رحلة الشعوب في البحث عن التاريخ المجيد: وجدت بعض الشعوب والأقلياتصعوبة كبيرة في البحث عن تاريختليد لها، وعن سيرة ما لأبطالها وعلمائها، عدّدت بعضهم بخجل،وعرّفت بالبعض الآخر استعارة وسطوا في الانتساب بطائلة الهجرة والإقامة. وفشلت أممعديدة حديثة في العثور على ما تقدمه للمجتمع الدولي كتراث أصيلومُشرِّف ضارب في عمق التاريخ،فهي كيانات مستحدثة تصنع تاريخها الآن صناعة، وتكتبه بأحرف من ذهب. لا تعاني الجزائر ما تعانيه هذه المجموعات المذكورة، بل تملك إرثا حضاريا كبيرا،وتتمتع بتراث تاريخي ثري ومتنوع، يعود عمره إلى ملايين السنيين حسب الدراسات الأثرية الأخيرة،ولكن معاناتها هي نيل المتربصين من هذا التراث ورموزه. وتجري هذه العملية بالتشويش المُمنهج، القائم على تخوين الأبطال والزعامات الوطنية، وتقزيم الأحداث التاريخية الكبرىالجامعة، وتحجيمها وإهمالها وتسفيه مضمونها، وجمع الشبهات وترتيبها وحصر النقاش فيها وترويج الأباطيل، وعرض البديل " الفرد والحدث الاستثنائي" وتحرير سيرته ومشاهد حركته، وتلميعه بصورة الحداثة والتحرروالتجديد تارة، وبمنطق الوصاية والغيرة على الثوابت تارة أخرى. التاريخ وطرح السؤال العلمي: فما هي ترى حظوظ السؤال العلمي الموضوعي ومتطلباته وآفاقه؟ وهل يسوغ بموجب هذا التوصيف المُحزِن أن نصادر حق المؤرخين والباحثين المُتخصصين في مباشرة البحث والتنقيب والحفر التاريخي، ثم الجهر بالحقيقة، وهم الذين يُفترض فيهم أن يكونوا قد تسلحوا بالمناهج العلمية، واستنفذوا المادة التاريخية من كل المصادر، وانفتحوا على العلوم المساعدة الأخرى المُفسرة. ألا يحق للمهتمين والمتابعين للشأن العام الإطلاع على التفاصيل والجزئيات التاريخية من مصادرها الأساسية؟ ما هي الحدود المتاحة في النشر علميا وأخلاقيا، وما هي المستويات والضوابط اللازمة، حتى لا يُستباح الحرم التاريخي ويتورط المندفعون. إنه كما نُسلم المريض للطبيب لفحصه وتشخيص حالته وتطبيبه، ونتوجه بالمراكب السيارة للميكانيكي والكهربائي للمعاينة وإصلاحالأعطاب،ونعترفبكفاءة خبراء الهندسة المدنية والمعمارية ورجال القانون وأهليتهم، ينبغي أن نُقِرأن الواقعة التاريخية هي من اختصاص المؤرخين. فالمؤرخ بالمواصفات المذكورةهو أولى وأقدر من غيره على إثباتها أو نفيها، والتأريخ لهابمصادر متعددة، ومن زوايا مختلفة، في سياقها التاريخي وبأطرافها الفاعلين الأساسيين، وبظروفها المحلية والدولية وشروط الزمان والمكان، وينجح في مهمته ويتفوق أكثر حينما يتجرد من الايديولوجيا والخلفيات ويتحرى الحقيقة والموضوعية، وإن لم يكن كذلك، فلا طائل فيه. تاريخ الجزائر وخطاب التشكيك: لقد طالت الملوك النوميديينفي التاريخ القديم شبهة التحالف غير الاستراتيجي مع الأجنبي (قرطاجة، الرومان) وجرى القصف العنيف بالعمالة، وانتصرالبعض لطرف على حساب الآخر. واعتبرت طائفة محدودة الفتح الإسلامي في القرن السابع للميلاد غزوا عربيا غريبا على الديار، ولا يختلف عنه كذلك في الصفة التدخل العثماني في القرن السادس عشر لنجدة الجزائريين. وتشددت خطابات دينيةدخيلة بشأن أضرحة العلماء، ومزارات الأولياء والأشراف كمعالم عمرانية حضارية شاهدة في الوطن على الفعل الثقافي وازدهار التصوف الشعبي. وامتد التشكيك في الرموز الوطنية في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر ليشمل أعلام المقاومة الشعبية في القرن التاسع عشر، وزعماء ومواثيق الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر في القرن العشرين. تعرض تاريخ الأمير عبد القادر إلى حملة تشويه قوية استهدفت عدة محطات من حياته، منذ انتخابه أميرا، وتوليه قيادة المقاومة ورئاسة الدولة، إلى فترة المنفى بفرنسا وتركيا والشام. وفي كل مرة، كانت الشبهة والأراجيف هي سيدة الموقف، وكان المضمون"المترجم حرفيا"، وغير المؤسس على المعلومة المُوثقة هو النص المحرر. من ذلك كيفيات الترشيح والانتخاب، والتعاملمع الأسرى والقبائل المحلية المتخاذلة، وتطور مسار المقاومة في الأيام الأخيرة للأمير بالجزائر، وقراره التاريخي بوقف القتال وطلب الاستئمان، وملابسات ذلك، ومؤامرة الأسر والاعتقال ونقض العهد والميثاق الشرفي الفرنسي الذي اختزلته المصادر الفرنسية المعاصرة في عبارة مُهينة مُخزية غير مطابقة للواقع ولا معبرة عنه، هي "الاستسلام". قرار توقيف القتال: الاستنزاف الحربي والحصار المُطبِق قرر الأمير عب القادر تعليق العمل المسلح يوم 22 ديسمبر 1847م لدواعي كثيرة، يعود بعضها إلى التطور العام للمنظومة القتالية والسياسية للمقاومة، ويعود البعض الآخر إلى مستجدات المرحلة الأخيرة ومتطلباتها. 1- تخاذل القوى المحلية: استقوت فرنسا بتخاذل جماعات الامتيازاتواستمرار دورها السلبي وعدم دعمها للمقاومة بقيادة الأمير وإدعاء حق الأولوية في الحكم، مثل بعض المجموعات الكرغلية في مستغانم ومازونة وتلمسان وقسنطينة باعتبارها الوريثة الشرعية للنظام العثماني. وعدائية الاتحادات القبلية للارستقراطية التقليدية بالقطاع الوهرانيمثل قبائل المخزن الشرقي والغربي خاصة الدواير والزمالة بقيادة مصطفى بن إسماعيل (1776-1843) وابن أخيه المزاري. كما كان لتردد بعض القوى المحلية من مكونات المجتمع، وتراجعها وانسحابها من الصف الوطني الأثر البالغ في إضعاف المقاومة وانقطاع روافد التطعيم ورص الصفوف. كما هو شأن بعض شيوخ الزوايا والطرق، الذين تذبذبوافي آرائهم كأفرادلا كمؤسسات، وتباينتمواقفهم من المقاومة بدعوى وقف الجهاد ودرء الفتنة، وعدم تكافؤ القوىوتعاظم أمر المحتل، وتسويق فكرة حفظ النفس لتحقيق المقاصد الشرعية، وانتظار الفرج الإلهي والتسليم بالأمر الواقع. علما أن الأمير خريج زاوية، وهذه المؤسسة هي من تولت قيادة المجتمع في الكفاح المسلح خلال القرن التاسع عشر، واضطلعت بدور الدفاع عن مقومات هُويته من لغة ودين وعادات وتقاليد. 2- الجيش الفرنسي العرمرموالإستراتيجية الحربية للأمير: اعتمدت فرنسا منذ دخولها إلى الجزائر على جيش قوي مدجج بأحدث الأسلحة ومزود بالخطط العسكرية والخرائط الطوبوغرفية،وقد ترأسه كبار القادة العسكريين من ذوي الخبرة الحربية الذين شاركوا في الثورات والحروب الداخلية والخارجيةبأورباكالثورة الفرنسية وحروب نابليون، أمثال لويس دوبرمون (1773-1846م) وبرترانكلوزال (1772-1842م) وروبير بيجو (1784-1889م).ورافق الجيش حملة للاستيطان الأوربي قائمة على السلب والنهب، والقمع والإبادة، ومصادرة الأملاك، والانتقام الشديد من كل من يتورط في دعم الأمير عبد القادر. علاوة على ذلك، ومما زاد في متاعب الأمير وأنهك قواه أيضا هو طبيعة الكفاح وطرائق مجابهة الخصم التي أعتمدها، حيث كانت الإستراتيجية الحربية العامة قائمة على إخلاء المدن والتنقل بالعاصمة "الزمالة" من مكان إلى آخر. الأمر الذي أربك العدو وأطال في عمر المقاومة، ولكنه ترتب عنه الإنهاك العام للطاقات البشرية واستنزاف القدرات الحربية وتآكلها بسبب الانتقام الوحشي والإبادة الجماعية للقبائل المساندة في الظهير. 3- تطويق فلول المرتزقة: بمرور الزمن، وفي الوقت الذي كانت فيه مقاومة الأمير تعاني من التموين غير المُنتظم، وتقلبات جغرافية الحرب وتطوراتها وتداعياتها، كانت فرنسا تُدعّم صفوفها بمزيد من الخونة الغادرين الذين باعوا الوطن وارتموا في أحضان العدو في تشكيلات وفرق مرتزِقة.وكانت هذه المجموعات تُقدم خبرتها بالمحيط واتجاهاته ومسالِكه ودروبه، وتنظم خرجات استطلاعية تجسسية استخباراتية تسهل مهمة الخصم في تعقب حركة الأمير وسد منافذ عبوره وتنقله. تأسست فرق خيالة العرب "السبايس أو الصبايحية" بعد خمس سنوات من انطلاق المقاومة عام 1937م، وتعزز وجودهم في الجيش الفرنسي رسميا عام 1841م، وساهموا بفعالية في سقوط الزمالة شهر ماي عام 1843م بمنطقة طاقين. كما أُنشئِتكذلك فيالق الزواف (من زواوة) منذ وقت مبكر يعود إلى عهد الحاكم العام برترانكلوزيل (1772-1842م) والضابط فلوروسدوفيفيي (1794-1848م)؛ والتي انخرطت هي الأخرى في مواجهة الأمير ومطاردته، شأنها في ذلك شأن الخيالة القناصة "قناصة إفريقيا" في الجيش الإفريقي الفرنسي، وشأن القبائل التي تنكرت للأمير بعد سقوط الزمالة عام 1843م واستمالة فرنسا لها، واستسلامها، وانهار بذلك التكتل القبلي الوطني الذي احتضن المقاومة وبايع الأمير على الجهاد والسمع والطاعة. 4- خيبة الأمل في الرهان الخارجي: لم يكن الرهان الخارجي أوفر حظا للأمير عبد القادر من الرهان الداخلي في معادلة المقاومة، فالدول الأوربية كانت ترعى مصالحها الاقتصادية والتجارية بالدرجة الأولى. وعاشت هذه الدول أوضاعا سياسية غير مستقرة بين ثورات 1830م و1848م (فترة المقاومة)، وكان الحوض الغربي للمتوسط يموج حينئذ بالصراعات الدولية،ودخل الأمير في اتصالات دولية ثنائية بغية استثمار الوضع المتأزم لصالحه، خاصة مع الإنكليز ووكلاء الدول بجبل طارق لجلب السلاح وتسجيل حضور الدولة الجزائرية، غير أن الأمر لم يبلغ المستوى المطلوب بسبب الهيمنة الفرنسية. أما بلدان العالم الإسلامي من الشرق إلى الغرب بما فيها الباب العالي، ومنها تونس والمغرب الأقصى على وجه الخصوص، فلم يتلق منها الأمير الدعم الحاسم غير المشروط. وظل حُكّامهذه الأقطار يتململون بعد تقديم مساعدات أولية، ويتمنون عدم لجوء الأمير إليهمثانية وإحراجهم، وانصراف الاحتلال عن أوطانهم فقط، وينتظرون المصير المحتوم، وحلول توقيت ترتيبهم في الإلحاق. قاعدة الحدود المغربية (1843-1847م): مستجدات المرحلة واستشارة الأمير بإنهاء المقاومة 1- الضغط الفرنسي بإعلان الحرب على المغرب والتهديد باحتلالها: توجه الأمير عبد القادرإلى الحدود المغربية بعد فشله في تحقيق النصر على خصومه الفرنسيين وأعوانهم في أعقاب معركة طاقين وسقوط الزمالة بتاريخ 16/05/1843م. واستقر بقاعدته الجديدة واسترد أنفاسه، وابتعد عن الأنظار، وانفرد بما تبقى له من مكونات الزمالة، وأنشأ دائرة بديلة، وشرع يراقب تحركات الفرنسيينويباغتهم بعملياتمفاجئة.كان يأمل في جمع شتات القبائل، وتنظيمهم وردهم للصف، وإحياء المقاومة وبعث روح الجهاد ومحاربة مشاعر الإحباط واليأس، والاتصال بخلفائه. تمركزت القاعدة الجديدة ببني زناسنفي الشط الغربي جنوب شرق وجدة على بعد خمسين ميلا منها، وأسس الأمير مجموعات حربية سريعة الحركة والتنقل.وكانت هذه الفرق تنطلق من القاعدة، وتتجه نحو القطر الجزائري لتنفيذ هجمات خاطفة عبر الهضاب العليا الغربية طيلة الفترة الممتدة بين عامي (1843-1847م).كان هدفه تأديب القبائل الموالية للجيش الفرنسي، وإرهاق هذا الأخير وتشتيت قواته؛التي كانت تتحرك في كل الاتجاهات في حملات منظمة من التيطري،بقيادة ماري مونج (Marey-Monge) وكامو (Camou) لخنق أنصاره في أولاد نايل والسهوب والسارسووالونشريسوالتنكيل بهم. مارست فرنسا المزيد من الضغوط على المغرب الأقصى، وواجهت الجيوش المغربية في معركة ايسلي شهر أوت 1844م، وقصفت مدينتي طنجة وموغادور، وألزمتبموجب معاهدة طنجة 26/10/1844م ومعاهدة لالة مغنية18/03/1845مالمغاربة بالامتناع عن دعم الأمير ومطاردته حيثما حلّ وارتحل. فزاد الخناق على الأمير وخلفائه في الداخل، واشتد الحصار على الحدود الغربية، وتقدم السلطان المغربي مولاي عبد الرحمانبعرض للأمير بحل تنظيمه العسكري والتخلي عن مشروع الدولة الجزائرية والإقامة في فاس، وهو الأمر الذي رفضه الجميع عندما علموا به. 2- معارك الأمير الخاطفة واحتضار المقاومة: لم يستجب الأمير للأمر الواقع وللعروض المُحبِطة، وتمسك بمشروعه الوطني، وخرج لمجابهة الفرنسيين قرب ضريح سيدي إبراهيم شهر سبتمبر 1845م، ففتك بحامية مونتنياك ورفاقه. وانتصر عبد القادر انتصارا بعث الأمل في النفوس المنهارة وألهب حماسها، فاعترض ثانية رفقة البوحميدي وفي نفس الشهر كتيبة فرنسية مجهزة في طريقها إلى ثكنة عين تموشنت، واستولى عليها وأسَر ضباطها وجنودها. عاد الأمير من جديدللجزائر، كما عاد لها أيضا بيجو مرة أخرى، وانتقم على الفور من قبائل الحدود الغربية التي احتضنت المقاومة مثل ولهاصة وترارة ومسيردة والسواحلية وأولاد شعيب. طاف عبد القادر أرجاء البلاد لمدة سنة كاملة من خريف 1945م إلى خريف السنة الموالية 1846م، جاب خلالها بلاد القبائل ومر بالصحراء عند أولاد سيدي الشيخ يطلب الدعم والمؤازرة، واحتك بالجنرال يوسف في تامدة شهر سبتمبر، وتوجه إلى الونشريس والهضاب العليا. لقد تسارعت وتيرة الأحداث المتلاحقة في السداسي الأول من عام 1847م، وعزم بن سالم خليفة الأمير في سور الغزلان على الانسحاب من المقاومة، وتبِعه أصدقاؤه في جرجرة، وحسم بومعزة ثائر الظهرة والونشريس موقفه، وسلّم نفسه هو الآخر للفرنسيين في 13/04/1847م. ولمّا عاد الأمير إلى قاعدته بالحدود المغربية، وجد الوضع قد تأزم أكثر من ذي قبل، وجيش السلطان المغربي قد نال من القواعد الخلفية للمقاومة بالمنطقة، وذلك بإبادته الوحشية لقبائل بني عامر والحشم والجعافرة. زاد تضييق المغاربة على الأمير ومطاردتهم له رفقة الفرنسيين الذين كانوا يتربصون به، وصار بين فكي كماشة محاصرا من كل جانب، البحر شمالا، والجيش المغربي من باقي الجهات، والجيش الفرنسي منتشرا في الواحات الصحراوية. ولم تُجْد مفاوضات البوحميدي نفعا مع السلطان الذي تمسك بخيار الاستسلام، مات عنده، واضطر الأمير للدفاع عن نفسه ورد عدوانالمخزن المغربي وحماية دائرته بتاريخ 11-12/12/1747م بمنطقة سلوان، والانسحاب إلى نهر الملوية تمهيدا للتوجه نحو الصحراء. 3- الخيارات المطروحة والموازنة بين الحلول: مفاوضات واتفاقيات فكر الأمير مليا في إيجاد مخرج للحصار المضروب عليه بعد ردعه للمعتدين، وكانت الخيارات المطروحة أمامه بمقاربة واقعية للمصالح والمفاسد قائمة على أساس الحفاظ على دائرته (بقايا الزمالة) المتشكلة أساسا من أسرته والأطفال القُصّر، والنساء الحوامل والرُضّع، والمتاع الحربي الأساسي، وعدم الدفع بها إلى الكارثة وإزهاق جماعي للأرواح: 1- الخيار الأول: التوجه نحو الصحراء والمجازفة بالانتقال إليهاعبر جبال كربوس انطلاقا من واد كيس على الحدود المغربية الجزائرية الذي وصله بتاريخ 21/12/1847م، واجتياز ممر وحيد إلى الساحل لتفادي قوات الحلفاء وهلاك الدائرة. غير أن فرق الصبايحية بقيادة العميل الملازمبوخوية تعقبت أثر الأمير باتجاه الممر وأبلغت عنه، فحاصرته الخيالة الفرنسية، وبات هذا الحل لا يمكن تجسيده على أرض الواقع. 2- الخيار الثاني: مواجهة الحلفاء الأعداء مع يقينه بعدم توازن القوى عسكريا، فقوات السلطان المغربي بقيادة ولديه محمد وسليمان تتربص وتترصد من الخلف في نهر ملوية وبني زناسن، والقوات الفرنسية بقيادة لا مورسيير(Louis Juchault de Lamoricière) من الأمام عند واد كيس ما وراء نهر الملوية في الطريق المؤدي إلى الصحراء تنتظر وتتأهب لتنقض عليه وتُلحِق به هزيمة ماحقة مؤكدة. ويمثل هذا الخيار معركة لليأس والإحباط، والطيش والتهور، ومخالفة الشرع بقتل النفس والغدر بأتباعه، وهي كلها صفات لا يمكن أن يتمثلها الأمير، ويتوهم النصر كقائد عظيم. 3- الخيار الثالث: وقف القتال ومناقشة المسألة في اجتماع عام مع الدائرة ومجلس الشورى، وإشراك الجميع في اتخاذ القرار وتحديد مقتضياته وشروطه،وذلك بصفة رسمية عن طريق التفاوض والاتفاق الشفوي والكتابي والمصادقة الثنائية على محتواه. لقد دعا الأمير إلى اجتماععام بتاريخ22/12/1847ملدراسة مستجدات المرحلة الأخيرة وتطوراتها، واتخذ المجلس بالإجماع قرار توقيف القتال وفق شروط.وكانت هذه الشروط مُشرِّفةمثل عقد الاستئمان، وحرية مجموعات المقاومة المدنية والعسكرية في الهجرة إلى الخارج في بلد مسلم، أو العودة إلى الديار بداخل الجزائر بسلام، وتمكينه هو شخصيا من الذهاب إلى الإسكندرية أو عكا بفلسطين.تفاوض الوفد الأميريومندوبيهمع القائد الفرنسيلامورسيير، وتم الاتفاق على توقيف الحرب بشروطها المقررة، وتبادل الطرفان ما يضمن العقد الشفوي ويؤكده مثل ورقة مختومة من طرف الأمير، وسيف لا مورسيير وخاتم القائد بازان (François Achille Bazaine : 1811-1888). ثبّتالحاج عبد القادر الاتفاقية كتابيا بتحرير شروطها الأولى كاملة، وأرسلها ثانية إلى الفرنسيين بعد موافقتهم عليها وتعهدهم بتنفيذها عبر القنوات الرسمية. وصادق الحاكمالعام للجزائر الدوق دومال (1822-1897م Henri d*Orléans, duc d*Aumale)بحضور الأمير والمترجمين على هذه الاتفاقية الدولية الملزمة للطرفين وفق ما كانت تقتضيه الأعراف الدولية من مراسيم وتشريفات، وبخصوص ذلك، تنقل شخصيا إلى منطقة الغزوات لتمثيل دولته يوم 23/12/1847م ومقابلة الأميرممثلا دبلوماسيا لدولته بحضور المترجمين والقادة العسكريين والمستشارين من كلا الطرفين.اتجه الأميربمقتضى الاتفاقية بحرا إلى وهران في اليوم الموالي 24/12/1847م، ومنها إلى الوجهة التي طلبها في المفاوضات التي أجريت باسم شرف دولة فرنسا والتزامات ملكها وكبار الجنرالات. اعتقلتالبحرية الفرنسيةالأمير عبد القادر ومرافِقيه، ونكثت فرنسا الاتفاق الدولي الثنائي والأعراف الدبلوماسية، وغدرت بالجزائريين المستأمنين بتحويلسفينتهم إلى ميناء طولون الفرنسي. وهكذا فإن الأمير لم يستسلم كما روّجت لذلك الكتابات الفرنسية، والعسكرية منها على وجه الخصوص، بعد معركة خاضها مع أعدائه على غرار أمثلة تاريخية كثيرة، واستمات في الدفاع عن وطنه بطلا عظيما مدة سبعة عشر سنة، لا نُقدسه، ولا نُنزهه عن زلات البشر، ولكن لا نسمح باغتيال رمزيته، إن أخطأ هنا وهناك من منظورنا، فأخطاؤه لا تُقصيه من قائمة الأبطال الخالدين في تاريخ الأمة الجزائرية المجيدة.