منذ عملها الروائي الأول 'العطش' سنة 1956 استطاعت أن تضع اسمها مع كبار كتاب اللغة الفرنسية وفيلم «نوبة نساء جبل شنوة»،والتي كانت فيه قد خاضت تجربتها السينمائية الأولى،فليست سوى الأديبة الكبيرة آسيا جبار،التي ستصبح بعد أكثر من ربع قرن من إنجاز هذا الفيلم،العضو العربي الأول في الأكاديمية الفرنسية،مجمع الخالدين،لكنها عام1978 تحقيق الفيلم،كانت فقط كاتبة كبيرة تمكنت ذات لحظة من أن تصبح سينمائية كبيرة. مهما يكن من أمر،لا بد من أن نبادر هنا لنقول إن الإشكالية التي أتت جبار لتطرحها في «نوبة نساء جبل شنوة»،أتت مختلفة إلى حد كبير عن الإشكالات التي راح يطرحها زملاؤها السينمائيون الذين أشرنا إليهم،وان كانت تصبّ هي الأخرى بدورها في التساؤلات التي كانت تنطرح كالتحدي القوي أمام مثقفي الجزائر: تساؤلات حول الهوية،حول الماضي القريب،حول الحاضر وحول آفاق المستقبل. تساؤلات حول كل شيء ولكن يضاف إليها هنا تساؤل حول المرأة... دور المرأة في الثورة الجزائرية، دور المرأة في الحاضر الجزائري... ودور هذا كله في حياة المرأة نفسها. ولقد كان من الأمور ذات الدلالة أن تختار آسيا جبار،ابنة المدينة والثقافة الفرانكوفونية «البورجوازية» أن تطرح أسئلتها هذه، بشكل محوري،من طريق «ليلى» المثقفة البورجوازية التي تصورها لنا وهي تعود إلى مسقط رأسها بعدما عاشت حرب الجزائر في المنفى. ترى أولسنا هنا أمام أنا/ أخرى لآسيا جبار نفسها،ما يقترح شيئاً من سيرة ذاتية؟أبداً بالتأكيد.وذلك على المستوى الواقعي على الأقل،إن لم يكن على المستوى الرمزي. وذلك لأن لليلى في الفيلم زوجاً مقعداً كان من الثوار في الماضي القريب،وهذه -ويالغرابة الأمر- ستكون نفس حال الزوجة والزوج في رواية «حجر الصبر»التي كتبها،عن حرب أفغانستان،بعد فيلم آسيا جبار بأكثر من عقدين،الكاتب الأفغاني باللغة الفرنسية عاتق رحيمي،وحوّلها لاحقاً إلى فيلم قامت بطولته ممثلة إيرانية منشقة.. فهل في الأمر مجرد صدفة:نفس الموضوع،نفس الوضع ونفس الشخصيتين؟مهما يكن ليس هذا موضوعنا هنا.موضوعنا هو ليلى،شخصية فيلم آسيا جبار المحورية. وليلى تعمل مهندسة معمارية ولا تزال شابة وجميلة في نحو الثلاثين من عمرها.. ولها زوجها المقعد وطفلان... ونحن إذ نراها وقد وصلت إلى الوطن،تبدأ من فورها تعيش أزمتها الخاصة،فالتواصل بينها وبين زوجها متوقف، كما حال مونيكا فيتي في فيلم «الصحراء الحمراء» للإيطالي أنطونيوني.وهي ترغب حقاً في التواصل مع أحد،إذ سئمت ذكورة زوجها وذكورة الثورة وذكورة ذكريات الثورة،التي بعدما لعبت المرأة دوراً كبيراً فيها،وبالأسماء... ها هي المرأة تُركت جانباً ليعود المجتمع ذكورياً... ولكن أي ذكورية هنا والذكر في الفيلم مقعد صامت يجتر ذكرياته في باطنه وغضبه وخيبته في نظراته،فلا يبقى أمام ليلى،هي الأخرى،إلا أن تجتر ذكرياتها،لكنها بدلاً من الصمت الذي تبدو في البداية محكومة به،تفضّل أن تخرج من البيت لتتجول في الريف مجتمعة إلى النساء،عدد لا بأس به من النساء اللواتي تلتقي بهن،لترسم من خلال تلك اللقاءات الحكاية الحقيقية للمرأة الجزائرية...وبالتالي ترسم إمكانية تقوم بها ليلى،ويقوم بها الفيلم بالتالي لإعادة كتابة تاريخ هذه المنطقة الجزائرية... وكذلك وبالتالي،تاريخ المرأة الجزائرية، التاريخ غير المكتوب وغير المعترف به ذكورياً للمرأة الجزائرية. ولمناسبة عرض فيلمها هذا،قالت آسيا جبار يومها أنه «أول فيلم طويل أحققه،وقد أنجز في طبعتين إحداهما عربية والثانية فرنسية.ولقد استغرقني إنجازه عاماً ونصف العام من البحث والعمل،ولا سيما على صعيد الموسيقى»،ومن الواضح أن للموسيقى دوراً كبيراً في هذا الفيلم، بدءاً من عنوانه الذي يشير أصلاً إلى موسيقى النوبة التي تعتبر نمطاً من أنماط الموسيقى الأندلسية تتداخل فيه الألحان الفولكلورية ويكاد أداؤه يقتصر على النساء خلال الأفراح والمناسبات. والجدير ذكره هنا أن آسيا جبار طعَّمت فيلمها أيضاً ببضعة ألحان استقتها من ريبرتوار الموسيقى بيلاّ بارتوك،بعدما كان هذا،من خلال اشتغاله على الموسيقى الفولكلورية في بلاده وغيرها، قد استقى من الموسيقى الشعبية الجزائرية خلال فترة من حياته. والى هذا قالت آسيا إنها أتمت إنجاز فيلمها،بالنسبة إلى اللغة السينمائية،عبر أسلوبين متداخلين: أسلوب روائي وآخر تسجيلي،مضيفة «لقد شئت من الجانب الروائي أن يحكي الفيلم قصة امرأة جزائرية متزوجة تعود إلى مسقط رأسها خائبة المسعى.ومن الجانب الروائي أن ألقي نظرة عبر تلك المرأة، تتيح لي أن أعيد اكتشاف تلك المنطقة من الجزائر ونسائها. وهكذا نرى ليلى في الفيلم تلتقي تباعاً بست نساء يروين لها مقاطع من حياتهن الخاصة، فيما نتمكن نحن،عبر ما يروين،كما عبر ذكريات ليلى وتفاعلها مع رواياتهن، من العودة إلى الماضي». في ذلك الحين بدا من الصعب على الجمهور الجزائري أن يتفاعل مع الفيلم الذي بدا في أسلوبه قريباً من أسلوب الفرنسية مرغريت دورا، والبلجيكية شانتال آكرمان، لكنه بوجوده أكد يومها أن السينما الجزائرية وصلت في نضوجها إلى حد يتيح لها دخول عالمي التجريب وسينما الأدب.مع هذا الفيلم المتأرجح بين الوثائقي والروائي،كان في وسع المتفرج أن يكتشف، عبر كاميرا آسيا جبار الذكية والمتحركة،وعبر لغتها السينمائية المقتربة من لغة الأدب المصور،واقع المرأة الجزائرية،ودورها الصامت و«المجهول» خلال الحرب. ويومها،إذا كان «نوبة نساء جبل شنوة» قد قدّم بوصفه الفيلم الأول الذي حققته آسيا جبار،فإن آسيا كانت معروفة تماماً للقراء الشمال-أفريقيين والغربيين،بوصفها واحدة من أهم أدباء الجزائر من أبناء جيل الثورة وما بعدها.وكان قد نشر لها في الفرنسية في ذلك الحين أربع روايات هي «الظمأ» (1957) و«فاقدو الصبر» (1958) و«أبناء العالم الجديد» (1960) و«القبرات الساذجات» (1963). وهي إلى هذا كانت معروفة بكتابتها الشعر وإخراجها للمسرح،وكمناضلة سياسية واجتماعية إلى جانب المرأة بشكل عام والمرأة الجزائرية بشكل خاص.