على تضاريس الاغتراب نثرتُ أفكاري. و بين سطور الحياة رسمتُ وحدتي.. شفافة.. نقية.. تؤدي صلاتها في معبد النسيان، و تمارس طقوس غربتها في صومعة، انحنت فيها الحروف، فسجنتني بين حرفين.. و قيّدتني بحرية من حديد. ! ما أصعب العيش بحرفين! و أقسى الحياة دونهما! حرفان. هما سجني. و هما حريتي! بين أسارير السماء. كان وجهك مرسوما. مشرقا. كشمس صباح استفاقت بعد غفوة الدلال.. و بين تفاريج السحب المنفوشة. كانت ابتسامتك تلوح لي.. ببراءتها، فأستقبل الصباح الجديد.. متفائلة بيوم جميل.. و غد أجمل. و مع كل خطوة يتسع لي الطريق. ويفسح اليوم المجال لي واسعا أمام خواطر جديدة. و أفكار شديدة. ينسجها الخيال الوحيد. الوحدة وحش جائع.. يبحث عن فريسة يقتنصها كل يوم. لكن جوعه لا يهدأ ولا ينام.. في كل ليلة. يرمي ضحاياه في زنزانة لا تسكنها سوى الزوايا الفارغة! في زنزانة الوحدة رسم القدر ساعة الفراق. عندها أعلنت النفس الانسحاب وتركتني سجينة لصدى الحياة.. تلطمني أمواجها المترنحة بين العودة و المضي. ويأسرني لونها البائس، فيحبسُني في دائرة الألوان الحيادية.. التي اختارت الصمت و أعلنت الحداد هي الأخرى. وحيدة كنت. تؤنسني الوحدة الموحشة، فتبعث في قليلا من الخوف.. و كثيرا من الحكمة.. لكن بين نفسي و بيني يمزقني صمتها المقصود.. وتسألني رفيقتي.. أقصد.. وحدتي : - متى ستتحررين ؟ فأجيبها و كلي ثقة : - حرة.. ما دمت أعيش بين حرفين.. أهديتُ العمر لهما! ما أطول العمر الذي أفناه الحب.. أذابه الشوق.. وحكم عليه الحنين بالانتظار المؤبد! و ما أقسى الأيام التي تسابقت، فسلبتني أحلام الزمن. الزمن الذي وكزني و رماني غي سلة الكوابيس! و أصعب العيش بين حرفين.. يبتدئان. يمتدان. لكن لا ينتهيان! كنت أنتظرك.. و تنتظرك الأحلام الفارغة بصبر مشتعل لتؤثثها. وتبعث فيها الحياة من جديد، فتقهر قسوة الكوابيس. و يهزأ بي الواقع قائلا : -أضغاث أحلام.. فأرد واثقة: -بل واقع.. أعيشه في كل حلم ينبض بالحياة. لكن أحلامي المرهقة تعبت.. أنهكتها طفولتي التي تبكي كل يوم.. فقط نقطتان من أجل نظرة أو ابتسامة تعيدها إلى الماضي ،فتقطف منه لحظة من الذكريات.. و تعيش بها لأيام و لسنوات. إنه صوت المطر يعزف سمفونية الشتاء.. ينسدل كخيوط رفيعة سكبتها السماء.. و بين خيوطها يقين قطع دابر الشك الذي يطوّقني.. هجرني النوم و تركني النعاس، فوجدتني وحيدة في ليل وحيد مثلي.. تؤثثه رقصات الريح مع المطر . ما أجمل الرقص تحت المطر! وما أجمل أن تكون الوحيد الذي يضيع في دهاليز المدينة.. تحت بكاء السماء و صرخة الأنواء! و راسلتك أفكاري تلك الليلة، فوجدتك تتثاءب بعد طول سبات، فنادتك روحي التي أثقلتها الهواجس.. وأتعبها الانتظار.. أبي.. لا تزال نائما في أحلام الطفولة.. لا تزال حاضرا بين أحلام البراءة.. تلتحف ابتساماتها.. و ترتدي حركاتها المبعثرة.. التي ترسمها العفوية.. على جدار القلب لونتك الأحلام. و مكان علقة الشر وضعك القدر، فجعلك وشما عميقا بدايته ألف و نهايته باء.. و في الشرايين و الأوردة دماء لا تسري فيها كريات حمراء و بيضاء.. بل يسري فيها حرفان.. أعيش بهما و لهما! على مرايا الذاكرة ارتسمت تفاصيلك الوهمية.. الفارغة من مضمونها.. تفاصيل لا تشبه تفاصيل الرجال الذين رأيتهم في حياتي، فقد أردتها أن تكون مختلفة.. و على مرآة الروح لم ترتسم إلا صورتك..حقيقية.. شفافة.. كما رسمتها أفراح الطفولة.. و لوّنتها أنامل الربيع.. أبي.. لا أزال طفلة.. تبحث عنك في غياهب ليل ملؤه رجال إلا أنت ..