كنت قد التقيت به على هامش ملتقى الإتحاف الأدبي وكانت هدية الملتقى هو اللقاء بإضافة فارقة للقلم البسكري :كتب القصيدة كما الرواية ... إنه الشاعر الأديب رفيق جلول . في ديوانه الموسوم ب" يشتهيني عطر المطر... بعد السبع العجاف" من منشورات دار على بن زيد للنشر والتوزيع ،يتوزع الديوان على 64صفحة من الحجم المتوسط ويضم15 قصيدة جاءت لتعيد إلينا الأسطورة وتهيأنا إلى قدر آخر في نظرة تأملية ناضجة بفلسفة وجودية مؤمنة هي مهمة جدا في هذا العصر بسبب ملائمته مع عقلية العصرية التي تشجع على التهرب من المسؤولية الأخلاقية ، فالشاعر ابن الفكرة الخالدة "لا تستطيع إن تضع رجلك في نفس النهر مرتين" كما قال الفيلسوف اليوناني هيرقليطس وهذا يعني أن العالم في ديمومة مستمرة من التغير بدون استقرار وهو يتوافق مع مبادئ علم الترموداينميك- انتقال الحرارة. يقول الشاعر في قصيدته "نشيج الموت": لتبقى صورها /وصوتها المحفور في آذنانا /أين اللقاء /حيث نقطة الفراق عن الأرض إلى السماء /ويخاطب الشاعر الموت وهو يراه نقطة سواد تعبر عن العجز أمام هذا المارد المثمر بالفجيعة ...المتربص بالحياة... المترصد للأنفاس والحركة ...المزعج الذي ثرثرته لا تنتهي. كبقعة سوداء بين أضلعي /كقطعة عذاب تسافر بي / يا أيها الموت أناشدك لن تنتهي/وأساطيرك المزعجة/ لا تنتهي / من تراب الى تراب . والشاعر رغم انه يرى وحشه بصورة مخيفة إلا أنه لا ينفي أن الموت هو نوع من السكينة والرّاحة الأبدية التي أسّسها الوجود لغرض الوجود فلا حياة بدون موت ...فله في كل ذلك حكمته. يا قبلة الشواهد / وسكينة الأرواح/ وعنفوان الأرواح/ فلا يزال الإيمان بالحقائق ثابتا ولا تزال النظرة الوجودية حاضرة تتابع دورات الموت ومراحل الجسد في بوتقة أحكامه الكونية في سكون الحركة ....القلقة في غياب الاضطراب ...الجميلة في غياب الحسن /هذا الجسد تمزقه دودة باطن الأرض تشبعه تعفّنه/ وقلوبنا تتقطع أوصالها إلى الفراق/ كل شيء عند الشاعر مذعنا خاضعا يقف في طوابير /يقدم ولاءه ومصيره للموت كحقيقة وجودية ثابتة /يا رعشة الخوف الأزلي /ونعش الجسد المتعب /وفي رائعته تفاحة الأرض لم تسقط على رأس الراعي البدوي . يذهب جلول إلى دحرجة الفكرة بلغة شاعرية مطرزة بالرمز فكل كلمة تحيلك إلى تأمل وكل عبارة تلقيك كموجة إلى حقيقة التي تهب المجد في لحظة الصفاء لا لحظة الانشغال والغياب الذهني فالشاعر لا يفرق في حقيقة نيوتن والراعي ولا التفاحة التي تؤكل أو تسقط ولكنه يؤكد انه لو أمطرت على المشغلين السماء تفاح ماكانوا بمدركين لقانون الجاذبية ولكن غير البدوي اكتفى بتفاحة ليكتشف نظرية فيزيائه .يقول الشاعر :فسدت التفاحة على وجه الأرض /الراعي نام ينتظر اكتشافا /التفاحة لم تختر رأس امرؤ القيس /أو عنترة ابن شداد /هذه التفاحة اختارت رجلا لا تاريخ له انه الشاعر رجل التأمل والاستباق والتوقع يلق بحقيقة الحظ وحقيقة الاختيار لقدر هذه التفاحة اختارت رجلا لا تاريخ له كما قد تختار الثروة شابا لا عمل له ،كما قد يختار المجد رجلا لا مستقبل له :من قال إن حيزية تلك الشابة الغارقة في البداوة والحياة والمجتمع المحافظ ستكون بعد موتها أشهر نساء الأرض من قال إنها في قصتها ستتجاوز ليلى وفيرجينيا أفاقا في الانتشار والشهرة...وكذلك اختيارات الحياة لحكمة يعلمها صاحب الأمر والحكمة ، الله الذي يرفع درجات من يشاء . وان كان جلول قد بعث من خلال ديوانه رسائله الفلسفية وكشف دون مواربة عن عين الحقيقة التي يؤمن بها كانسان خارج حركة التبشير وحوار الأديان والدعوة والإصلاح .فهو في شعره لا تراه يصنع ظلا لبيئته ولا لمعتقداتها انه يلون قوانين الحياة وحاول أن يستعرضها مجردة كما هي من كل جاذبية وإغراء معتمدا أسلوبا مباشرا يعكس صفاء الفكرة وتنويريها ...فهو لا يمارس على القارئ ضغوطا لغوية وألا يحاول التأثير فيه وجدانيا من خلال استحداث شاعرية اللفظ والمعنى ولكنه يتيح للفكرة شرعيتها داخل القصيد وداخل النص الشعري .ولو كنت منصفا قلت إن رفيق جلول سيحظى بالآفاق الرحب خارج الصدر العربي إلى حضن العالمية التي لا تسال من أنت ...بل ماذا أبدعت .إن حقيقة تفرد رفيق جلول بأسلوب هو جديد على القلم العلم وعلى جبة اللغة العربية هو تميز له لأنه أتاح لقلمه مسافة وفتح أفقا مريحا لاعتلاء مكانه بين أقلاما كانت لا يشار لها إلا بالبنان . إن جلول الشاعر و في رحلته الشاعرية لا يضيف جديدا من حيث الشكل للقصيدة الحرة ولكنه يقوي أركانها التزاما بها في حركة التكثيف والتقليص والاقتصار والاختصار ومزاوجة اللغة والإرباك والمفاجئة ،كما انه لا يكتب اللغة المغرية بقدر ما يفضل اللغة الراقية بالبساطة والوضوح والحقيقة. فالصورة الشعرية عند جلول لا تتجزأ ...الصورة الشعرية عند هو النص والنص فقط.وهو تجديد للقصيدة وارتقاء بها عن التقليد والعرف العربي .فلا استبعد أن يكون له حظ الشاعر الفرنسي (برتران) ومجموعة قصائده النثرية اليتيمة *غاسبار الليل* ومكانة *بودلير*في خلق نص شعري مغاير ومختلف معزز بالإيقاع أو الموسيقى الشعرية التي تملى على الشاعر من أعماقه في لحظة كتابته، وهي إيقاعات مستمدة بالأساس من المزاج النفسي والذاتي ومن المزاج العام الموضوعي المحيط ، أي من طبيعة حركة وإيقاع الحياة المحيطة بالشاعر،ويرى الناقد باسم الأنصار. إن الكثير من شعراء أوروبا وأمريكا والعالم يكتبون القصيدة الحرة بالدرجة الأساس على اعتبار أنها الشكل أو القالب الأخير في كتابة القصيدة الشعرية الذي يناسب إيقاع العصر وموسيقاه ويناسب مزاج الشاعر النفسي في الوقت ذاته. بينما تأتي كتابتهم لقصيدة النثر لأنها تستوعب شحناتهم الشعرية الانفعالية المتشكلة على هيئة النثر في أعماقهم وليس على هيئة الشعر المعروفة. فكما هو معروف أن النثر سلسلة متواصلة من الجمل، وهذه السلسلة تكون مترابطة عبر أدوات النثر المألوفة، بينما جمل الشعر المسطرة غير مترابطة أو متواصلة بطريقة النثر، على الرغم من ترابطها وتواصلها الظاهر والباطن. وسبب اختلاف شكل الشعر عن شكل النثر برأينا هو بسبب أن الأول شعر، وأن الثاني نثر. أي أن سبب اختلاف الشعر عن النثر، ليس بسبب تحكم الأوزان التقليدية به، وإنما لأنه شعر قبل كل شيء، والشعر، لا يختزل بالأوزان والإيقاعات، وإنما هو أكبر وأوسع من هذا الجانب. ومن هذا المنطلق نقول إن الشعر يكمن في كل شيء في الوجود، بما فيه النثر. الشيء الذي نود قوله إن قصيدة النثر بالأساس لم تظهر لكي تزيح شكلاً شعرياً سابقاً لها، وإنما ظهرت لكي تصبح إضافة فنية راقية للأشكال الشعرية السائدة، كالإضافة الشعرية الجميلة التي ستنتشر في المستقبل أكثر من قبل والمتمثلة (بالنص المفتوح) أو *النص متعدد الأجناس* لقد وقف جلول بالقصيدة في ديوانه موقفا غربيا من حيث اعتبارها فكرة تأملية أو هي لحظة قبض على الوجدان وأبدع في بسط الفكرة وأسطوريتها وأبعادها ومداها حيث مكن للقارئ مساحة سمحت له بأن يكون حاضرا مع كل جملة دون تكلف ولا تصنع للبحث عن معاني تغرق في الضبابية والتأويل . إن تأمل ديوان شعري آو قصيدة شعرية لا نزعم ولا نستطيع أن نقول عنه دراسة أكاديمية مستفيضة جامعة شاملة فتلك لها في البحث الأدبي مسارات ونظم وأدوات وإنما نعني التأمل قراءة ارتدادات الفعل النصي على مستوى الفهم والذوق للقارئ .وليس لكل القراء .فالقارئ يعتبر جزءا من النص باعتباره مهندسا لبنيته وتأويله.