يخوض مؤلفا كتاب “حالة الأزمة”، عالما الاجتماع البولندي زيجمونت باومان والإيطالي كارلو بوردوني، حوارا موسعا ومعمقا في فهم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العالم الغربي، تشتبك فيه أحيانا أفكارهما وتتقاطع أحيانا أخرى، انطلاقا من تعريف وتشريح معنى الأزمة، ومحاولة فهم دورها في إعادة تشكيل المجتمعات والدول، مرورا بتحليل أزمة الحداثة وما بعدها، وانتهاء بمناقشة أزمة الديمقراطية. ابتداء يرى بوردوني أن “الأزمة” قد تعبر عن شيء إيجابي وخلاق ومبشر، لأنها تشير إلى تغير ما، وربما تكون ميلادا جديدا بعد انفصال وانهيار. ربما تشير أيضا إلى نضج تجربة جديدة، مما يؤدي إلى نقطة تحول على المستويات الشخصية والتاريخية والاجتماعية. ويربط بوردوني الأزمة الحالية التي تعيشها أوروبا، على وجه الخصوص، من ارتفاع في مستويات البطالة، وتزايد اللامساواة الاجتماعية، بتداعيات أحداث العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فليس من قبيل المصادفة، بحسب ما يقول، أن مهاجمة البرجين في نيويورك في العام 2001 تبعها اهتزاز في الأسواق المالية ما زالت آثاره مستمرة حتى الآن. عدا عن أن “انفجار الاقتصاد الجديد” الذي جاءت به العولمة، حيث الشركات المتعددة الجنسيات، و”التحرير الاقتصادي للحدود علاوة على التأثير المهم في الحرية الشخصية والاتصالات، أدت هي الأخرى إلى صعوبات اقتصادية هائلة”، فإذا ما وقع انهيار للأسواق المالية في طوكيو، فإنه ينطوي على تداعيات مباشرة في لندن أو ميلانو، وهكذا فإن الفقاعة الاقتصادية الناجمة عن السندات عالية العائدات والمخاطر التي بدأت في أمريكا الجنوبية، وكانت مسؤولة عنن أخطر انهيار للنظام المصرفي في التاريخ، قد تسربت إلى أوروبا، وأثارت الأزمة الراهنة، التي لا نرى مخرجا منها”. ..السخط كقوة تغيير كجزء من الحل، يعتقد بوردوني أن تدخل الدولة قد يساهم في الحد من سلسلة الكوارث المرتبطة بهذه الأوضاع، ذلك أن الحلول التي تلجأ إليها القطاعات الخاصة والشركات الكبرى يبدو أنها تفاقم المشكلة، “فالاستغناء عن العاملين يحرم الأسر من القوة الشرائية، ويلتهم المدخرات، ويخفض الاستهلاك، مما ينعكس بالسلب على التجارة والإنتاج؛ إنه يفتح الطريق إلى الركود، وهو أفظع وجه للأزمة الاقتصادية”. لكن رأيا آخر لباومان، مع إقراره بأن السماح للسوق بقيادة الدفة خضوعا لمنطق الأرباح، فإنها ستؤدي إلى كوارث اقتصادية واجتماعية، فهو يتساءل: “هل ينبغي علينا، وهل بوسعنا، أن نعود إلى الأدوات القديمة التي كانت تستخدمها الدولة في الإشراف والتحكم والضبط والإدارة؟ ما ليس عليه خلاف هو أنه ليس بوسعنا أن نفعل ذلك، لأن الدولة ليست كسابق عهدها قبل مئة عام، وليست كما كان يرجى أن تصير؛ فالدولة في حالتها الراهنة تنقصها الوسائل والموارد اللازمة للقيام بالمهام التي يتطلبها الإشراف الفعال والتحكم في الأسواق، فضلا عن ضبطها وإدارتها”. يرى باومان أن ما يميز الأزمة الراهنة أنها تقع في عصر يشهد انفصالا بين السلطة والسياسة، وينجم عن ذلك “غياب القوة الفاعلة القادرة على فعل ما تتطلبه كل أزمة، أي اختيار الطريق وتطبيق العلاج الذي يستلزمه ذلك الاختيار.. وفي ظل العولمة ( يبدو) أن هذه العودة لا يمكن تصورها تقريبا داخل دولة واحدة، مهما كانت كبيرة وقادرة، ويبدو أننا نواجه مهمة صعبة تتمثل في رفع السياسة وركائزها إلى ذروة جديدة غير مسبوقة تماما”. يتساءل باومان أيضا عن القوة التي يمكنها إحداث التغيير المجتمعي في ظل تراجع قوة الدولة، ويشير هنا إلى ما أسماه “شبح السخط الذي يخيم على الكوكب”، الذي يتم التعبير عنه باحتلال الشوارع الكبيرة بأعداد هائلة من الناس، الذين “فقدوا الإيمان بالخلاص من أعلى.. من البرلمانات والمواقع الحكومية، وهم يبحثون عن طرق بديلة لإنجاز الأمور الصحيحة، ولذا فهم يخرجون إلى الشوارع في رحلة استكشاف وجولات من التجريب؛ إنهم يحولون ميادين المدينة إلى معامل مكشوفة، وهناك يجري تصميم أدوات الفعل السياسي”. ..وداع طويل للحداثة ينتقل بوردوني وباومان بعد ذلك للحديث عن أزمة الحداثة، ويبدأ بوردوني النقاش بما يعتبره حقيقة واقعة، تتمثل في سحب الحداثة لوعودها أو التراجع عنها، واستخفاف ما بعد الحداثة بتلك الوعود والسخرية منها. أول هذه الوعود بحسب ما يقول هو فكرة عصر التنوير عن الأمن، “ذلك أن اليقينيات الكبرى للتكنولوجيا القادرة على منع الكوارث الطبيعية وتفاديها، انهارت أمام الحقيقة التي مفادها أن الطبيعة لن يتم إخضاعها”، بالإضافة إلى”الكوارث الأخلاقية” التي يتسبب بها الإنسان، والتي قد تكون أشد خطورة من الأولى، “في سباق لاستعراض مهارات التدمير”. ويتابع بوردوني أن وعودا أخرى لقيت المصير نفسه أو ستلقاه قريبا، مثل وجود الضامن الاجتماعي. هذا الوعد الذي تحقق بعد معارك سياسية ونقابية كبيرة صار كما يقول”محل شك وارتياب.. ويتضمن هذا كل الإجراءات التي تنص عليها الدولة كجزء من الاتفاق المتبادل العام مع المواطن، بأن تضمن صحته، وحقه في العمل، والخدمات الأساسية، والأمن الاجتماعي، والتقاعد، والشيخوخة”. لقد انقضى عهد هذه الوعود، بحسب ما يرى بوردوني، أو جرى تقليلها أو إفراغها من المعنى. إنها “فلسفة اللايقين، وتصفية دولة الرفاه الاجتماعي” وآثارها لا تقتصر على أوروبا، بل تمتد إلى العالم كله وإن بدرجات متفاوته، تحركها تصورات ليبراليه جديدة “بأن كل واحد ينبغي أن يعول نفسه من دون أن يثقل كاهل غيره بحاجاته”. إننا في مرحلة وداع طويلة للحداثة بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين. هذا أمر لا يجده باومان مقنعا. فمن وجهة نظره أننا ما زلنا ننتظر قطف ثمار وعود الحداثة. هذه الثمار هي “الراحة والسكينة والأمان والتحرر من الألم والمعاناة”. يقول باومان إن الحداثة، منذ البداية، ارتبطت بتسخير الطبيعة لخدمة الحاجات والطموحات البشرية، “ونحن جميعا من قمة المجتمع إلى القاع ينتابنا الذعر عندما ينخفض النمو الاقتصادي المقدس… فهو المقياس الوحيد الذي اعتدنا استخدامه لتقدير مستويات الرخاء والسعادة المجتمعية والفردية، فلم يخب الانبهار بالنعيم المتزايد والأدوات الضامنة له والواعدة بزيادته كما كان قبل مئة عام أو يزيد… إن أيديولوجيا السعادة عبر الاستهلاك هي الأيديولوجيا الوحيدة التي تتمتع بفرصة إلغاء جميع الأيديولجيات الأخرى وإخضاعها… فليس بمستغرب أنه ليس هناك نقص في الحكماء الذين يفسرون انتصارها العولمي، باعتباره نهاية عصر الأيديولوجيا أو نهاية التاريخ”. ويتابع باومان إن السردية الكبرى الحديثة، سردية التقدم في التحكم البشري في الأرض بواسطة ما أسماه “الثالوث المقدس” (الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا) تعمل على أفضل وجه، حتى إن الجيولوجيين في وقتنا هذا يسمون عصرنا بعصر توسع هيمنة البشرية على النظام البيئي، ويرون أن الأنواع البشرية هي التي تحدد الوجهة التي ستتحرك فيها التغيرات الكوكبية. .. ما بعد الديمقراطية في الحديث عن أزمة الديمقراطية يقول بوردوني إننا اليوم نعرف الديمقراطية بمعنى مختلف عن المعنى الذي قامت عليه تاريخيا، وهو حكم الشعب وسيادة الأغلبية، فالديمقراطية في أذهاننا اليوم مرتبطة أكثر بالحرية، والمساواة أمام القانون، واحترام حقوق الآخرين وحقوق الأقليات، والحد من امتيازات النخبة، وإعطاء كل إنسان الفرص نفسها. وهي اليوم تأخذ شكلا تمثيليا برلمانيا عبر انتخاب ممثلين عن الشعب. ويربط بوردوني أزمة الديمقراطية بأزمة الحداثة نفسها؛ إذ كون الديمقراطية “مطلبا يسعى إليه الناس ويحلمون بتحقيقه… وكانت غالبا ما تستدعي التضحية الفردية، فإنها اتخذت مع الحداثة معنى أيديولوجيا متذبذبا، حسب البيئات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي نودي بالديمقراطية فيها”. ورغم أنه تم استغلال مصطلح الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية من جانب الحكومات والدول التي خرجت من التجارب الشمولية؛ بهدف إبعاد نفسها عن تاريخها السابق، فإنه يلاحظ كذلك أن “العمليات التحررية التي صاحبت تاريخ الحركة العمالية في القرن الماضي، تعطي انطباعا بوجود إفراط في الديمقراطية، ومن ثم إمكانية تقييد آثارها لضمان القدرة على الحكم”. يحيل بوردوني هنا إلى وجهة نظر أستاذ الاقتصاد السياسي فولفغانغ شتريك، الذي يرى أن هناك” خطيئة قاتلة في الوفرة الزائدة على جبهتين، فعلى الجبهة الشخصية نجد أن المعدلات المرتفعة لتشكيل النقابات العمالية في البلدان الغربية مسؤولة عن رفع كلفة العمالة، واستحداث الضوابط لحماية العمالة والدفاع عنها، مما دفع رأس المال إلى الانتقال إلى أماكن أخرى. وأما على الجبهة العامة، فنجد ديون دولة الرفاه الناجمة عن الضغط المتزايد من جانب الرأي العام لتوفير البضائع والخدمات الأساسية التي حسنت نوعية الحياة”. أدى ذلك إلى توقع رفاه وأمن اجتماعي يفوق الإمكانات الواقعية. ووفق ذلك، “فإن الإفراط في الديمقراطية مسؤول عن الأزمة المالية التي وقعت عام 2008”. شتريك يرى أن الأزمة المالية الراهنة ربما يكون أيضا قد “جرى توجيهها لإعادة خلق اللامساواة الاجتماعية وتقليص الديمقراطية”. يتوقف بوردوني كذلك مطولا عند مفهوم “ما بعد الديمقراطية” حيث تفقد السياسة مزيدا من الاتصال بالمواطنين وتنتهي بحالة من “معاداة السياسة”، وينبه إلى أن نفور المواطنين من المشاركة السياسية واعتبار السياسة “عملا قذرا لا ينبغي التورط فيه، وينبغي تركه لمن يمارسونها بحرفية… طريق مباشر إلى السلطوية”، وهو تماما الطريق الذي استخدمه موسوليني. ما بعد الديمقراطية كما يراها بوردوني، هي “عملية خفية يجري تصويرها على أنها عملية طبيعية؛ إذ تضمن الحريات الشكلية، بينما تحتقرها أو تفرغها من مضمونها الديمقراطي الحقيقي”. ويجمل بوردوني سمات هذه المرحلة بالآتي: 1 إلغاء القواعد الحاكمة للعلاقات الاقتصادية وسطوة المال والأسواق المالية. 2 الانخفاض الكبير في مشاركة المواطنين في الحياة السياسية والانتخابات. 3 إسناد مهام الدولة والخدمات الإدارية للقطاع الخاص. 4 تدهور دولة الرفاه وقصر الخدمات الأساسية على أفقر الفقراء. 5 سطوة جماعات الضغط التي توجه السياسة في الوجهة المرغوبة. 6 تقلص الاستثمارات العامة. 8 الإبقاء على العناصر الشكلية للديمقراطية بما يحافظ على مظاهر ضمان الحرية.