ظل وسيبقى مصنع إنتاج الاسمنت ببني صاف في ولاية عين تموشنت واحدا من اكبر المؤسسات الإنتاجية بغرب البلاد التي تساهم في توفير هاته المادة الحيوية في أشغال انجاز المشاريع وفق مختلف البرامج، إلى جانب وحدات سعيدة والشلف وزهانة بمعسكر القطب الرابع في هذا المجال، إلا انه ورغم أهميته الإستراتيجية يعاني من مشاكل بالجملة منها التلوث بأنواعه والفساد بأشكاله وأضحى المصنع الذي دخل حيز الخدمة منذ عشرات السنين يغطي نسبة كبيرة بآلاف الأطنان يوميا، توزع عبر مختلف جهات الوطن، مهددا بالغلق، بسبب ما أصبح يشكله من خطر بيئي وصحي على المحيط والإنسان على حد السواء، جراء إفرازه لعشرات الأطنان من الغبار والأتربة السامة في الجو يوميا التي تتكون من غازات ومواد سامة ثبت أنها مضرة للإنسان، الأمر الذي أثار قلق المواطنين بالمنطقة، حيث طالبوا من خلال عدة جمعيات مختصة ومنظمات مهتمة بالبيئة والمحيط بتدخل أعلى سلطات الولاية في القضية التي ازدادت تفاقما خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد أن أثبتت التقارير الطبية بالولاية وفي أكثر من مناسبة أن بني صاف والجهات المحيطة بها تحتل المركز الأول بالولاية من حيث عدد الإصابات بالأمراض التنفسية، لا سيما الربو وضيق التنفس وباقي الامراض الصدرية والحساسية التي تطال العشرات من السكان من مختلف الشرائح، بما في ذلك المواليد الجدد والرضع الذين يولدون وهم مصابون بهاته الأمراض الخطيرة والمزمنة. كما أثبتت أيضا تقارير علمية أخرى أن ارتفاع نسبة التلوث بمحيط بني صاف بلغ أعلى المستويات خلال السنوات الأخيرة التي لا تعرفها حتى أكثر المناطق تلوثا في العالم، ما جعل مديرية البيئة بولاية عين تموشنت، باعتبارها المسؤول الأول على القطاع وكطرف في المسألة، توفد في عدة مناسبات لجان تحقيق ميدانية مكونة من خبراء وتقنيين لمعاينة الوضع وإجراء عمليات قياس نسبة التلوث في العديد من المناطق بالجهة خاصة وأن حجم الإنتاج ارتفع بالنظر لحجم المشاريع التي تم إطلاقها عبر عدة مناطق من الوطن والتي يرتبط إنجازها بتواجد الاسمنت بأنواعه، وأثبتت التقارير أيضا أن الوضعية أصبحت خطيرة بدرجة عالية وأكثر من أي وقت مضى والتدخل أصبح أمرامطلوبا. * إخفاق في معالجة الغبار ومن أجل امتصاص وتجنب أي إجراءات عقابية قد تصل إلى إدراج العدالة ضد المؤسسة، أكدت إدارة وحدة إنتاج الاسمنت ببني صاف، أن فعالية أجهزة تنظيف وتصفية الغبار المسماة “هيليكترو فيلتر” لم تعد مجدية في الوقت الحالي بالنظر لانتهاء صلاحية عملها، ما ساهم في ارتفاع حجم الغبار المنبعث يوميا وذلك اعترافا منها بان الأمر أصبح خطيرا، وأرجعت ذلك أيضا لحجم الغبار الذي تقوم بتصفيته يوميا والذي يبلغ ذروته بالنظر لكميات الإنتاج التي تستمر 24 ساعة على 24 ساعة داخل الوحدة، كما تعهدت ذات المصالح بحل الإشكال في اقرب الأوقات وذلك خلال الأيام القريبة ، ما اثار ارتياحا نسبيا وحذرا لدى مواطني بني صاف ونواحيها إلا أن العملية ليست بالسهلة كما يعتقدها البعض، فالأمر يتطلب أموالا هامة وكذا تقنيين مختصين لإتمامها والأكثر من ذلك، اختيار الوقت المناسب لتركيبها الذي لا يكون فيه الطلب على الاسمنت كثيرا للقيام بالعملية في أحسن الظروف، لانه ببساطة، كما تؤكده ذات المصالح، مثل هاته الإجراءات تتطلب توقيف نشاط الوحدة لعدة أيام، مما يعني تكبدها خسائر قد تكون بالملايير، ناهيك عن تذبذب كبير بين العرض والطلب، مما يفسح المجال أمام المضاربين لاستغلال الفرص على حساب المواطن البسيط، إلا أن المواطنين وممثلي المجتمع المدني لم يقتنعوا بهذه الإجابات والتبريرات، لأنهم اعتادوا عليها سابقا، الأمر الذي قد يتسبب في مشاكل وتصاعد حدة الأزمة بين سكان بني صاف وإدارة الوحدة، ما قد يهدد المصنع بالغلق إلى حين إيجاد الحل المناسب للقضية للحفاظ على نظافة المحيط الايكولوجي وسلامة المواطنين التي تعتبر أولوية الأولويات، رغم أن هذا الإجراء ستكون له عواقب سلبية على الاقتصاد الوطني ووتيرة أشغال انجاز العديد من المشاريع الإنمائية الحالية، خاصة بولايات وهران وعين تموشنت وتلمسان وسيدي بلعباس، بسبب ما قد ينجر عن ذلك من نقص فادح في مادة الاسمنت في الأسواق وقد يتسبب أيضا في ارتفاع أثمانها والتي هي أصلا مرتفعة حاليا. * تلوّث برّي وبحري وفي الوقت الذي مازال المواطن ببني صاف ونواحيها يعاني، طالبت العديد من الجمعيات وكذا خبراء وباحثين واكادميين في المجال بضرورة عصرنة الوحدة لا سيما ما تعلق بتجهيزات الإنتاج وهي مهمة ممكنة قد تساعد على الحفاظ على البيئة من جهة وأيضا التقليص من حجم معاناة المواطنين، وما يزيد الأمر سوءا، أن النسيج العمراني بالجهة يعرف توسعا كبيرا، حيث أصبحت الوحدة هاته محاطة بعشرات التجمعات السكانية والمؤسسات التربوية والاجتماعية وحتى الإدارية على عكس ما كانت عليه سابقا، حيث كانت تبعد بمسافة كبيرة عن السكان، بالاضافة الى كونها توجد عند المدخل الرئيس للمدينة وعلى جانب الطريق الوطني باتجاه عاصمة الولاية عين تموشنت وأيضا وهران، إلى جانب أنها أضحت تشوّه الجانب السياحي للولاية الذي يعتبر واحدا من القطاعات الحيوية بها خاصة وأن المصنع يجاور العديد من شواطئ الاصطياف ببني صاف وأكثرها استقطابا وجلبا للسياح، إلى جانب ذلك، تهديد عشرات الهكتارات من الأراضي الفلاحية لا سيما المنتجة للحبوب بأنواعها والكروم، هاته الأخيرة التي تعتبر من أهم المحاصيل الفلاحية بالجهة التي تراجع إنتاجها بشكل مخيف بسبب التلوث. ورغم إجراءات الدعم والمتابعة التي وفرتها الدولة وكذا الأشجار منها المثمرة وحتى الغابية التي تسبب الغبار الملتصق بأوراقها في موتها ولم تبق منها سوى هياكل خشبية يطغى عليها اللون الرمادي الذي يعكس لون الغبار. وبالنظر لكل هاته المعطيات والمشاكل أضحت عملية تأهيل وعصرنة الوحدة وجعلها تطابق المقاييس العالمية أمرا محتما وضروريا أكثر من أي وقت مضى للتقليل من حدة المعاناة التي طالت الإنسان والحيوان وحتى النبات وهي مهمة ممكنة في ظل الإمكانيات الهائلة التي تتوفر عليها الوحدة وأيضا حفاظا على مصير ومستقبل مئات العمال في مختلف الورشات والرتب الذين يعملون بها. * والمصفاة في خبركان! أوّل ما أثار انتباهنا ونحن ندخل مدينة بني صاف تلك السحابة التي تغطي سماءها محوّلة إيّاها إلى مدينة الضّباب ولم يعد لنور الشمس مكان هناك حتى البنايات والسكنات المنجزة بالإسمنت تخال للزّائر أنها مبنية بالطين أو الخشب، لأن مادة الغبار المنبعثة من مصنع الإسمنت طبعتها باللون الأبيض والأحمر، وما يزال المصنع يطلق سمومه بالرّغم من وعود مسؤوليه بتزويده بمصفاة. وتشير الإحصائيات إلى تسجيل عشرات من الإصابات بأمراض الرّبو والحساسية نتيجة استنشاقهم لغبار المصنع، وتحوّلت سكناتهم إلى أشبه بالمقابر بعدما حُرم عليهم فتح نوافذهم وأبوابهم وشرفات منازلهم نتيجة أطنان الغبار المنبعثة من المصنع. وقال بعض المواطنين أن إدارة المصنع تتعمد إيذاءهم من خلال تركها لمنافذ الغبار مفتوحة عندما تهبّ الرياح باتجاه مجمّعاتهم السكنية. للإشارة، فإن التّلوث الناتج عن العمليات الصناعية يعد من أخطر أنواع التلوث، وتشكل مخلفات مصانع الإسمنت مشكلة بيئية واقتصادية كبيرة تؤثر على صحة الإنسان والحيوان والنبات أين يتسرب إلى الهواء الغبار والانبعاثات الغازية من نوع أكسيد الآزوت ، أكسيد الكبريت، أول أكسيد الكربون ، ثاني أكسيد الكربون، المركبات الهيدروكربونية، الفورانز، الوقود ومادة الديوكسين التي تعد من أكثر وأخطر المواد التي عرفتها البشرية حيث استخدمها الأمريكيون في حرب الفيتنام، لما لها من أثر شديد للفتك بالبشر. وتستهلك صناعة الإسمنت بين 60 و130 كيلوغراما من المحروقات الزيتية و110 كيلوواط في الساعة من الطاقة الكهربائية و1.5 طن من المواد الخام لإنتاج طن واحد من الإسمنت، وهو ما يؤكّد نسبة الآثار السلبية الإقتصادية والبيئية سلبية الناتجة عن إنتاج أزيد من ملياري طن سنويا على المستوى العالمي. * قوت من فتات الإسمنت هم أطفال ومراهقون وحتى شباب دفع بهم الفقر إلى المغامرة بحياتهم في سبيل جمع بعض الدّنانير وأيّ طريقة للجمع، فهم يصطفّون في ساعة مبكّرة أمام المئات من طوابير الشاحنات بالقرب من مصنع الإسمنت وبمجرّد أن تقترب الشاحنات من مدخل المصنع يركض الأطفال ورائها من أجل ركوبها وهي تسير لأن المحظوظين منهم هم من تقبض أيديهم بالشاحنة أوّلا وهم من سيفوزون بصفقة التّنقيب عن الإسمنت من داخل الصّهاريج. هي مجازفة حقيقية بأرواح أجسام نحيفة و هي تتمسّك بالصهاريج الحديدية ومحمّلة بالدّلاء المربوطة بالحبال ثم يقفزون إلى أسفل الصهريج بدون ارتداء الواقيات ولا الخوذة، ويخرجون منها "أشباح" على هيئة إنسان حيث تغطي جسمه وملابسه بالكامل مادة الإسمنت ولا تسلم منها حتى أعينهم وشعر رؤوسهم، وأخطر من هذا فإنه غالبا ما تُجرح أيديهم وأرجلهم وهي تُنزف بالدّماء، ومع ذلك يواصلون جمع الإسمنت بأيديهم رغم خطورة تلك المادة عندما تتسرّب إلى أعضائهم الحساسة . عندما اقتربنا منهم حاولوا هم أيضا منعنا من التصوير لأن الصحافة برأيهم تفضح واقعهم المرير لكن "الجمهورية " كانت لهم بالمرصاد حيث صوّرت مشهد الشبّاب عندما كانوا يُنقبّون على الإسمنت، حيث دخل أحدهم داخل الصهريج عبر فتحة صغيرة يتسرّب إليها الهواء بصعوبة كبيرة ومكث بداخلها مدة 20 دقيقة حيث نادى بصديقه لكي يمسك عنه دلو الإسمنت ولأنه كان محظوظا فإن بقايا الإسمنت فاقت الدلو الواحد وبالتالي يستطيع جني المزيد من ثمار ذلك الصهريج. وأسوأ ما في الأمر أن بعض المواطنين هناك كشفوا لنا أن بعض موزّعي الإسمنت والمتعاملين مع شركات مختلفة يعمدون إلى ترك بقايا الإسمنت داخل صهاريجهم من أجل إعادة بيعها لشباب ومراهقي المدينة بسعر 100 دنانير للكيس الواحد، رغم أنها مدفوعة الأجر من قبل الشركة التي تستقبل تلك الشاحنة، وبالنسبة للقانون المعمول داخل المصنع فإنه يمنع منعا باتا دخول تلك الشاحنات إلى المصنع في حالة تركها لبقايا الإسمنت عالقة بأسفل الصهاريج. هي هواية ذاع صيتها ببني صاف وجلبت أنظار سكان المنطقة من مختلف الأحياء ورغم خطورتها لا خيار لهم قالوا لنا "نحن واعون بحجم الخطورة لكن ليس لدينا البديل في غيّاب مراكز التكوين و في غياّب فرص التشغيل داخل هذا المصنع الذي يعطي الأولية في التوظيف للغرباء عن ولايتنا وترك لنا الغبار وما تشاهدونه.." وبالنسبة للأرباح فتتراوح بين 800 دج و1000دج لليوم الواحد .