كان صباحا جميلا ذاك الذي جلست فيه في الزاوية اليسرى من قاعة التحرير، متكئا على الطاولة الكبيرة القديمة، وبدأت أصوغ المادة الأدبية التي ستنزل في أول صفحة ثقافية بالعربية، في جريدة الجمهورية كان هذا بالنسبة لي حدثا كبيرا ، عرسا عاما وخاصا ، طوال الليل وأنا أعمل على ديوان سفر الفقر والثورة الذي طبع في 1969 في دار الآداب ، للشاعر العراقي الكبير" عبد الوهاب البياتي " وأعيدت طباعته في الجزائر، قرأته في الحي الجامعي " حي اللوز" ، حيث كنت أقيم، وأعدت قراءته طويلا بلا كلل أو ملل، وكنت قد قمت بعمل بحثي في مكتبة جامعة السانية، ساعدني يومها المشرف عليها، بالبحث عن تفاصيل وحياة البياتي ودوره في الحركة الشعرية الجديدة؟ وقناعاته الثقافية والسياسية التي بدأت بعثية ثم يسارية قبل أن تنتهي صوفية ووجودية ، كان يهمني الديوان طبعا والمادة الأدبية التي فيه، لكن كان علي إقناع رئيس التحرير بجدوى اختيار هذا الاسم الذي كان يزور الجزائر، ليكون في أول صفحة ثقافية بالعربية، في جريدة الجمهورية ، كنت أريد أن أكتب مادة جميلة ومقنعة ، لم أكن وقتها قرأت إلا عملين شعريين له هما: المجد للأطفال والزيتون، ورسالة إلى ناظم حكمت، الشاعر التركي الذي كنت قد اكتشفت تجربته الشعرية ومحنته في المنفى، في الجامعة، إذ قرأت أعماله الشعرية الكاملة في ترجمتها الفرنسية ، كنت سعيدا أن أقدم مادة مميزة للجمهورية في أول صفحة ثقافية بالعربية، كانت المادة الصحفية جيدة استعرضت فيها تفاصيل الديوان وحياة الكاتب وزيارته للجزائر عندما مر رئيس التحرير، قرأ المادة فرح بها ولكنه وجدها دسمة كثيرا؟ وبدأ يمحو بالقلم الأحمر على كل الزوائد ، أو ما رآه كذلك ، انزعجت قليلا ولكني قلت في أعماقي إذا كان الصحفي الكبير قد تعرض للبتر فماذا أساوي أنا الشاب الذي لم ينه سنواته العشرين؟ لست أدري إذا كان محقا وقتها، لكن مع الزمن اكتشفت أنه لم يكن مخطئا. فقد كان عليّ أن أتعلم لغة الصحافة التي لم تكن أبدا لغة الأدب. سمحت لي المقالات التي ترجمتها بأن أحسن من أدائي اللغوي الصحفي. كانت الجمهورية مدرستي الأولى ليس فقط في الكتابة الصحفية، ولكن في الكتابة بكل بساطة. فقد تعرفت على مختلف التشكيلات الكتابية والتفريق بينها. أنجزت المقالة الثقافية الأولى بعد أن أعدت تشذيبها. وقبل ان أغادر الجريدة جاءني رئيس التحرير. سلمني مقالة ثقافية صغيرة لترجمتها. ثم احنى رأسه علي وأنا جالس أعمل. رفع نظارتيه الثقيلتين. خفت من عينيه المحمرتين. قال. قرأت مقالتك من جديد بعد أن خففتها من الإطناب الأدبي، وهي الآن أحسن. ثم سألني عن البياتي، قلت شاعر عراقي من موجة الشعر الحر وووو، شعرت كأنه كان يريد أن يقول لي عن شيء لكنه لم يفعل ،إلا أنه عند الباب سألني: هل تعرف محمد العيد آل خليفة؟ أجبت: نعم. هو شاعر جزائري كبير من رواد... لكنه كان قد غادر المكان. لا أدري لماذا فهمت كأنه كان يؤنبني؟ بمعنى في المرة القادمة أكتب عن الجزائر؟ انتابني إحساس غريب بأن مآل المقالة التي سهرت عليها كثيرا، سيكون الدرج ذلك الفضاء الضيق والمظلم كما كان يسميه الصحفي الكبير الذي مر علي في اللحظة نفسها، وفتح أمامي صفحة الجريدة ، كيف تكون مواطنا صالحا في بلاد العجائب ؟ حكاية جميلة تتحدث عن روسيا الستالينية ، فهمت غمزته ، كنت اشعر انه يحبني حقيقة ، بدأت أشعر أن الكتابة شيء مهم وحاسم. لا أدري لماذا رائحة الورق والحبر تأسرني إلى اليوم بقوة. منبع ذلك الصحافة وليس شيئا أخر، أنهيت ترجمة المقالة بشكل شبه آلي وخرجت صوب المكتبة التي لم تكن بعيدة ، يومها كانت كل المجلات العربية المهمة تدخل إلى الجزائر، النادي الأدبي ،المعرفة، أفاق عربية، الأقلام ، إبداعات ،الكاتب، قصص، الحياة الثقافية التونسية والليبية أيضا وغيرها. دخلت إلى المكتبة. استلمت العدد الجديد من مجلة الأقلام العراقية، كان قد وصل والموقف الأدبي السورية أيضا، فخرجت مزهوا وحاولت أن أنسى ولا أفكر في مصير مقالتي الثقافية الأولى بالعربية في جريدة الجمهورية. لكني عندما فتحت الأقلام واجهتني قصيدة جديدة للبياتي، فغرقت في قراءتها إلى أن نسيت ما سيكون عليه الغد في الجمهورية.