إهتمت جامعة معسكر بموضوع المعتقلات والسجون في الجزائر إبان الثورة التحريرية الكبرى وخصته بملتقى وطني أواخر 2011 من تنظيم فرقة المغارب تاريخ وحضارة، بالإضافة الى عدد خاص من مجلة «الناصرية» التي يصدرها مخبر البحوث الاجتماعية والتاريخية والتي جمعت 27 دراسة وبحثا تفضح كلها الأساليب الوحشية التي كانت تلجأ إليها السلطات الاستعمارية في تعاملها مع المحبوسين الجزائريين في المعتقلات والسجون خلال ثورة التحرير بالاعتماد على الشهادات الحية لمن نجا منهم من أصناف التعذيب التي تعرضوا لها في معتقلات الموت. وولاية معسكر مثلها مثل ولايات الوطن، أنشأت بها الإدارة الفرنسية الاستعمارية (76) مركزا من مراكز التعذيب حسب إحصاءات رسمية لمنظمة المجاهدين وذلك في الفترة الممتدة بين 1954 و1962، علما أن جلادي السلطات الاستعمارية لم يكونوا حتى في حاجة الى إنشاء مركز خاص بالتعذيب، كونهم كانوا يتخذون أي مكان، موقعا لممارسة قمعهم للوطنيين وحتى للمواطنين العاديين كالمزارع والمتاجر والحانات وحتى فيلاتهم الخاصة. * «الناصرية» تفضح «الغرباء» وقد سلط الدكتور سعد طاعة (من جامعة معسكر) الضوء على سياسة التعذيب الممارسة في سجون ومعتقلات منطقة معسكر، في أحد أبحاثه التي ساهم بها العدد الخاص من مجلة الناصرية المذكورة أعلاه، مؤكدا في بداية دراسته هذه أن سياسة التعذيب شكلت أحد أبرز الأساليب والسياسات الإجرامية الفرنسية التي طبقت على نطاق واسع في السجون والأماكن السرية مثل الأقبية والدهاليز المظلمة ضد المجاهدين والمدنيين. * الأرض المحروقة... إجرام لا ينسى ويرجع الدكتور سعد طاعة سياسة التعذيب الى بدايات الاستعمار الفرنسي مستدلا بما كتبه سانت آرنو في رسائله عن احتلال مدينة معسكر عام 1835 من طرف المارشال كلوزيل عندما قال: «سنبقى نهاية جوان نحارب في إقليم وهران نخرب مدن الأمير عبد القادر وجميع ممتلكاته، فأينما حل وارتحل إلا وأصلاه الجيش الفرنسي نارا حامية». واستمرت عمليات الأرض المحروقة والإبادة الجماعية للجزائريين طيلة الحقبة الاستعمارية وخاصة خلال الثورات والانتفاضات الشعبية مثل انتفاضة بن شقران بمعسكر عام 1914 ضد التجنيد الإجباري لأبنائهم للزج بهم في أتون الحرب العالمية الأولى. كما تعرض رموز الحركة الوطنية الجزائرية من أمثال مصالي الحاج الى التعذيب والتنكيل مثلهم مثل أعضاء المنظمة الخاصة الذين نفذوا عملية الهجوم على بريد وهران ومنهم المرحوم بن نعوم بن زرقة والذي نال من أنواع التعذيب في السجون الفرنسية ما لا يتحمله بشر بشهادة من كانوا معه. وقد أثيرت قضية وضعية السجناء والتعذيب الذي يتعرضون له عدة مرات قبل الثورة التحريرية من طرف مناضلي الحركة الوطنية الذين قدموا الشكاوى والتظلمات في هذا الشأن الى سلطات الاحتلال غير أنّ رد هذه الأخيرة لم يكن في مستوى التطلعات. وبعد اندلاع ثورة 1954، طورت فرنسا أساليب القمع والتعذيب ووسعت مجال الاعتقالات ليشمل كل الجزائريين دون استثناء الى درجة امتلاء السجون واضطرارها الى إنشاء معتقلات ومحتشدات لتجميع السكان بهدف عزل الثورة عن الشعب والقضاء عليها. * الاستنطاق... لا يطاق ويشير الباحث في هذا الصدد الى أن الجنود الفرنسيين اتخذوا من الاستنطاق للحصول على المعلومات من المعتقلين «وسيلة لتهدئة الأوضاع في الجزائر وإعادة النظر والأمن بها» وأنشأت السلطات الفرنسية لهذا الغرض أجهزة متخصصة منها الجهاز المعروف اختصارا ب «دوب» التي تعني «الفرقة العملياتية للحماية» التي استحدثت عام 1957 لاستقبال المشتبه فيهم القادمين من مصلحة الحماية الحضرية. ويؤكد الدكتور الباحث بأن عمليات التعذيب تفاقمت بعد شهر ماي 1958 و«أصبح التعذيب جزءا من المؤسسة ومن صلاحيات المتخصصين» بحيث استخدمت الإدارة الاستعمارية أنواعا كثيرة من التعذيب أبرزها التعذيب المعنوي والنفسي بغرض الحط من معنويات المعتقلين لتوقيفهم دون سابق إنذار خلال مداهمات لبيوتهم في ساعات متأخرة من الليل، واستنطاق وتعذيب معتقلين آخرين أمامهم الى حد الموت أحيانا لانتزاع المعلومات منهم، كما كان الجلادون يقومون أحيانا بانتهاك حرمة النساء الجزائريات واغتصابهن أمام أقاربهن لإحباط معنوياتهم وبث الرعب في قلوبهم». * لا نوم.. ولا أكل وينقل الباحث في هذا السياق شهادات بعض المجاهدين من أمثال المحكوم عليه بالإعدام تويزة محمد الذي يؤكد أنه اعتقل في نوفمبر 1960 بمركز الاعتقال بالمحمدية وهناك مورس عليه التعذيب النفسي بواسطة تقطير الماء على رأسه طيلة الليل لحرمانه من (النوم) ، وقد تكررت العملية على مدى 45 يوما بعد نقله إلى مركز التعذيب بالكميل بوهران، أما المجاهد محمد نمير فيوضح أنه حُكم عليه بالإعدام وقضى الفترة الممتدة بين جوان 1959 وجويلية 1962 في السجن وتعرض خلالها لشتى أنواع الاستنطاق والتعذيب النفسي (بتجويعه) لأيام متتالية، وإغرائه للبوح بمعلومات ولا سيما حين تواجده بمركز لامورسيار بأولاد ميمون بتلمسان. أما مختار عدة بركان وهو أحد المحكوم عليهم بالإعدام أيضا فقد تعرض لتعذيب أقسى وأشد وهو في المستشفى بعدما ألقي عليه القبض وهو معطوب ، ثم نقل إلى مركز « دوب» بمعسكر ومنه إلى سجن وهران لإنتظار تنفيذ حكم الاعدام.... كما تعرض المجاهد بومدين عريبي لنفس أساليب التعذيب النفسي بالمراكز الكثيرة التي اعتقل بها، كمركز بوحنيفية ، وطريق الرمان بمعسكر، وبهذا الأخير عذب المجاهد في قبو، من خلال إحضار شهود الزور واسماعه الكلام القبيح من طرف الحركى وحبسه في زنزانة ضيقة منفردا وتقطير الماء على رأسه... ويذكر الباحث أيضا استخدام الادارة الفرنسية لعملية غسل المخ وخاصة مع المثقفين وقد أسندت مهمة تنفيذ هذه العمليات لخبراء في علم النفس تخرجوا من مراكز متخصصة في فنون التغذيب النفسي. وبعد التعذيب النفسي يأتي التعذيب الجسدي، الذي تفنن فيه جلادو الادارة الاستعمارية دون أي احترام لحقوق الانسان فكانت هناك عمليات « الكي بالنار والجري والمشي على الزجاج والمسامير، والتعذيب بواسطة الكلاب والركل والضرب والاغتصاب والاجلاس على القارورات ، والتعذيب بالكهرباء وبحفر الحفر وردمها والتعذيب بالماء وغيرها من الأساليب الهمجية، التي لم تجد نفعا في كسر ارادة وعزيمة المعتقلين الذين حرصوا دائما على منح جيش التحرير وجبهته الفرصة الكافية لإتخاذ احتياطاته، قبل البوح بأية معلومة شخص النشاط الثوري. بحث الدكتور سعد طاعة تطرق أيضا إلى نماذج من مراكز التعذيب بمنطقة معسكر، ومنها المركز المعروف باسم « الدار الحمراء» الذي أنشئ في 1959 شمال شرق مدينة معسكر، ويتربه على 450 م2 ويستوعب حوالي 40 معتقلا، وكان يشرف عليه النقيب مارتين ومساعده جاك شاريه والملازم الأول ڤونزالاس وبعض الحركى، واستخدم للاستنطاق والتصفية الجسدية للمجاهدين الذين كانت ترمى جثثهم في بئر موجودة بجانب المركز ومن المجاهدين الذين تم تعذيبهم فيه محي الدين جودي وبكار بوزيان.. ومن المراكز التي أنشأها الاحتلال الفرنسي في معسكر محافظة الشرطة الواقعة وسط المدينة وأشرف عليها خلال الثورة الجلاد فينو ومساعده قوران، ومن أنواع التعذيب الممارس فيها، التعذيب بالكهرباء والماء والضرب واستئصال أعضاء من الجسم، وتدعمت هذه المراكز بمركز الحراسة المتنقلة عام 1959 وقبله مركز المرور والانتقاء (فضاء ثانوية جمال الدين الأفغاني حاليا) وخارج مدينة معسكر ذكر الباحث مركز الأخوين بسكرا ببلدية تيزي يتربع على حوالي 500 متر مربع ويسع 40 معتقلا، وكان يشرف عليه الرائد جون قاستون وغونسلو الذي كان مترجما برتبة ملازم والرقيبات بارول جيبو وجاك بونات . وأقيم بزهانة مركز آخر للتعذيب باسم المستوطن شارك أليبار يتربع علي 10 هكتارات وتعاقب على الاشراف عليه الضابط أودوت والنقيب ديروش ومورس فيه التعذيب والقتل معا. ويضاف إلى هذه المعتقلات، مراكز كثيرة شيدت في معسكر وضواحيها ، مثل مركز النيقو ببلدية سيدي بوسعيد ومركز فيلينجو ببلدية السهايلية، وكولان بول ببلدية سيڤ وغيرها كثير تجاوز عدده « 76 مركزا » كما ذكرنا سالفا. ولا شك أن كل مركز من هذه المراكز في حاجة إلى بحث مستقل خاص به يستجلى تاريخه والفظائح التي ارتكبها جلادو الإدارة الاستعمارية وراء جدرانه وفي أقبيته ودهاليزه وإحصاء قدر الامكان قوافل المجاهدين والمناضلين الذين اعتقلوا أو اغتيلوا بكل معتقل أو سجن .