كانت تلمسان في قديم الزمان، مأوى وملاذا لكل إنسان، فتاريخها حافل وطويل يعود إلى ما قبل التاريخ مع سكانها الأمازيغ، شهدت منذ آلاف السنين حقبا ومراحل عدة، منذ أن فتحها أبو المهاجر دينار، وبعده عقبة بن نافع، كما إتخذها بنو عبد الواد عاصمة لدولتهم ليحكمها من بعدهم الأدارسة والفاطميون والمرابطون والموحدون والزيانيون، وكلها حضارات ساهمت في تشكيل زخمها وإرثها التاريخي، بعدما تركوا بصماتهم راسخة في ذاكرتها المثقلة بالمحطات والإنجازات الهامة. كما شهدت تلمسان التي حباها الخالق بموقع إستراتيجي هام خلال العصر الإسلامي، نهضة فكرية، وإزدهارا لمختلف العلوم، لم تشهد له مثيل، إمتد إشعاعه الى كبريات الحواضر الإسلامية، القابعة عبر أنحاء المعمورة، حيث كانت قبلة لعلماء قرطبة وغرناطة، الذين هجروا إليها بكثافة وإستقروا فيها بعد سقوط الأندلس، فما كان لها إلا أن تستفيد وتتشبع وتتزود وتنهل من معارفهم وخبراتهم وتجاربهم، التي حركت التيارات الفكرية والصوفية، وساهمت في بروز الفكر الأشعري والمذهب المالكي، فكل هذا الحراك العلمي، جعل من تلمسان القلب النابض للمغرب الأوسط، وما كان له أن يكون لولا إسهامات علمائها الأجلاء على غرار أبو العباس والونشريسي والقطب بومدين وشعيب الأندلسي وعفيف الدين التلمساني والمقري والإمام السنوسي والمغيلي وغيرهم من فلول العلماء، ممن صنعتهم وضعوها بعدما وجدوا كل الدعم لدى الملوك والسلاطين الذين حكموا تلمسان وجعلوا منها قبلة لطلاب العلم والمعرفة في الفقه والمنطق والتصوّف والهندسة والرياضيات والفلك، الذي »دار« وجعل منها عاصمة للثقافة الإسلامية هذه السنة... تصحو عاصمة الزيانيين وتنام هذه الأيام، على وقع تظاهرة »تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية«، التي ستحتضنها على مدار السنة الجارية، وسيشرف بعد غد رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة على إفتتاحها الرسمي في غمرة الإحتفال بيوم العلم، تيمنا بهذه المناسبة الوطنية، لما تكتسيه من خصوصية وأهمية بالغة، تتوافق وأبعاد التظاهرة، التي ستشهد مشاركة قياسية للدول الأعضاء بالمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة »إيسيسكو« ممثلة في 29 بلدا وكذا 12 دولة أجنبية، أبت إلا أن تسجل حضورها في هذا العرس الثقافي، على غرار الهند والصين وإسبانيا والبرتغال والولايات المتحدةالأمريكية والعديد من الدول غير الإسلامية، حتى لا تفوت فرصة إكتشاف زخم وجمال وأصالة تراثنا وقوة وعظمة حضارتنا الإسلامية، الضاربة جذورها في أعماق التاريخ. تزينت شوارع تلمسان وساحاتها الرئيسية بالأعلام الوطنية، ورايات الدول المشاركة، التي عبرت الحدود والمحيطات والبحار من مشارق الدنيا ومغاربها، ومن أقصى نقطة في أركان المعمورة، ملبية الدعوة، غير مبالية بطول المسافة ولا بمشقة وعناء السفر، حتى تقاسم الجزائر أفراحها وتساهم بشكل أو بآخر في إثراء فعاليات تظاهرة نجحت في لمّ شمل المسلمين، فما كان لمدينة الأصالة والتراث إلا أن تبسط ذراعيها لتضم ضيوفها الذين حجوا إليها أفواجا، أفواجا بالأحضان، بعدما خصتهم بأحسن إستقبال، إكراما لهم وذاك من شيم الجزائريين، أهل الكرم والجود. سيسبق الإحتفال الرسمي للتظاهرة، إحتفال شعبي كبير، سيقام غدا الجمعة، وهي عادة تأصلت فينا وأضحت اليوم من تقاليد المواعيد الثقافية الكبرى التي تحتضنها بلادنا، على غرار الإحتفال الشعبي الضخم الذي ميز تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية التي إحتضنتها بلادنا في 2007، وكذا المهرجان الثقافي الإفريقي الثاني المنظم في 2009، حيث سيستمتع ضيوف وسكان وزوار الجوهرة كالعادة، بصور مشرقة ومشرفة إلتقطت من دفاتر التاريخ العريق الغابرة، الممتد إلى آلاف السنين، ستتبد للعيان وتتحرك أمام مرأى الجميع، من خلال مجسمات ضخمة، صممت بعناية فائقة، تفننت في صنعها أنامل جزائرية، حرصت كل الحرص على إبراز ملامح ثقافتنا الإسلامية وقوة حضارتنا العريقة في أبهى صورة، ستجوب الشوارع الرئيسية لعاصمة الزيانيين على متن شاحنات في إستعراض ضخم تتخلله لوحات فولكلورية، مستوحاة من تراثنا الثري بالطبوع الموسيقية، والرقصات الشعبية، تعكس خصوصية كل منطقة من وطننا الشاسع على حدة، ستستمتع بها لا محال جماهير ستصطف على جنبات الطريق، ليكتمل بذلك المشهد وتترسخ الصورة في الذاكرة، التي صنعها هذا الموعد الهام الذي سيكون حتما فرصة لتفعيل حوار الحضارات وتلاقح الثقافات على أخصب أرض وأجمل مناخ.