تفكيك العالم والأشياء... قراءة الشّعر تنطلق من توارد المعنى في الكلمات التي ترتبط ببعضها من خلال الصّورة المتخيّلة وحركة المعنى نحو الحياة،وهذا ما يجعلنا في غبطة ذات مذاق خاص حينما نلتقي شعرية عبد القادر رابحي الماثلة بين "حنين السّنبلة"ووقفه على تلة المعنى ليعلن "أرى شجرا يسير"،ومن السّنبلة إلى الشجرة يرتسم المعنى في أفق وجدان يترصد الصورة والمعنى وتشكلات الحركة نحو الحياة من خلال مسار في الواقع،وهذه هي لذّة الشعر الكامنة في شعوره وليس تعلمه كما يؤكد الشاعر الأرجنتيني لويس خورخي بورخيس، حيث الإهداء في مجموعة "أرى شجرا يسير،إلى الأم والغبن اللذين رحلالم يكن اعتباطا. "أرى شجرا يسير"،ديوان يطبعه هاجس التفكيك للعالم والأشياء،وإضفاء تعريفات مناهضة لما هو كائن،لأن فيه اقتراب من الذات الكامنة في السّطر الشعري المحايث للكون وللاختلاف:"لست مختلفا/حين تفتح في الوافدين حروف الشهية/ذاكرة الأبجدية/ترفض فينا الذي كان من ظاعن نائم/ وبقايا من اللغة الكاذبة"/نص "ها أنا أسمع الآن خطوي"/ص6. هو هاجس التّغيير والبحث عن الدّيمومة،وخلق الأثر من خلال ما تستطيعه الذات في "ذاكرة الأبجدية"،لهذا فهي تنهل من الهدم القائم على تعقل مناطق الكينونة شعريا:"سوف أقتل كل الحروف التي كتبتها جراحاتك/الحائرة"/ص7،الحيرة حينما تلتقي بالحرف فهي معقولة ومتبصّرة،لأنّ الذات تكثف حراكها من أجل إثبات التجربة مع الكتابة وما خلّفته من الحيرة. شوارع القصيدة في حالة من الاغتراب
تدرك الشاعر في شوارع القصيدة حالة من الاغتراب،تختلف اختلافا جذريا عن ما هو قائم وقد يبدو اغترابيا بالنّسبة لذوات أخرى،ويبدو ذلك من خلال حركة الشاعر في لحظته الشّعرية المختلفة:"لكنّني ستفاجئني في الطريق/بأنهارك الوارفات/وأشجارك الماطرة"/ص8، هذا الانزياح في اللغة يشكل نسيجا من القلق الذي يركب الذات من خلال الغرابة التي تسلطت على حركة الأشياء،وهو ما يمنح العمق الشعري للتجربة وللقصيدة أيضا،فالشاعر يكسر رتابة العادي ويمنح الصورة الاغترابية لحظتها الناشزة في عرف اللغة:"لا أستطيع الخروج على جثتي/وانتمائي لهذا الزّمن"/ص9، فالجثة هي موات الجسد،والجسد له علاقة عضوية بالوطن: "أنا لا أستطيع التمترس خلف حدود الوطن.."/ص9،فالجثة رهينة الحدود، والمراد هنا تسريح المعنى في تضادية الغامض،لأنّ الجسد يمرح في رحاب الحرية والانطلاق والإنسانية،والوطن لا يأبه لتجربة الشاعر، لهذا يركبه سؤال الغربة: "أتدرين لماذا؟/يتناساني وطني المعقوف كحبة الزعفران/في جيوب الإحالات"/نص:وطن للمراحل الصعبة" ص32،والإحالة أفق مفتوح على كل ما هو فعل إلهائي للوطن،يرسمه في هوامش الصد والمنع للذات الشاعرة التي تمثل "خزائن الدّفء" بتعبير الشاعر،والحاضرة في أفق اللغة "لتعيد للمسافة رطوبتها المعهودة"/ص32. تعود السيزيفية كما الظل في خرير الشّعرية المتورّمة برضوض المأساة، ولهذا الشاعر يعنون قصيدته ب"عودة سيزيف"،بمعنى الحضور بعد غياب،وكأنّ السيزيفية الماثلة في حركة الحمل الصخري بين رأس الجبل وقاعدته،تتمثلها الذات الشاعرة في حركة الغياب و الحضور،هذا التداول يشكل جوهر مأساة الشعرية في تواشجها مع الواقع والعالم: "أتريّث../حين يمر على كاهلي/جرح سيزيف/أهجع حين يصدّقني/ حزنه/وهو يذرو جراحاته للرياح/ويصبر.."نص:"عودة سيزيف" ص20. يتحول الجرح السيزيفي كونيا حين يتعالق مع الكاهل،لأنّه يصبح مترجما للتعب الإنساني،وترمز الرّيح في المقطع الشّعري للحامل الذي يوزع تعب السيزيفية على البقاع المرقمة بأعداد الصبر المهولة، فحركة الحياة حينها، تصبح جبلية بين قمة تختزن أفق الوصول وقاعدة ترجم ثبات الإنجاز فيتأرجح الإنسان بين وصول غير مكتمل وعودة أبدية للبداية،لكن الشاعر لم يمتثل للألم الوجودي في السيزيفية ليتركه يستبد بلحظة قلقه،لأنه رسم هذا الألم في أفق اللغة: "أتريث/حين يمرّ على أحرفي ظله"/ص21،فشعرنة السيزيفية قلبت مفهوميتها الفلسفية وجعلتها وحدة حضارية:"ها هي الآن تحضنه/تحتفي كالصبي بعودته/تتطلع في طوله/تتسلقه/رجلا/رجلا"/ص31،والمعنى هنا يعود بالتعب على الصخرة،ويكشف عن صورة الجذرية في أوج الثبات، أي الإنسان القائم بذاته في الوجود،ولعل هذا من تجليات الوجودية الهايدغرية التي ترجمها في"الوجود في العالم"،وانقلاب المفهوم السيزيفي شعريا كما ورد لدى عبد القادر رابحي يقلب سيزيفية البير كامو ذات المنزع الوجودي المأساوي إلى سيزيفية انسانية ذات منزع وجودي حضاري،فيكمل الشاعر المقطع السابق:"تستريح على ضلعه/لحظة/حين تتعب/ثم تواصل رحلتها/للكمال"/ص31، فالتعب السيزيفي يمثل وفق الرؤية الحضارية مرح المسار الوجودي. رغبة الوجود في لحظة آملة في أوصال الغربة يشتاق الشاعر إلى طفولة ضائعة يسترد من خلالها رغبة الوجود في لحظة آملة،تسند رؤيته للكون والعالم والذات:"منذ أن كنت شيخا/وأنا أتسلق هذا المبنى/لأصل إلى صباي المسلوب"/نص:"وطن للمراحل الصعبة"/ص34، تعود السيزيفية لتشكل المعبر نحو الطفولة، والطفولة هي المدن المتداعية تحت غبار العمر وضبابية الزّمن، لهذا يكشف الشاعر عن حرائقه:"لكأنّي صرت أحترق/أكلما عذّبتني في الهوى مدن/شربت حزني"/ص33، المدن بصيغة الجمع لا تكشف سوى عن دلالة الترحال الذي يعمّق الإحساس بالغربة،لذلك كان فيض الحزن غالبا،يشرب منه الشاعر حيث يكون قائده إلى ملاجئ الطفولة،والقصيدة بما تختزنه من حزن وترسيم لحدود التيه تمثل طفولة الوعي في تصدّيه لشراهة الامتصاص الذي تمارسه المدن في توطيدها لعرى الغربة. إنّ الشّاعر وهو يرنو إلى تفكيك الأشياء والعالم يحتاج إلى جرعة من المدى يروي بها ظمأه، لهذا يحتمي بالطفولة ويسمّي نص الكلام "شجر من نزيف الكلام"/ص41،والنّزيف يدل على شخب الدّم المفضي إلى حواف الخطر المفتوحة على الموت، لهذا يكون الكلام المستمد من مجالاته مفتوحا على الفجيعة،وأول فجائعه انتصابه في ضفاف اليقين:"زجّ بي صاحبي في متاه اليقين/ولما يزل نابتا في جراحات كفي زغب الطفولة"/نص "شجرة من نزيف الكلام"ص 41. إنّ اليقين نقيض الطفولة،لأنها مرج المشاكسة وشك في نسق الأشياء، فهي بالضرورة فوضى لأنها تعيد تركيب العالم وفق فوضاها،ويقين الشاعر يمحق طفولته الشعرية الناهضة أبدا في بدايات الأشياء،بداياته بالضرورة في العالم،لهذا يعمد إلى ترميم المشهد بفجيعة تنفتح على مسرحة الحدث الوجودي باستعاداته الحاضرة على الدّوام في الوعي الفجائعي: "قلت له/لم أكن ذات يوم دما سابحا/في ثرى كربلاء"/ص41، والدم يكشف عن نزيف الكلام وكربلاء تؤسس لوعي الحضور في الفجيعة، فهي في الراهن تمثل أكبر احتفالية ملتحفة بالدم ومفتوحة على الواقع تعبيرا عن استعادة مشهد المأساة واستمراره في الذات والعالم، ولأنّها تحتفل بالمأساة،فهي تمثل الموت في ضفاف الحياة، لهذا حينما يقارب الشاعر مأساته الوجودية المتدلية في أقبية الموت:"ف(تقبضني) غصّة/ثم ينبت في داخلي/شجر من نزيف الكلام"/ص45، فالموت يجد دلالته الإيحائية في فعل القبض الموضوع بين قوسين للإشارة إلى خصوصية المعنى،لكنّه يزهر الحياة على مشارف المعنى في فعل "ينبت"، فالموت الذي ينبت منه شجر نزيف الكلام،يشكل الذاكرة الشعرية التي تمارس انهياراتها وكمالاتها على ضفاف المعنى في مضامين القصيدة لكي لا يتأسس وطن الغربة داخل كمونات اللغة،لأنّ الشاعر يصرّح: "أبحث في النص عن عشبة للخلود"/ص49،والمعنى لا يخلو من مأساة لأنّه يختزن تناصا خفيفا مع أسطورة قلقامش. تكسير نسق الثبات الموت لا يرومه الشاعر في شعريته إلا ليحيله إلى الحياة،ونص "أرى شجرا يسير"/ص65،والذي وقّعه الشاعر بإهداء إلى الأم الميتة،يكسر نسق الثبات ويفجر معنى الحركة،فالشجر حقل دلالي للسّكون والسير حقل الدلالة الحركي،ومعنى الشجر يسير أي إنه يمثل الكينونة الجوهرية الماثلة في الوجدان، فهي لا تمّحي من مشهدية الحضور،لكن صورة الموت يكشفها الشاعر في افتتاحية النص: "لا صمت/لا ضوضاء/لا أسماء تلهث خلف أسئلة النهار"/ص56، هذا هو الموت، تداخل في المفاهيم وانبثاق صورة غير مألوفة لا تحدد مفهوما للموت، ولكن تقرّب الفهم منه،والأم في خلال هذه المشهدية يمثلها الشاعر ب: "عاشقة/ولم تفرح بمأتمها/صبي في المتاه/ولم يودّع صمت غفوته/طيور/لا تزيّن ظلها بمراسم الموتى"/ص56، فالأم عاشقة وصبي وطيور،وكلها معاني تحيل إلى الحياة من خلال الصورة الذهنية لحركة هذه العلامات في الواقع، وبهذا يتحول الموت إلى تصور ذهني يستمر في الواقع من خلال حركة الموضوعات المستمرة في الوعي،ولكي يؤسس لديمومة صورة الأم ينسج الخطاب الشعري في النص على منوال النداء في موضوعة الأرض:"يا أرض/لي قمر.."/ص62، "يا أرض/لا أحتاج للشعراء"/ص63، فالأرض معادل موضوعي للأم،من حيث الصورة المشتركة المثبتة عند معنى الخصب والحنين، ولهذا فالأم تستمر في الذاكرة وفي اللغة.