على نقيض ما قد يشيع في بعض الكتابات الاجتماعيّة من أنّ المرأة العربيّة،على عهد الجاهليّة،لم يكن لها حوْلٌ ولا طَول في المجتمع الذي كانت تعيش فيه،فلم يكن لها رأيٌ في اختيار بعْلها،مثلاً،فإنّ عامّة النصوص الأدبيّة والتاريخية التي وصلتنا تمضي في غير هذا الاتّجاه... وكانت إذا غُلِبت على أمرها،في بعض الأُسَر التي لم تكن تسمع لرأيها في اختيار الزوج،وتزوّجت في الأباعد جزعت لذلك جزعاً شديداً،وشقِيت شقاء مُمِضّاً،ومن ذلك ما قالت امرأة عربيّة،من بني عامر بن صعصعة،وقد زوّجها أبوها وأخوها في قبيلة طيّئ،وقد ذكرت موطن قبيلتها فحزِنتْ: لا تحمَدنّ،الدّهرَ،أختٌ أخاً لها ولا ترْثِيَنَّ،الدّهرَ،بنتٌ لوالِدِ همُ جعلوها حيث ليست بحُرّة وهمْ طرَحوها في الأقاصِي الأباعدِ! ويبدو أنّ النساء العربيّات كنّ يستوحشن كثيراً حين يُزوَّجْن في الأباعد،فكانت صلتهنّ تنقطع بأهلهنّ، وبالأمكنة التي كنّ يعشن فيها،مع بدائيّة وسائل التنقّل،فقد قالت امرأة أخرى،يمنيّةٌ من العُرْف الأعلى، وقد زوّجَها أبوها رجلاً من اليمامة،فذكرت موطنها،فحنّت إلى أهلها،فقالت: يا حبّذا العُرفُ الأعلى وساكنُهُ وما تضمّن من قُرْبٍ وجيرانِ لولا مخافةُ ربّي أن يعذّبَني لقد دعوتُ على الشيخِ ابنِ حيّانِ فاقْرَ السلامَ على الأعرافِ مجتهداً إذا تأطَّمَ دوني بابُ سِيدانِ (وابن حيان:أبوها. وسِيدان:بعلها.وتأطّمَ البابُ:صرّ،أي صوَّتَ). غير أنّ ذلك لم يكن عامّاً،فيما يبدو،فإنّا ألفينا أخباراً كثيرة أخرى تتحدّث عن أنّ المرأة العربيّة كانت سيّدةً في اختيار زوجها،وذلك بأنْ كان أبوها يستشيرها،يخاطبها مباشرة أو بواسطة أمّها،فكانت تُبدي رأيها في ذلك. وممّا يمكن أن نذكر في هذا العمود القصير عن سيادة المرأة في اتّخاذ قرار زواجها،أن دُرَيد بن الصِّمّة مرَّ بقوم الخنساء،فرآها تهْنَأُ بعيراً لأبيها بالهِنَاء،فأعجبته،فخطبها من أبيها،فما كان منها إلاّ أن رفضتْه رفضاً،وهي تقول:«أَتَروْنني تاركةً بني عمّي كأنّهم عوالي الرماح،ومُرْتَثَّةً شيخَ بني جُشَم»! لقد كان رفْض الخنساء هنا مزدوجاً،فهي رفضتْ دُريداً لأنّه كان شيخاً وهي فتاة فتيّة،ثمّ رفضتْه لأنّه كان سيغرّبها عن قومها،ممّا يعني لو أنّ شيخاً آخرَ خطبها من قومها،وكان كفؤاً لها،كان يمكن أن تتزوّجه. فالعلّة الأولى للرفْض الخشية من الاغتراب عن القبيلة وموطنها.