ربما ما يميز ولاية تيارت الشاسعة المساحة هي تلك التركيبة الاجتماعية في هذه المنطقة الضاربة في التاريخ الحديث فالأرقام تشير أن ولاية تيارت بها أكثر من 500 عرش أو ما يعرف بالقبائل أو حتى ما يطلق حاليا (بالعروشية) فالتاريخ حافل بالأحداث ابتداء من الدولة الرستمية وصولا إلى الحكم العثماني فالحقبة الاستعمارية ثم استقلال الجزائر تمخض عنه تركيبة اجتماعية معقدة جدا كانت لها آثار على الحياة اليومية للمواطنين وبما أن ولاية فلاحية بامتياز تمتد على مساحة تقدر ب 1 مليون هكتار وتجاوز عدد الفلاحين المعلن عنهم رسميا إلى حوالي 4 آلاف فلاح ينشطون في إنتاج القمح والخضر ناهيك عن فلاحين آخرين يعرفون بالفلاحين الصغار دون أن ننسى أن أغلب الأعراش يقطنون بالبلديات والدواوير والقرى التي لا تحصى ولا تعد، نتيجة أفضلية الفلاحين وأبناء المنطقة الاستقرار بها لقرون عديدة ولا يمكن وبأي حال من الأحوال التنقل إلى مكان آخر وقد حاولنا من خلال هذا التحقيق الميداني أن نتقرب أكثر لنتعرف على مدى أهمية الأرض لدى الأعراش وما تمخض عنه من عدة مشاكل طيلة سنوات عديدة لن تعرف لها نهاية ووجهتنا كانت في البداية إلى قرية القرشة البوازيد التابعة لبلدية تاخمارت البعيدة عن عاصمة الولاية تيارت بحوالي 80 كلم، اتصلنا بأحد الفلاحين المعروف ب "ر.عبد القادر" الذي له دراية كبيرة بملف الأراضي التابعة للأعراش حتى أنه في خلاف مع فلاح من نفس القرية ولكن من عرش "صاريج" وحتى أن فلاحا آخر من نفس القرية ولكن من عرش آخر المعروف ب "إسماعيل" هو الآخر دخل معهما في صراع والسبب واضح الحصول على أرض مساحتها واسعة يمكن استغلالها في أي منتوج فلاحي وما فهمناه أن السيد "ر.عبد القادر" صاحب سبعين هكتارا من مساحة هامة لم يطلعنا عليها هي تابعة لعرش البوازيد منذ الحقبة العثمانية أي أن الأسلاف والأجداد استغلوها، غير أنه وبعد الاستقلال تغيرت الأمور فأصبحت هذه الأرض ملكا للعرش بأكمله، أي بمعنى يمكن لأي شخص تابع للعرش أن يستغلها ويسترزق منها وهذه المعادلة يرتكز عليها أكثر شيوخ القبائل لاستغلال الأراضي للفقراء، وظهر الصراع بين أبناء العمومة للحصول على الأرض وبأكبر مساحة غير أن ما فهمناه أن كل واحد منهم لا يستحوذ على عقود ملكية، ربما قد تعود إلى حقبة زمنية معينة وبالتحديد الحكم العثماني واضطر الثلاثة إلى اللجوء للمحاكم فقط بشهود الإثبات واصطدم الثلاثة بأنه مجبرون على استخراج خبرة عقارية قدرت بحوالي 60 مليون سنتيم ولم يجد المتخاصمون الثلاث إلا وسائل أخرى حسب اعتقادهم من الدفاع على أرضه وعدم إعطاء الفرصة للآخر للاستحواذ عليها، وإن تطلب ذلك استخدام العنف أو بنادق الصيد دفاعا عن النفس وحرمة الأرض ففي كل يوم تظهر الخلافات ويتدخل فيها عدة أطراف لتنتهي الأمور إلى إيداع شكوى وبالتالي المحاكم دون التفكير في ما قد ينجر عنه من أحكام قضائية فهذا هو عالم الفلاحين والأعراش بتيارت لا يمكن التحكم فيه وبقدر كبير فالأرض بالنسبة لهم هي كنز لا يمكن التفريط فيه وإن تجاوز تعدي القانون لما ينص عليه من الحصول على وثائق رسمية تثبت الملكية للفلاح. **مشاكل كبيرة بتاخمارت لم يتحكم فيها إلى حد الآن وبالمقابل أيضا تعد تاخمارت من البلديات التي تعرف بمشاكل تتعلق بأراضي الأعراش والتي لم يتحكم فيها إلى حد الآن بدليل أنها منطقة فلاحية وبامتياز من إنتاج البطاطا والمصدرة حتى إلى الولايات المجاورة وأغلب أراضيها ملك للأعراش لكن يتحكم فيها أشخاص ليدخلوا في صراعات ما بين أبناء العمومة وإن كان أحدهم بحوزته عقود ملكية تعود إلى الحكم العثماني كما ذكرنا وبإمضاء من القاضي وبقيت هكذا دون أن تسوى وضعيتها إلى اليوم بما أنها أرض تابعة للعرش لكن كل واحد من أبناء العمومة أو الأخوال يريد أن يستحوذعلى قطعة أرضية تكون النتائج وخيمة والصراع لا نهاية له وخارج عن القانون. وخلال جولتنا في هذه المنطقة لاحظنا أن الفلاحين يتمسكون بمواقفهم ولن يتراجعوا عنها حتى وإن تطلب وقوع أي مكروه ما بين أبناء العمومة فالأرض استثمارها يدر الأموال الطائلة ولا يمكن لأي واحد منهم أن يتراجع عن موقفه أو فكرته مهما كان الثمن في ذلك، وغادرنا المكان لعل وعسى أن يرى هذا المشكل نهاية ونحن لا نظن ذلك. وجهتنا الثانية كانت إلى بلدية مغيلة فهذه المنطقة تعد أول منطقة بتيارت والمعروفة بعرش الكرايش فحوالي 90% من الصراعات ما بين الفلاحين بهذه البلدية لما تحوز عليه من أراضي خصبة يدور حول الحصول عليها، فهذا العرش الذي يتحكم في الأراضي الفلاحية لا يمكن الاستهانة به لأن أغلب حوادث تبادل إطلاق النار بالبندقيات يكون بين أبناء العمومة أو التابعين للعرش دون أن ننسى حوادث أخرى تسجل طيلة السنة تستخدم فيها الأسلحة البيضاء والسبب كما ذكره بعض الفلاحين يعود إلى العداء الشديد بين أبناء العمومة داخل العرش ففي حال محاولة أحدهم الاقتراب من أرض أخرى ولو حتى إن شاهد حيوانا بداخلها فانتظر في ذلك اليوم حربا لا يمكن توقيفها إلا بتدخل مصالح الدرك الوطني أو الأعيان وربما يكون هذا أتفه سبب لكن بالنسبة لصاحب الأرض هذا خط أحمر لا يمكن تجاوزه وبأي حال من الأحوال فالقضية هنا تتعلق بأرض لا يمكن لأحد آخر أن يستغلها كما تسجل بلدية مغيلة عدة حوادث مماثلة تتعلق بكيفية أحقية الأرض على الآخر وتكون البداية بمطالبة الآخرين بحق الفلاح أو التابع للعرش في الحصول على الأرض كي يتمكن من حرثها وزرعها لكن الأطراف الأخرى تتدخل ويتطور النزاع بعدها إلى شجار عنيف وحقد يدوم لسنوات وينتشر حتى بين الأبناء والأزواج ثم تنتهي الأمور إلى المحاكم وهذا ما يفضله أيضا المحامون لما للقضية من تعقيدات قد تدوم لسنوات وما يكسبه من أموال وراء الدفاع عن حقوق كل واحد منهم ودون نتيجة واضحة، لكن الصراع يبقى كما هو داخل العرش مما يفتت تلك البنية الاجتماعية المكونة له فالمصلحة الشخصية طغت على ما تعارف عليه وتعاقد عليه الأجداد داخل العرش من أجل وضع تلك الأراضي للفقراء والاسترزاق منها. ومن جهة أخرى لا ننسى أن هناك أراضي فلاحية بقيت كوقف وهذا حال بلدية سيدي الحسني وبالتحديد بدوار القباب فمساحة فلاحية تقدر ب 3 آلاف هكتار ما زالت باقية حتى الآن ملك للزاوية البوعبدلية منذ الحقبة العثمانية حيث أن أهل العلم والقرآن من العلماء وبعد أن استقروا بالمنطقة منذ أربعة قرون وضعوا هذه الأراضي الفلاحية تحت تصرف الزاوية وطلبة العلم للاسترزاق منها وبقيت على حالها ولو قسمت مساحات وبهكتارات فقط لاستغلالها دون الحصول على حق الامتياز لأبناء المنطقة بسبب أنها ملك للوقف التابع للزاوية وربما يعاني الكثير من هذا الإشكال الضارب في التاريخ ونشير أن هناك بلديات أخرى والتي بها زوايا تملك أراض ما زالت تستغل إلى حد الآن لصالحها. **3 قضايا بالمحكمة شهريا تتعلق بالتهديد والسب والشتم بين الفلاحين مجلس قضاء تيارت وبما فيه تيسمسليت يعالج إما بمحكمة الجنايات أو الجنح قضايا تتعلق بالضرب والاعتداء بين أبناء العرش الواحد قصص تروى من داخل دواليب المحاكم فمنذ أعوام عالجت محكمة تيارت قضية جريمة قتل وقعت بين عرشين استخدمت فيها بنادق الصيد وتبادل إطلاق النار ذلك أن أحد أبناء العرش تطاول على العرش الثاني الواقع بإحدى البلديات المعروفة ب "الحمادية"، فوقعت جريمة شنعاء بعد إصابة أحد الأشخاص بعيار ناري وتمت المحاكمة وأصدرت محكمة الجنايات أحكاما قاسية ونشير إلى أن كل دورة جنايات لا تخلو من مثل هذه القضايا والتي تفصل فيها في الاعتداء بين الأطراف المتنازعة وحتى الورثة الذين يدخلون في نزاع لا نهاية له ولا يمكن التحكم فيه وإن تعدت الأسباب من أحقية الأرض ودون الحصول على وثائق إثبات الأمر الذي أكده له أحد الأعيان وشيوخ القبائل الذين يحاولون طمأنة الجميع وفك النزاع بينهم لكن الورثة وإن تعددت فيهم الأسماء وكثرت يحاولون دائما أن يستفزوا الآخر وباستعمال الشهود أو وثائق قد مر عليها الزمن تعود إلى الحكم العثماني التابعة للعرش والأجداد وبأختام موثوقة من قاضي المنطقة لكن أغلبيتهم يتوجهون للمحاكم فقط بدلائل وقرائن ضعيفة كالشهود الشيء الذي لا يقنع هيئة المحكمة فتتطور الأمور إلى التهديد والوعيد وتتجاوز حد الضرب والطرد من الأرض الفلاحية والاستحواذ عليها وبأي طريقة من الطرق وإن تطلب ذلك استخدام بنادق الصيد التي يمتلكونها أو حتى الأسلحة البيضاء وبكل أنواعها كما أن محكمة الجنح بتيارت تعالج خلال الشهر الواحد 3 قضايا تتعلق بالتهديد والسب والشتم بين الفلاحين التابعين كما ذكرنا لنفس العرش فتارة يحاول أحدهم أن يطرد الآخر من الأرض وتارة أخرى يتطور النزاع إلى التهديد والوعيد كما ذكرنا سالفا وما يكون له من نتائج وخيمة على الطرفين من إيداع شكاوى تتعدد وتنتهي بالمحكمة ولن يتوقف النزاع عند هذا الحد فعالم الفلاحة والفلاحين لا يمكن التغلغل إليه فالقضية تتعلق بالشرف حسب اعتقادهم والحفاظ على الأرض حتى أن الشباب البطال الذين تحصلوا على قطع أرضية لاستصلاحها وهي بور وجدوا صعوبة كبيرة في استغلالها لسبب وجيه أنها تقع في أرض الأعراش أو القبيلة الواحدة فتلقوا تهديدات ولم يتمكنوا من الحصول على أرضهم المحدودة المساحة لاستصلاحها وبالتالي زرعها وبعث الحياة من جديد فيها وانسحبوا منها ذلك أن أغلب الأراضي الموجهة للاستصلاح تقع إما داخل عرش أو محاذية له ولا يمكن الاقتراب منها، فهذه حلقة مغلقة. كما أن مديرية الفلاحة وربما لم تأخذ ذلك في الحسبان حتى أن شبابا من أبناء العرش تدخلوا لصالحهم للحصول على أراضي تابعة للعرش الواحد على حساب الشباب الآخرين المتحصلين على شهادات في اختصاص الفلاحة من مراكز التكوين المهني. **70% من عقود الملكية تعود إلى الحقبة العثمانية تشير الأرقام الرسمية المستقاة أن 70% من عقود الملكية للأراضي التابعة للأعراش والقبائل تعود إلى الحقبة العثمانية أي منذ تواجد العثمانيين وبسط سلطتهم على الجهة الغربية من الوطن وبما فيها تيارت ففي تلك الفترة كانت القبائل المستقرة هنا عبر أرجاء الولاية هي التي تتحكم في الأراضي الفلاحية وتوجه بالدرجة الأولى للفقراء والمساكين والمحتاجين للاسترزاق منها ويكون التوقيع من قبل قاضي المقاطعة لكن ومع الاحتلال الفرنسي حددت الإدارة المستعمرة الأراضي و سخرتها دائما للأعراش والقبلية لكنها كانت محدودة جدا ليتحكم فيها بما كان يعرف في تلك الفترة والحقبة الاستعمارية "بالقايد" الذي يتحكم وبفرض سلطة الاستعمار على الأراضي الفلاحية شريطة أن يبقى ذلك العرش دائما يخدم وعميلا للفرنسيين وبعد الاستقلال وتحديدا خلال فترة السبعينيات أعطت الثروة الزراعية بما يعرف بالتعاونيات الفلاحية أي مجموعة منهم الأشخاص يستغلون الأراضي وفعلا هذا ما وقع لكن لم ترق إلى المستوى المطلوب وحاليا وإن أعطت الدولة وفتحت المجال بما يعرف بحق الامتياز أي الحصول على عقود الملكية إلا أن المشكلة ما زال منحصرا بين الأشخاص الذين كانوا داخل التعاونية الفلاحية فكل واحد منهم يستغل أرض الآخر مما خلق عدة مشاكل ولم يتمكن هؤلاء من حلها ذلك أن أغلبيتهم لا يحوزون على عقود الملكية الخاصة بهم وإنما عقود تتعلق بتعاونية فلاحية وهي أصلا تابعة للعرش ويلجأ الخصوم إلى البحث عن عقود ملكية تكون أغلبيتها موقعة من العهد العثماني أو ما يروجون له أنها تابعة للأجداد غير أن القانون الجزائري فيما يخص العقار الفلاحي لا يعترف بعقود الملكية إلا بعد استقلال الجزائر ولذا يلجأ قاضي المحكمة إلى طلب خبرة عقارية فلاحية تكون باهظة لتحديد مساحة كل واحد منهم وهذا ربما قد يرفضه أهل الخصوم فيما بينهم فترى أن القضية تدوم لأكثر من سنوات وهي تدور بالمحاكم فالقوانين هناك غير واضحة فيما يخص الأراضي التابعة لأعراش بولاية تيارت، فهي تشكل 95% من الأراضي الفلاحية حاليا. ونشير أن المحكمة الإدارية تعالج 90% من القضايا المتعلقة بالعقار الفلاحي من الميراث وكذا الخصوم بين المستغلين لها وبما في ذلك من كيفية استغلالها الذي يتطلب عقد ملكية رسمي فقد أفادت مصادرنا أن كل الملفات وبنسبة 90 المودعة لدى المحكمة الإدارية بتيارت هي للعقار الفلاحي وتطول فيها مدة الفصل الحكم لغياب الأدلة الواضحة وهنا تدخل الخبرة العقارية المطلوبة للفصل نهائيا فغياب عقود ملكية حقيقية وراء تلك المدة التي تأخذها القضية في المحكمة الإدارية دون الوصول إلى نتائج قد تقنع الأطراف المتخاصمة في ذلك. وحسب أحد المحامين إن قضايا العقار الفلاحي وبما فيها النزاع في الأعراش والقبائل هي بمثابة قنبلة موقوتة لا يمكن التحكم فيها فالملفات المودعة غالبا ما تكون ناقصة ومرفقة بوثائق قديمة فالحلقة المفقودة كانت خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي بعد تشكيل ما يعرف بالتعاونيات الفلاحية والتي تدخلت بطريقة مباشرة في أراضي الأعراش دون تحديد المساحات الارضية لكل واحد منهم فوقع تداخل فيما بينها وخلق نزاع دائم ولن ينتهي وإن سمحت القوانين الآن بأن يحوز كل فلاح على عقد امتياز فالمشكل الواقع حاليا أن الأراضي الفلاحية تابعة لأعراش ولا يمكن المساس بها.