لعل من بين الأخطاء الاستراتيجية لأنظمة الحكم المتعاقبة في الجزائر , أنها ركزت في علاقاتها مع دول إفريقيا على الجوانب السياسية و الإنسانية على حساب الجوانب الاقتصادية, رغم أن القارة الإفريقية كانت و ما زالت تغذي طمع القوى العظمى التي بدأ سباقها المحموم للسيطرة على ثروات القارة السمراء و ضمان استمرار هيمنتها على العالم , إذ بعد حقبة الاستعمار المباشر باحتلال البلاد و استعباد العباد و الاستحواذ على الثروات مباشرة, ثم بعد حقبة الحرب الباردة و ما ميزها من صراعات لإجبار الأنظمة على الانحياز لأحد قطبي هذا الصراع الاقتصادي الإديولوجي و ما تخلله من حروب و نزاعات بالوكالة ما زال بعضها مستمرا إلى اليوم , نعيش في الوقت الراهن الحقبة الثالثة لهذه الهجمة الغربية الآسيوية على القارة الإفريقية عبر ما يمكن تسميته "استعمارا من خلال الاستثمار", و إن كان هذا النوع من الاستثمار يراعي مصالح الدول المستثمرة , و التي تحت مبررات حماية مصالحها , لا تتوقف عن دعم وجودها العسكري في إفريقيا , من خلال إقامة قواعد عسكرية لها , إذ تحتضن هذه القارة حاليا ما يزيد عن 58 قاعدة عسكرية , (أي أكثر من عدد دول القارة؟). و هكذا بعد قرنين من الاستغلال لثروات القارة السمراء , تخطط الدول "المستعمرة أو المستثمرة " مواصلة هذا الاستغلال على مدى قرن آخر , تظل خلاله إفريقيا مصدرا للثروات بأقل التكاليف,و لليد العاملة الرخيصة, و سوقا ضخمة لاستهلاك ما زاد عن حاجة الدول المهيمنة ؟ إنه المصير الذي ينتظر إفريقيا في حالة لم تتخل أنظمتها عن الصراع من أجل الاستحواذ على الحكم و الاحتفاظ به و الاستمرار في الاستقواء بالقوى الخارجية , مقابل ربط بلدانهم بهذه القوى, و جعلها رهينة التبعية المطلقة لها, اقتصاديا و لغويا على أقل تقدير. و لذا , فإن الجزائر رغم علاقاتها السياسية الجيدة مع معظم الدول الإفريقية , إلا أنها ستجد صعوبة في تغيير توجهها الاقتصادي نحو السوق الإفريقية لغياب الأرضية المناسبة لذلك , إذ ما تحتاجه إفريقيا ,ما زالت الجزائر في حاجة إليه لتغطية احتياجات سوقها الداخلية , كما لا يمكنها أن تكون وسيطا تجاريا لمنتجات يحصل عليها الأفارقة بأسعار تنافسية من منتجيها مباشرة . و لعل غياب قطاع خاص قوي ماليا و إنتاجيا و لوجيستيا في الجزائر, سيظل حجر عثرة في طريق. الجزائر شبه غائبة عن التكتلات الاقتصادية ! تقوية العلاقات الجزائرية الإفريقية اقتصاديا و تجاريا, كون معظم اقتصاديات الدول الإفريقية تتحكم فيها لوبيات محلية مرتبطة و مدعمة من طرف لوبيات أجنبية , كما أن التكتلات الاقتصادية في القارة السمراء بدأت في التشكل في عهد منظمة الوحدة الإفريقية التي تأسست سنة 1963 ثم بعد حلها و تعويضها بالاتحاد الإفريقي سنة 2002 , بل إن بعض مناطق التجارة الحرة تشكلت منذ 1993 يوم كانت الجزائر غارقة في مآسي العشرية السوداء , و منها المنطقة التي جمعت شمل بعض الدول الفرانكوفونية في إفريقيا. اختيار الحلفاء وفق المبادئ وحسب المصالح إذ باستثناء عضوية الجزائر في اتحاد المغرب العربي المجمد النشاط , و هياكل الاتحاد الإفريقي ذات الطابع السياسي و الأمني , لا وجود للجزائر في أي تكتل اقتصادي من التكتلات النشطة التي قطعت أشواطا متقدمة في تنفيذ خطة اتفاقية أبوجا للتكامل الاقتصادي الإفريقي التي من المفروض أن تكون قد جسدت في الوقت الراهن أربعا من مراحلها الست الهادفة إلى إنشاء اتحاد اقتصادي و مالي موحد على مستوى القارة الإفريقية و عملة موحدة و برلمان واحد بحلول 2028. بل إن الجزائر لم تستعد حتي لمواجهة تحديات منطقة التجارة الحرة الشاملة على مستوى القارة الإفريقية ,التي دخلت حيز النشاط ابتداء من الفاتح جانفيي 2021 ,بتأخر سنة عن موعدها المحدد بسبب جائحة كورونا, و هي السوق التي تستوجب إقامة جمارك مشتركة على مستوى القارة. لقد شغلت أوروبا الجزائر عن عمقها الإفريقي من الناحية الاقتصادية على مدى الستين عاما الماضية ,و عليها أن تستعجل العودة إلى هذا العمق , و لا شك أنها لن تستغني عن مساعدة الصين التي أصبحت أكبر شريك تجاري لأفريقيا لمدة تزيد عن عقد من الزمن حيث وصل حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا إلى 170 مليار دولار أمريكي، وتجاوز حجم استثمارات الصين في أفريقيا مائة مليار دولار أمريكي، وتقوم أكثر من 3100 شركة صينية بالاستثمار والتجارة في أفريقيا. و بالتالي فإن الجزائر هي التي في حاجة إلى الصين لاسترجاع مكانتها السياسية و الاقتصادية و التجارية في القارة السمراء إذ الحضور الجغرافي وحده غير كاف لضمان مثل هذه المكانة. و مع ذلك, لا ينبغي التقليل من شأن جهود الدبلوماسية الجزائرية في القارة السمراء , سواء من خلال وزير الخارجية الذي كثف من زياراته لبعض الدول الإفريقية في المدة الأخيرة أو عبر السفارات و القنصليات , التي يقع على عاتقها تمهيد الأرضية للعلاقات الاقتصادية المستدامة و استكشاف فرص الاستثمار الواعدة و رعاية المصالح الوطنية في مختلف المنظمات و المؤسسات المالية على وجه الخصوص و بالأخص تلك التي تساهم البلاد في تمويلها و قلما تستفيد من مزاياها. و من المبادرات المشجعة على الانفتاح الاقتصادي على الدول الإفريقية و التي من المفروض مواصلتها مع دول جوار أخرى , فتح المعابر البرية , كذلك الذي تم على الحدود الجزائرية الموريتانية من أجل تكثيف التبادلات التجارية بين البلدين وبعث حركة اقتصادية جديدة وتحقيق انسياب حركة تنقل الأشخاص والبضائع عبر البلدين. المعابر البرية بوابات لولوج العمق الإفريقي و بفتح المعابر البرية والجوية بين البلدين تزداد فرص تصدير المنتجات الجزائرية ليس إلى السوق الموريتانية فقط و إنما نحو بقية دول غرب إفريقيا مثل السنغال التي تربطها اتفاقيات اقتصادية استراتيجية بالجزائر, التي تسعى إلى بعث طريق الوحدة الإفريقية ليكون صلة الوصل مع عمقها الإفريقي و لاسيما في المجالات الاقتصادية. و قد عرف التعاون الجزائري الموريتاني في شتى الميادين ازدهارا باهرا على مدى عقد من الزمن, يمكن الاستضاءة به في وضع سياسية جزائرية للتعاون الجزائري الإفريقي, الذي يراعي احتياجات الأفارقة ,و يحافظ على ثروات القارة السمراء, و تراث شعوبها و خصوصياتهم الثقافية . و زيادة على بوابة موريتانيا نحو العمق الأفريقي , هناك أيضا بوابات مالي و النيجر و ليبيا , المفتوحة على مصراعيها للمستثمرين و المتعاملين الجزائريين , و هي ميزة تنفرد بها الجزائر من بين دول شمال إفريقيا يجب استغلالها فيما ينفع شعوب المنطقة , و يحد من النشاطات غير الشرعية. مرونة الإجراءات لتحرير التبادلات التجارية إذ يكشف حجم التهريب للبضائع الجزائرية عبر الحدود البرية على و جود طلب عليها في دول الجوار, مما حدا بالجمعية الوطنية للمصدرين الجزائريين بدعوة سلطات البلاد لتمكينهم من تمرير بضائعهم عبر معابر الحدود الجنوبية و لاسيما مواد البناء و العجائن و المواد الكهرومنزلية المصنعة محليا , ملتمسين فتحها على الأقل مرة كل أسبوعين لتبادل السلع و المواشي . و حسب تقديرات ممثلي المصدرين فإن منتجي الإسمنت يمكنهم تصدير 300 ألف طن سنويا من هذه المادة بعد دخول مصنعين إضافيين طور الإنتاج ...و بفتح المعابر الحدودية الجنوبية تصبح الكرة في ملعب المتعاملين الاقتصاديين و المستثمرين و المصدرين , لتحويل شعار "التعاون جنوب/جنوب" إلى واقع يوفر العيش الكريم لأكثر من مليار مستهلك يعيشون في القارة السمراء ظروفا لا تتناسب و إمكانيات قارتهم . و ما قيل , لا يعفي بقية الدوائر الوزارية من فتح نافذة أو أكثر نحو القارة السمراء , سواء بخصوص ما يمكنها تصديره إليها من مواد أو خدمات , أو استيراده منها و الاستفادة من تجاربها, إذ ليس هناك قطاع يمكنه التملص من واجبه في تحرير الاقتصاد الجزائري و الإفريقي من الهيمنة الغربية على وجه الخصوص .