بوريل: مذكرات الجنائية الدولية ملزمة ويجب أن تحترم    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    أدرار.. إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    السيد ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل هي نهاية الإيديولوجيات أم بداية التحالفات؟
نشر في صوت الأحرار يوم 12 - 10 - 2009

لمدّة ثلاثة أسابيع متتالية تتابعت المؤتمرات السّنويّة للأحزاب الرئيسيّة الثلاثة في بريطانيا: الحزب الليبرالي الديمقراطي، فحزب العمّال، الحاكم، ثمّ حزب المحافظين. وكان الناخبون ينتظرون أن تُمنح لهم الفرصة للإختيار بين برامج وأفكار الفصائل الثلاثة للنخب المتصارعة. ولكنّ أحد المواطنين يتدخّل في أهمّ برنامج أسبوعي متلفز لمناقشة "قضايا الساعة" ليقول أنّه لم يعد يرى فرقا بين برامج هذه الأحزاب. فهل انتهت حقّا الفروق بين إيديولوجيات الليراليين والعمّال والمحافظين؟
الحقيقة أن مثل هذا النقاش حول اختفاء الفروق بين الأحزاب الرئيسيّة في بريطانيا دار أيضا أثناء الإنتخابات العامّة سنتي 2001 و 2005، حيث احتج الكثير من الناخبين والمعلّقين على كون الفروق بين الأحزاب الرئيسيّة تكاد لا تُذكر. فقد حظيت وقتها القضايا الرئيسيّة بالتوافق الكامل، سواء تعلّق الإمر بالملكيّة العامّة أوبسلطة نقابات العمّال أوبالعضويّة في السوق الأوروبيّة أو بالسّلاح النوويّ. كما أنّ خطابات زعماء تلك الأحزاب الكبرى طغت عليها نفس الإنشغالات.
الحقيقة، أنّ السّاسة في بريطانيا يُفظّلون أن يردّوا ممارساتهم إلى أصول مبدإيّة وقيميّة، وذلك من منطلق أنّ المواطنين في حاجة إلى أن تتوفّر أمامهم أطروحات الأحزاب ضمن منظومة متجانسة، تطرح نموذجا للمستقبل وتقترح طرق الوصول إليه، وذلك لتسهيل ممارسة الحق في اختيار أفضلها. وفي هذا الإطار يتمّ التمييز بين الحزب الإيديولوجيّ والحزب البراغماتي. أمّا الحزب الإيديولوجي فهو ذلك الذي يلتزم بمباديء وبرنامج سياسي محدّدين لا يقبل المساومة عليهما أوبهما لبلوغ السلطة أو تحقيق الشعبيّة بل يسعى لإقناع الناخبين بالقبول بهما. في حين أنّ همّ الحزب البراغماتي هو بلوغ السلطة وبالتالي فهو مستعدّ لتعديل سياساته لترضية النّاخبين وتفضيل »الحسّ السليم« أو »الحلّ القابل للتّنفيذ« بدلا من التمسّك بالمسلّمات النظريّة.
وإذا رجعنا لرصد هذه الإيديولوجيات، فإنّنا نجد أنّ المبدأ الليبراليّ وقِيَمه هو أكثر الإيديولوجيات رسوخا في تاريخ الحياة السياسيّة ببريطانيا وأوسعها انتشارا بين الأحزاب الكبرى، وذلك على الرّغم من ضعف الحزب الليبرالي وغيابه أحيانا عن ركح العمل السياسيّ من فترة إلى أخرى. وتستند المبادىء الرئيسيّة لليبرليّة على احترام حكومة دستوريّة مبنيّة على قاعدة مراقبة السلطة التنفيذيّة، وتوازن السلطات، وقبول المواطنين بالحكومة - التي يطيعونها مقابل حمايتهم، بالإضافة إلى الحريّة وحماية الملكيّة.
بيد أن مبدأ حريّة السوق تمّ التراجع عنه رويدا رويدا، خاصّة بعد ما جادت به قريحة الإقتصاديّ جون كينز، مع القبول بمسؤوليّة الدّولة في تنظيم السوق وحماية المستضعفين وتجنّب احتكار السلطة وتوفير الخدمات العامّة والسّلع التي يعجز السوق عن توفيرها. ولكنّ الملاحظ أنّ العودة لقواعد السوق الصّارمة غدت بارزة أكثر لدى حزب المحافظين، منذ عهد مارغريت تاتشر، واعتنقها حزب العمّال بقناعة أكثر ممّا تمسّك بها الليبراليين.
أمّا إيديولوجيّة المحافظين فتعود أسسه للقرن 18، وهي تُمجّد المحافظة على التقاليد والمؤسّسات القائمة، والمراتبيّة، والملكيّة الخاصّة، وسنّ الضوابط السلوكيّة وتؤمن بارتباط المجتمع عضويا، مقابل نظرة تقسيم المجتمع إلى طبقات، كنا تُفضّل مبدأ الدّولة القوميّة.
غير أنّ تصمصم حزب المحافظين في الوصول إلى سدّة الحكم والبقاء فيه قاده إلى اتباع مرونة في الإلتزام بتلك المباديء وفي تطبيق برنامجه السياسي. وهكذا، فإنّ هذا الحزب الذي هو أصلا حامي مصالح الأرستقراطية وبرجوازية الرّيف، سعى للتّقرّب من الطبقة المتوسّطة وحتى العمّال لكسب أصواتهم.
وفي إطار هذه المرونة، قَبِل بإضعاف غرفة اللوردات، ووافق على منح الحكم الذاتي لإيرلندا، وعلى ملكيّة الدولة للصناعات، وعلى اضمحلال الأمبراطوريّة، وغيرها... ولكنّ بعضا من أعضائه رأوا في تلك المواقف تنازلات صارخة عن المبادىء.
أمّا المبدأ الإشتراكي فقد كان دوما متنوّع الأصول. وإذا كان المنطلق الأساس هو الطموح لاستعاضة الرأسماليّة والملكيّة الخاصّة بملكيّة الدّولة لوسائل الإنتاج، فإن ذلك لم يعد اليوم إلا محلّ قناعة نفر قليل من أعضاء حزب العمّال. وقد غلب على مباديء الحزب الأصليّة أربعة أجنحة: النقابات العمّالية، أولا، وجماعة الفابيين، باعتبارهم مدافعين عن الملكيّة العامّة، ثانيا، ومدافعين عن الإشتراكيّة مؤمنين بالعمل على التحويل التدريجيّ للرّأسماليّة إلى مجتمع بدون طبقات ومتساوية أعضاؤه، ثالثا، وجناح رابع ماركسيّ يرفض الرّأسماليّة ويرفض اعتماد طريق البرلمان للتّغيير، له نفر محدود جدّا من المناصرين.
ولم يعد ممكنا الآن ربط تلك المباديء العتيقة بحزب العمّال »الجديد« الرّاهن. فقد أقرّ زعماؤه أفضليّة الإختيارات وفق قابليّتها للتطبيق بما في ذلك بعض السياسات الموروثة عن كلّ من مارغريت تاتشر وجون مايجور رئيسا الوزراء المحافظين الذين سبقا عهد حكومة العمّال الحالية. وقد غيّر توني بلير المادّة الرّابعة من دستور الحزب لتقرّ بدور رجال الأعمال والمؤسسة الخاصة وقواعد السوق ضمن مبادىء الحزب، وتنصّ على أنّ غالبيّة أفراد المجتمع هم الآن من الطبقة المتوسطة وبالتّلي فإنّ حزب العمّال مدعوّ للتوجّه لكلٍّ من تلك طبقات المجتمع. كما أقرّ الحزب جملة من السياسات هدفها استرضاء الطبقة المتوسّطة ورجال المال والأعمال.
ويعود الجزء الأكبر من هذه التوجّهات الجديدة إلى ما أصبح يُعرف بالطريق الثالث الذي أسّس له الباحث الإجتماعي أنطوني جيدنز، وينبني هذا الإتجاه على رفض الإعتماد الكليّ على كلّ من الطريق الأول )الدولة( و الطريق الثاني )السوق(، ويعوّضهما بالطريق الثّالث الذي يحاول التأليف بين الدّولة والسّوق، ضمن منح أولويّة للجماعة المحليّة بدلا من المجتمع أو الفرد، واعتماد المشاركة بين القطاعين العامّ والخاصّ. ولكنّ منذ 2005، أصبح ذكر "الطريق الثالث" نادرا في أدبيات حزب العمّال.
وأعمّ من ذلك، لم يعد يرغب السّاسة في بريطانيا اليوم أن يتمّ ربطهم أو ربط أحزابهم بأيّ إيديولوجيا محدّدة، لأنّ وصفهم بذلك يعني اتّهامهم بالتّعصّب أو التحجّر الفكريّ )وهو تعبير أسلم للتّرجمة الدّارجة الإستعمال: لغة الخشب(. وغالبيّة المحافظين يفضّلون الحديث عن مرجعيّة يصفونها تقليديّة أو يُرجعونها للحسّ السليم. كما درج زعماء حزب العمّال، على الحرص دوما على أن يردّوا أصولهم إلى البروستانتية أكثر منها إلى الماركسيّة، فيفضّلون الحديث عن الدّفاع عن قيم العدالة الإجتماعيّة حتى بدلا من الحديث عن الإشتراكيّة.
غير أنّ النّقد الأساسي الموجّة لأطروحات نهاية الإيديولوجيا هو أنّها تنطلق من الحكم على ما هو في طريق الإندثار من تلك الإيديولوجيات في البلدان الغربيّة فقط، مهملة، في نفس الوقت، ما هو في طريق الإنبعاث منها. فمثلا، فإنّ ما خلص إليه فوكوياما هو في الحقيقة إقرار بهيمنة الليبراليّة والنظام الرّأسمالي على حساب النظام الشيّوعي .
حقيقة الأمر أنّه مع تطور الأحزاب في علاقاتها بالناخبين تغيّرت أهميّة الإيديولوجيا. ففي سنة 1941 كتب الباحث الإجتماعي الأمريكي جيمس بورهام عن أنّ الغرب والعالم مقبل على عهد تَحْكُمه نخبة من التكنوقراط لا مكانة للإيديولوجيا فيه. وعليه، كما يرى، فالسؤال المطروح عندئذ يُصبح "كيف؟" بدلا من "لماذا؟" الذي تطرحه الإيديولوجيات. بل إنّ دانيال بال نشر كتابا سنة 1960 تحت عنوان "نهاية الإيديولوجيا" قبل أن يكتب فرانسيس فوكوياما كتابه (1989) عن نهاية التاريخ التي يرى علاماتها في ما يعتقد أنّة نهاية الإيديولوجيات.
ومنذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية بدأ ممثلو الإيديولوجيات الثلاثة – الليبراليّة والإشتراكيّة ومذهب المحافظين، بدأت تقترب من بعضها البعض من حيث هدف إدارة النظام الرأسمالي. وهذا يعني قبولها بمقولات إيديولوجيّة أساسها الثقة في اقتصاد السوق والملكيّة الخاصّة والحوافز الماديّة في ظلّ الرّفاة الإجتماعيّ وتدخّل الدّولة.
وهكذا، استكان حزب العمّال إلى المباديء الليبراليّة التي يُمليها الإقتصاد الكينزي نع الإستجابة لحاجات الرّفاة الإجتماعي. وهذا ما أقرّة زعيم حزب العمّال، أحد مؤسسّي "الحزب العمّالي الجديد"، توني بلار ، وذلك منذ ماقبل 1997. بل وذهب منذ ذلك الوقت إلى أنّ حزبي العمّال والحزب الديمقراطي الليبرالي يشتركان في عدّة أهداف ويمكنهما التعاون لتشكيل: "توافق تقدّميّ" في القرن 21.
وكان رالف ميليباند، أحد أكبر المثقفين الراديكايين الكبار في القرن الماضي، قد كشف، في كتابه المرجعي: »الدولة في مجتمع رأسمالي«، كيف أنّ حكومات حزب العمّال سرعان ما تتحوّل إلى: »دعامة للنّظام القائم«، وتساهم بصفة فعّالة في: »تقوية الدّولة الرّأسمالية.« ومؤلف هذا الكتاب هو والد اثنين من أعضاء حكومة العمّال الراهنة. وقد دعت ديبورا أور، الباحثة الإجتماعيّة اليساريّة، باسم الكثيرين، حزب العمّال إلى أن يعود إلى الإستلهام من قيمه الإشتراكيّة الأصيلة، بعد تحالفه الطويل مع »الليبراليّة المُحدثَة« المفلسة. وقالت أنّ: »محاولة إقامة دولة لها مرجعيّة إيديولوجيّة اشتراكيّة راقية وشديدة الليبراليّة، في نفس الوقت، قد جعلت منه بعبعا عجيبا.« وهي الأخرى ترى أنّ حزب العمّال قد أثبت كفاءة إدارته لنظام السوق بتحويل مدّخرات المواطنين لتغطية خسائر البنوك بدلا من توجيهها لمحاربة التمايز الإجتماعي، كما وعد أتباعه.
ومن جهته، فتح جون كروداس، أحد نواب العمّال اليساريين وأحد أعمدة المفكّرين اليساريين الرّائدين، فتح الجدل حول مستقبل الحزب في محاضرة ألقاها قبل أسبوع من افتتاح المؤتمر السنوي، حيث قال إنّ الحزب مهدّد بهزيمة نكراء في الإنتخابات المقبلة إذا لم يتمثّل قيمه الديقراطيّة الإجتماعيّة. وقال أنّ: »الحزب فقد لسانه وقدرة تفهّمه وسخاءه لكوننا تراجعنا لتقمّص أيديولوجيّة اليمين.«
ومن علامات انحسار الإيديولوجية، أنّه بسبب غياب تلك الفروق الإيديولوجيّة، أصبحت الأحزاب تبيع منتوجات سياسيّة لذاتها متمثّلة في برامج سياسيّة وزعماء، فحسب. فقد باشر زعيم حزب المحافظين منذ أن تقلّد منصبه حملة علاقات عامة مبنيّة أساسا حول تقديم نفسه كبديل جذّاب وكفء وصاحب برنامج يُلبّى احتياجات مختلف فئات المجتمع، قتوجّه لحماة البيئة بزيارة إلى القطب الشماليّ كما ركب الدرّاجة في بعض تنقلاته بلندن، وعبّر عن انشغاله بالإندماج الإجتماعي بزيارته للمساكن الهشّة، وأكّد تعلّقه بقضايا التنمية بزيارة لراوندا. كما حرص على إبراز اهتمامه بمحاربة أشكال العنصريّة حتى بين صفوف قيادة حزبه. بل وذهب، سنة 2006، إلى نقد أولئك الذين يُشكّكون في فعاليّة القطاع العام، وهي وقفة إيجابيّة نادرة من محافظ، بله زعيم. غير أنّه، في نفس الوقت، ردّ أسباب الأزمة الإقتصاديّة الراهنة إلى تدخّل الدّولة في قطاع المالية عن طريق البنك الوطني الأنڤليزي وإلى دور البيروقراطيّة المتضخّمة فيه، وبذلك عاد إلى مفاهيم المرحلة التاتشريّة المتشدّدة، ناسيا ما صرّح به منذ ثلاث سنوات. وهذا ما يري فيه المحلّلون رغبته البراغماتيّة لكسب الأصوات.
ولكنّ الصحافيّة اليسارية، بولي توينبي، علّقت على محاولات دافيد كامرون الوسيم والإنيق قائلة: »أنّ هناك من يبدو وكأنّه خروف، ويثغو مثل الخروف، ولكنّ قلّة قليلة ققط من يعتقدون أنّه خروف.« مشيرة، في نفس الوقت، أنّ القوى الفعليّة وراء المحافظين ليس في مقدورها موضوعيّا أن تتحلّى بتلك الرّحمة.
ومن جهة أخرى، نشر نيل لاوسن، رئيس جماعة ضغط يساريّة قويّة تُدعى »كامباس«، وجايمس غراهان مؤسس »المنبر الاجتماعي الليبرالي« مقالا مشتركا يدعوان فيه لعقد تحالف بين حزب العمّال والحزب الليبرالي الديمقراطي. حيث يريا أنّ أصوات ناخبيهما المشتركة بلغت 55 في المئة منذ 1945، أمّا المحافظون فوصلوا إلى 40 في المئة، وتلك، في نظرهما، أغلبيّة تقدّميّة، يمكن تجنيدها، وهي المقتنعة بإعادة توزيع الثروة والسّلطة وإتاحة الفرص للجميع. ودعوا إلى تجنيد القوى الإجتماعيّة التابعة للحزبين وتلك القوى المقتنعة بمباديء الليبراليّة الإجتماعيّة والليبراليين الإشتراكيين الذين يقتسمون نفس الأرضيّة فيما يتعلّق بقضايا مثل المساواة والبيئة والإصلاحات الديمقراطيّة. وقد وجدت هذه المساعي تجاوبا لدى أعضاء كثيرين ضمن الحزبين وكذا من بين أعضاء حزب الخظر.
وقد أوضح أصحاب الدعوة أنّ الهدف ليس بناء خيمة واحدة، لأنّ ذلك لم يتحقّق، وإنّما إقامة معسكر يحافظ فيه كل طرف على استقلاله مع تحقيق نموّ أشدّ صلابة ضمن تخوم مشتركة في شكل تحالف للأفكار والآمال وليس تحالف بين الأحزاب والنّاخبين. ويقول أصحاب الدعوة أنّ درس نجاح حزب العمّال لبلوغ السلطة منذ 1997 مع توفّر أغلبيّة برلمانيّة كبيرة بيّن أنه ليس عبر تلك الطريقة وحدها يُمكن مواجهة قوّة رجال الأعمال والمال الذين يملكون بيدهم أوراق اللعبة.
كما أصبحت الإحزاب أكثر اعتمادا على الدعاية السياسة أثناء فترة الحملة الإنتخابيّة والتركيز على كسب ودّ جمهور الناخبين الذين لم يعودوا مرتبطين بأيّ حزب سياسيّ. إذ تؤدّي طبيعة التنافس بين الأحزا ب لكسب أكبر عدد من الأصوات إلى التوجّه نحو جمهور الوسط ممّا يجعلها تميل لتبنّي خطاب ايديولوجي غير صارم. وقد انتقد ،مثلا، الصحافي بالغارديان، سيمون جانكينز، الحزب اللّيبرالي الدّيمقراطيّ متمنّيا أن يستلهم من جديد من رصيد قِيمه الأصيلة التي تُمجّد الفرد الذي تحمي الدّولة حريّته ضدّ الدّولة نفسها. وتأسّف لكون زعيم الحزب، نيك كلاغ، يدافع يوم الثلاثاء عن الظرائب وصرفها ثمّ يدعو إلى التقتير والإدخار يوم الإربعاء.
ولكونه يُصرّح يوما أنّه سيعوّض حزب العمّال ويوما آخر حزب المحافظين. وكأنّي به تحت رحمة رياح الناخبين دوما.
كما شاعت أيصا فكرة اندثار التمييز بين الأحزاب وفق ذلك المعيار القديم بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار والتي استمرّت حتّى الثمانينات تعتمد على:
• إدارة الدولة للإقتصاد مقابل حريّة السوق،
• تقديم الخدمات بصفة جماعيّة مقابل الإختيار الفرديّ،
• ترقية التقسيم العادل للمداخيل مقابل استحقاق الكفاءة،
• تفضيل معدل منخفض للضرائب على المداخيل مقابل زيادة الإنفاق العام
وفي رأي الصحافي سيمون جانكينز أنّ السيّاسة بطبعها الجدليّ لا تستطيع أن تستغني عن جناحي اليمين واليسار للتعبير عن التحالفات والمقاربات الفكريّة. حيث أنّ أولئك اليساريين المعاريون للحرب الحالية، ولقانون المخدّرات، ولتسلّط وزراة الداخليّة ولمركزيّة الدولة ليس لهم صوت يعبّر عنهم الآن. تماما كما هو حال الدّاعين لتحميل مديري البنوك دفع الظرائب. أيّ أنّ أحزاب اليسار الرّاهنة يجب أن تتمّ محاسبتها ليس فقط من طرف أعضائها بل وأيضا من طرف الناخبين عموما.
ولكنّ إجماعا أوسع بين الباحثين في تاريخ الإيديولوجيات يؤكدون أنّه من المبكّر الحديث عن نهاية الإيديولوجيات. وكلّ ما في الإمر أنّ هناك مظاهر جديدة للصّراع الإجتماعيّ بعثت مقولات إيديولوجيات ناشئة تعتمد مراجع جديدة مثل اختلاف الجنس أو العرق أو الدين أو حماية البيئة والتي توّلدت عنها ما أصبح الآن متداولا ضمن كتب الإختصاص باعتباره إيديولوجيا، مثل، الهويّة أو العرقيّة أو الإثنية، أوالأصوليّة الدينيّة )سواء كانت إسلامية أو مسيحيّة أو يهوديّة أو هندوسيّة أو سيخيّة(، وأطروحات حماية البيئة ومقاومة العولمة وحتّى عودة الوطنيّة في أوروبا الشرقيّة.
وكذا ظهور ما يُسمّى بال:"ما بعديات"، مثل: ما بعد الشيوعيّة، وما بعد الحداثة، وما بعد النسويّة. بل إنّ الأستاذ الجامعي كوستاس دوزيناس، من جامعة بيرباك اللندنيّة، يعتبر أنّ الحديث عن نهاية الإيديولوجيات ليس في محلّة، معتبرا أنّ الليبراليّة المُحدثَة ليست مجرّد نظام اقتصاديّ هالك، بل هي منظور منتاسق للعالم تخطّ حياة الناس وتصوغ لهم طريقة محدّدة لفهم ذاتهم وللتعامل مع الآخرين. وفي الوقت الذي انتهت فيه الليبراليّة المُحدثَة إلى مأساة محدودة، يقول، إلا أنّ آثارها الإيديولوجيّة والإجتماعيّة والثقافيّة لم يتمّ جردها بعد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.