يبدو الناس طيبين في الجمهورية ويتعاونون من رئيس التحرير، ونائبه، أو فيما بينه، وعندما ينهمكون في الكتابة أو البحث، لا يلتفتون لبعضهم البعض إلا بعد الانتهاء من جهودهم وأبحاثهم ومقالاتهم. أنا أيضا تعودت على هذا النظام المنضبط الذي كان يدفع بي للهرب من الكثير من المحاضرات الثقيلة في جامعة وهران في السانيا ، أتذكر أني لم أحضر إلا دروسا قليلة مع أستاذ اللسانيات وفقه اللغة الدكتور ورّاد، الذي كان مولعا بالإملاء على مدار ساعتين ، انتقم مني يوم الامتحان ، كاد يمنعني من الدخول..سألني عند باب المدرج : أنت بالذات جاي تعمل إيه؟ قلت له جاي أمتحن. تمتحن إزاي قال متسائلا؟ حضَّرت كل شيء، أجبته ، دخلت، لكنه وضع توقيعه بالقلم الأحمر على ورقتي ، عندما رأيت النتيجة، كانت 7.27، لا أدري كيف أتحصل على هذه الكسور في التنقيط؟ في الاستدراك سلمته ورقتي متناسيا عن كتابة اسمي،عندما صحح الوثائق في الأسبوع الموالي، بدأ يقرأ الأسماء، ثم وصل إلى ورقتي ، قال فيه واحد ممتاز بس نسى ذكر اسمه تحصل على أعلى نقطة 16، سأل: لمن الورقة ديه؟ قلت له : لي يا أستاذ ،نظر طويلا إليّ ثم أعطاني ورقتي ، سألني: نسيت وإلا تعمدتها؟ نسيت طبعا يا أستاذ، كنت أترجم كل ما يأمرني به رئيس التحرير، نبهني منذ البداية أن لا أترجم شيئا لم يصدر منه.. ولهذا كل ما كان يعطى لي لترجمته خارج ما يُقترح عليّ، كنت أترجمه في الحي الجامعي "حي اللوز" ولا أضع عليه اسمي ، كنت أشعر بوخز أن لا أضع اسمي على جهدي، لكني أعتبر ذلك جزءا من اللياقة العامة أمام صحفيين كبار، أقل واحد فيهم كانت خبرته الصحفية تتجاوز عمري كله وقتها ، شعرت بحزن كبير عندما فتحت جريدة الجمهورية ولم أجد مقالة الصحفي الكبير، انتظرت أن تقوم معركة كبيرة بين الصحفي الكبير وبين رئيس التحرير أو حتى المدير، لكن الوضع كان عاديا كل واحد منهمك في عمله وإعداد مادته، بعضهم كانت أمامه قواميس كثيرة يستعين بها ، سألت أحد الصحفيين عن هذه المصادرة، فأجاب :عادي ، أنت لا تعرف هذه الأشياء، من يوم ما عربت الجمهورية أصبحت مثل هذه الممارسات دارجة ، والكثير منا يفكر في التقاعد المبكر، كانت الجريدة بالفرنسية مساحة للحوار والندية، أما الآن هناك نقص في الحرفية وتغليب للإيديولوجية والسياسة والنزعة الرسمية ، لكنها ليست جريدة معارضة ؟ سألتُه ، كنت أعرف جرائد المعارضة السّرية صوت الشعب التي كان يصدرها حزب الطليعة، المكتوبة على الستانسيل ، كانت تصلني سريا في الجامعة عن طريق صديقي " عمار كعباشي" ، اليوم إطار في الدولة ، قال : لا ليست جريدة معارضة لكنها كانت منبرا حرا تتصارع فيه الأفكار وليس الأيديولوجيات، المشكلة طبعا ليست في اللغة العربية ولكن في الذين جعلوا منها أداة سياسية وأيديولوجية لكسر أي اختلاف، وسيدمرونها إذا استمروا بهذا العقل، الرقابة لا ترفض المقالات، لكنها تؤجلها ، التأجيل معناه المنع، لم يكن مخطئا ما كنت أقرأه سابقا من تحاليل دولية بالفرنسية ووطنية، عوضته السهولة ، ما كان صفحة وطنية نقدية، أصبح صفحة تو فا بيان " Tout va bien"، كما قال الصحفي الكبير الذي عندما مر، على قسم التحرير، وقف عند رأسي و كأنه قرأ حيرتي ، حكّ على رأسي و غمزني ،ووضع مقالة جديدة بين يدي عليها توقيع رئيس التحرير، عنوانها: كيف تكون مواطنا صالحا في بلاد العجائب ،تتحدث عن المواطن الروسي في ظل الستالينية ، اندهشت، لأننا لو نزعنا الاتحاد السوفياتي وستالين، كأنها تتحدث عن الجزائر بأمراض ذلك الوقت وهيمنة الأجهزة الإدارية على الدولة، عرفت منه لاحقا أن الكتابة تحتاج أحيانا إلى بعض التغطية، ويترك الباقي لنباهة المواطن لأن القارئ على العموم ليس غبيا. قال: إذا أردت أن تكون صحفيا حقيقيا حافظ على الحقيقة بكل الوسائل بما في ذلك الحيلة وإلا ستكون مثل الآخرين، أعتقد أنه غرس فيّ شيئا خطيرا: حرية القول مهما كان الثمن، عندما أصبحت كاتبا، بعد سنوات، قبلت أن تطحن بعض كتبي من الرقيب على أن أغير فيها حرفا ، بعضها لم تعط لها فرصة التنقيح والتخفيف من حدة القول، والتغيير، فقد طحنت بقرار الرقيب بإشارة من المطبعجي الذي عوض رقابة الدولة، مثلما حدث مع " مرايا الضرير/ كولونيل الحروب الخاسرة" ، في نهاية الفترة الصباحية، مر رئيس التحرير ربت على كتفي و ذكرني بعدم ترجمتي ما لا يصلني منه ، ثم وقال أبشر سنشرع في الأسبوع القادم في ترجمة الصفحة الثقافية .. قرأت بعض قصصك في المجاهد الأسبوعي والشعب وملحقه، جيد لك لغة جميلة خففها شوي فقط ، سعدت لكلامه بلغتي الصعبة كنت أريد وقتها أن أثبت بأني قادرعلى " شقايا " كما يقولون في ريفنا ، طبعا كنت مخطئا، ما يجعل اللغة مؤثرة ومدهشة ليست صعوبتها ولكن رهافتها التي تحسس القارئ أنها قالت ما فيه وما ينام في داخله. اللغة الصحفية كانت قريبة من هذا، لكنها شيء آخر.