لطالما استوقفتني أحداث ومشاهد متنوعة قد يبطئ المرء في اتخاذ القرار المناسب بشأنها فيقف لبرهة يحلل ويفكر في القرار الصائب المناسب، ولعل من بين الصور التي مررت عليها وكانت ذات دلالة كبيرة لي، بالنسبة لما أعرفه عن تاريخ الجزائر الحديث وعن أهم الاحداث التي ميزته، صورة جمعت ستة شخصيات كبيرة ومهمة في تاريخ الجزائر الحديث ولا أبالغ ان قلت أن هؤلاء من صانعي تاريخ الجزائر بحلوه ومُرّه، وقد يتسرع البعض من أشباه المثقفين في الحكم على الصورة بالألفاظ التي عهدناها من عملاء فرنسا والحركى دون معرفة مسبقة أو حتى الالمام بهوية صاحب الصورة، وقد يكون مجرد رؤية النياشين على صدور القوم كافيا لإطلاق العنان لحملة السب والشتم والتي قد تنجو منها فقط صورة الامير عبد القادر بنياشينه التي جمعها من سائر الدول الأوربية وفرنسا. لا أنكر أن هؤلاء ساهموا في ارساء الاستعمار الفرنسي ووقفوا الى جانب فرنسا في العديد من المناسبات، لكن لا يجب أن ننسى أن أكثرهم كان ممن قاوم الاستعمار لفترات طويلة قبل أن ينظم الى الصف. وأن منهم من أفرزته مشيخة من زمن الأتراك ومن الزوايا والطرق الدينية الكبرى للبلاد. كما أن هناك خبايا في التاريخ، تجاوزتها المقررات المدرسية، صورت لنا كل التاريخ بإيجابية دون الاطلاع على الخلفيات التي تسمح للفرد منا أن يعي التاريخ بحكمة ومنطق. وعلى سبيل المثال لا على الحصر نذكر أن المقراني الذي ثار في 1871م كان باشا آغا على مجانة (شمال برج بوعريريج) وأبوه كان خليفة على المنطقة. وأيضا من باب التذكير أن ثورة أولاد سيدي الشيخ الكبيرة والتي استمرت من 1864م الى غاية 1881م، والتي قادها أبناء سي حمزة بن بوبكر رفقة أعمامهم سي لعلا وسي الزوبير، هم في واقع الأمر أبناء الخليفة على الصحراء "حمزة بن بوبكر" منذ 1852م وسي الزوبير الذي كان آغا على ورقلة. و حتى المقاوم "بن ناصر بن شهرة" الذي قاد المقاومة في الأغواط وشارك في العديد من الثورات كان آغا على عرش المعامرة والحجاج تحت مسؤولية صهره الباشاغا "أحمد بن سالم" والذي أدت غطرسته الى انشقاق بن ناصر بن شهرة عنه واعلان الثورة على فرنسا بعد اتصاله بشريف ورقلة "محمد بن عبد الله". وهناك أمثلة كثيرة عن شيوخ انشقوا بعد أن كانوا في صف فرنسا مرغمين أو انضووا في صفها بعد اليأس من مقاومتها حقنا لدماء أهلهم وذويهم. الصورة استوقفتني لأنها تحمل في طياتها العديد من الدلالات التاريخية والاجتماعية المهمة، ولأننا عهدنا الحكم على مثل هذه الصور بالسالب فقط وكان يمكن رؤية الوجه الآخر لها، الوجه المحمل بالتاريخ والأحداث التي صنعت تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر. ما شدني كذلك أنني ما ان شاهدتها حتى قلت أن هناك وجوها أخرى تنقصها مثل "آل المقراني" و"أولاد سيدي العريبي" عن عمالة وهران و"آل بن قانة" عن الزيبان. كما أن في الصورة شخصية لها علاقة وطيدة بمنطقتنا وب "أولاد نايل" على العموم، والمتمثلة في باشا آغا التيطري "بن يحي بن عيسى" والذي كان معروفا في منطقتنا ب "بن يحي التيطراوي" أو "بن يحي العايب". وحتى نفصل في الموضوع نعرف بالشخصيات التي تجمعها الصورة والتي أُخذت بمناسبة قدوم "نابوليون الثالث" الى الجزائر سنة 1860م أين تم خلالها توزيع أوسمة جوقة الشرف على كبار القادة من الفرنسيين والجزائريين. الواقفون من اليسار الى اليمين: 1- عبد القادر بن داود آغا تيارت، من مخزن وهران (الزمالة و الدواير)، رجل حرب مهاب جاء خلفا للمزاري والجنرال مصطفى بن اسماعيل العدو اللدود للأمير عبد القادر 2- محمد السعيد بن علي شريف باشاغا شلاطة (إشلاضن بالقبائلية نواحي آقبو)، شيخ زاوية كبيرة في المنطقة، بعد تردد كبير انضم الى صف فرنسا ضمن القبائل الموالية لها، حيث يرى البعض أن السبب الرئيسي في مساهمته في إخماد ثورة الشريف بوبغلة (الشريف محمد بن الأمجد بن عبد المالك المدعو بوبغلة)هي حادثة القبض على ابنه من طرف ثوار بوبغلة بعد أن رفض محمد بن السعيد الانضمام الى انتفاضتهم. 3- سليمان بن صيام آغا مليانة، من قبائل المخزن الوهراني، لم يكن رجل حرب، وقف مع فرنسا في انتفاضة بني مناصر في 1871 م رفقة الباشاغا بوعلام بن شريفة. لهذا الآغا مؤلف مشهور ب "الرحلة الصيامية" التي قام بها في 1852م بدعوة من حاكم الجزائر العام راندون (randon) والتي ذكر فيها ما شاهده في فرنسا وأعجب به من عمران وحدائق ومتاحف وغير ذلك من الأشياء التي تركت فيه انطباعا عميقا. الجالسون من اليسار الى اليمين: 4- الطاهر بن محي الدين باشاغا بني سليمان في القبائل الصغرى، من أسرة مرابطين، كان أخوه خليفة الى غاية وفاته سنة 1852م. احد اخوته محفوظ، حاول ابقاء صورة زاويتهم في مكانتها المشرفة، كونها من أكبر زوايا المنطقة وقد عرف خاصة بأبرز وجوه المقاومة الشعبية "لالة نسومر" التي فضلت الاستقرار في اقامتها الجبرية في احدى زوايا الأطلس البليدي (الزاوية العيساوية) الى غاية وفاتها سنة 1863م. بعد وفاته في 05 آفريل 1866 م ألغت الادارة الفرنسية دائرة الحكم التابعة له. 5- بن يحي بن عيسى باشاغا التيطري وأكبرهم سنا من الوجوه القديمة التي عاصرت الأتراك. كان له نفوذ كبير على جنوب التيطري على قبائل أولاد نايل والأرباع. ولد سنة 1805م حيث شارك في مواجهة الانزال الفرنسي في سيدي فرج مع الجيوش التي استنفرت لمواجهة الفرنسيين في اسطوالي سنة 1830م. عمل كمخازني عند آغا التيطري بوشارب كما شارك في معركة قرب مليانة ضد كتائب الفرنسيين والتي أصيب خلالها برصاصة في الساق، استدعت فيما بعد قطع رجله، اشتهر على اثرها ب "يحيى العايب". في 1842 استسلم للفرنسيين، حيث شارك في الحملة التي قادها الدوق دومال (Henri d'Orléans, duc d'aumale) ضد زمالة الأمير عبد القادر الجزائري بتاريخ 16 ماي 1843 والتي كانت فاجعة لم تثن عزم الأمير عبد القادر على مواصلة الجهاد المقدس ضد فرنسا وأتباعها. صورة تمثل معركة زمالة الامير عبد القادر1843 يعزى اليه اقناع الخليفة الشريف بن الأحرش بالاستسلام سنة 1847 م وان كانت هناك مصادر أخرى ترجعها الى مراسلة من طرف الأمير عبد القادر ينصحه فيها بالاستسلام حقنا لدماء أهله وأتباعه من أولاد نايل والقبائل الأخرى الموالية لها، والتي على إثرها عين بن يحيى في 29 نوفمبر 1847 باشاغا على التيطري بعد ان كان آغا (1844). ونجده أيضا قد ساهم في خروج الشريف بن الأحرش من السجن بالمدية، ضامنا في حسن سيرة خليفة الأمير عبد القادر الشريف بن الأحرش، الذي عين فيما بعد من طرف الجنرال لادميرو (ladmirault) باشاغا على أولاد نايل ثم خليفة فيما بعد عندما أيقنت فرنسا أنه لا يمكن ابقاء جزء كبير من "أولاد نايل" في دائرة "أحمد بن سالم" و"الباشاغا بن يحي"، لكن هذا لا يعني استسلام المنطقة كلية بل ضلت نداءات الجهاد تجد دائما آذانا صاغية الى غاية مطلع القرن العشرين. توفى الباشاغا بن يحي يوم 05 نوفمبر 1881م فقيرا. 6- بوعلام بن شريفة باشاغا جندل بالقرب من مليانة، كان في حكم الأمير عبد القادر قائدا على جندل، ويُقال ان سوء تفاهمه مع بن علال خليفة الأمير على المنطقة جعله يترك التحالف مع الأمير عبد القادر مبكرا (1842م)، حيث سار الباشاغا بوعلام 57 مرة بفرسانه ضد الانتفاضات والثورات التي عرفتها المنطقة والمناطق المجاورة لها مما اهله لتقلد وسام جوقة الشرف برتبة قائد واستطاع أن يتجاوز أخاه الشريف بن شريفة. أثار أحد أحفاده المعروف بباشاغا بوعلام جدلا كبيرا نتيجة مواقفه اتجاه الثورة الجزائرية، توفى الباشاغا بوعلام في 18 أكتوبر 1883م. الصورة مليئة بالزخم التاريخي وهي نموذج معاصر عن ما كانت عليه الجزائر من نظام سياسي، القائم على قبائل المخزن ذات الامتيازات الكبيرة والمعفاة من الضرائب وقبائل الرعية المطالبة بأنواع شتى منها. هذا النظام الاقطاعي الذي استغلته فرنسا في بادئ الامر لبسط نفوذها على سائر قبائل الجزائر مستغلة ما أفرزه الوجود التركي من تشتت وعداوة من قبائل الرعية وقبائل المخزن ذات الشكيمة والبأس، فكان الحس الوطني ناقصا أو يكاد ينعدم مما سهّل على العدو المهمة بل وحتى تجنيد الآلاف من أبناء الوطن بمجرد نزوله على شواطئ الجزائر في كتائب من الزواف والصبايحية (الخيالة) والرماة الجزائريين ... ولهذا، ففكرة العمالة لفرنسا لا يمكن حصرها في أفراد، وانما هي قضية مجتمع بأسره، نتيجة غياب الوعي القومي آنذاك والذي كان وراء اخماد العديد من الثورات الشعبية. هذا الوعي القومي والنضج السياسي الذي نجده بدأ يتجلى في مطلع القرن العشرين مع بدايات الحركة الوطنية التي قادتها مجموعة من النخبة الجزائرية من أمثال الأمير خالد. و حتى أكون منصفا تجاه أصحاب هذه الصورة فلابد أن أذكر أن أحفادهم دفعوا بالعشرات من المجاهدين والشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف لتحيا الجزائر حرة أبية في كنف الاستقلال والعزة.