه الشهير «الاعترافات» Les confessions ، بأنه قد يعرف ما هو الزمن، ولكنك إذا أنت سألته عنه فإنه لن يستطيع أن يجيبك. وتمضي الفتاة الصغيرة بخطواتها التي تشبه خطوات راقصة البالي. تتوجه نحو لاباستي، و بالضبط نحو الركن الذي تجلس به خالتي مامية بائعة النعناع لتختار لها بيديها المزينتين بمسايس من الفضة ذات الرنين الرائع، ربطة نعناع قادرة على أن تنعش بعطرها العجيب الساحر كوكبا بأسره. الربطة التي ستعتلي سينية الشاي النحاسية المغطاة بمنديل شفاف مطرز، المأهولة بكؤوس تعلوها رغوة الشاي مثل تيجان من اللؤلؤ. سترافق سهرة الخميس أو السبت المخصصة لفيلم السهرة، التي تبثه الشاشة الوحيدة في فضاء السمعي البصري آنذاك للتلفزيون الجزائري، الذي عادة ما كان يعرض أهم وأجمل الأفلام الناجحة والمقتبسة من الروايات العربية والعالمية، مثل زوربا الإغريقي أو آنا كارنينا أو اللص والكلاب أو ردّ قلبي أو الأطلال أ وأفلام منقحة) من بطولة الفنانة الأسطورة مريلين مونرو وغيرها . الفتاة التي تسير نحو لاباستي كانت تهوى الشعر والروايات والأغاني وأهم الأفلام الجزائرية الناجحة والأفلام العربية والعالمية وتستدرجها خاصة جوانبها الرومانسية التي تتحدث عن الحب. ما الحب؟ الإنسان يحبُّ الحبَّ فقط . الإنسان يتخيل له أنه يحب ولكنه في الحقيقة يجري وراء فكرة الحب. هذا جواب الأديب المجرِّب الذي عاش طويلا جان دورميسون العجيب - وهل من إجابة أخرى أو اقتراب آخر؟ الفتاة الصغيرة الرومانسية تلك كانت تبحث عن إجابة في الشعر العذري وألف ليلة وليلة وجبران خليل جبران والمنفلوطي وجيرار دي نيرفال ولوي أراغون ورامبو وروايات إحسان عبد القدوس وأغاني أحمد وهبي وعبد الحليم وداليدا وجورج شاكيريس و.. في طريقها نحو منصة حشيش خالتي مامية، تسير الفتاة الرومانسية صدفة قريبا جدا خلف زوجين مسنين. أنيقين. لعلهما أجنبيان. تتشبث المرأة المسنة الأنيقة بمنتهى الفخر بذراع زوجها المسن ذي الظهر المنحني، ترفع الزوجة جانب بصرها نحو وجهه، ثم وكأنها تأمره مثل أم حانية. دافعة صدرها بقوة هكذا..هامسة وهي تؤنبه بحب: - عدّل قامتك..! لم يتردد الزوج لحظة. ابتسم ثم عدل استقامة ظهره. وكأن شيئا مدهشا حدث. اختفت الحدبة التي كانت تعضّ على أعلى ظهره، وعلى الرغم من أن المسنّين الجميلين اختفيا في شارع لاباستي إلى الأبد، إلا أن صورتهما ظلت فكرة قوية للحب في ذاكرة الفتاة تلك. - يا سيد دورميسون.. تقول المرأة التي كانت فتاة رومانسية، وهي تلوح بربطة النعناع المنعشة: - نحن لا نحب فكرة الحب. بل الحب أن تكون عين قلبك على المحبوب دوما وأن تقول له: - عدل قامتك.. أنا هنا. الحياة جميلة يا حبيبي، على الرغم من أنها حدباء أحيانا !