من نافذة «فرن الشباك» في ضواحي بيروت، يمكن أن ترى بوضوح مشهد الثورات والانتفاضات العربية المقبلة، أو الموجة الثالثة من أطوارها، فقد دارت فيها، وفي قلب بيروت وصيدا وساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس، اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين والجيش وقوات الأمن، رغم استمرار الحظر المفروض، والحجر في البيوت، ودوام التخوف من جائحة كورونا، وربما بسببها أيضا، فقد انكشف ما تبقى من مستور متواطأ عليه، وهوت الليرة اللبنانية إلى قاع القاع، وزادت الأسعار على نحو خرافي، وانشغل الحاكمون بتبادل التهم، ما بين حكومة جاءت وحكومات سبقت، ومن دون أن يعرف أحد مصير مليارات الدولارات التي طارت، وتركت غالب اللبنانيين في استقبال الجحيم، وبغير مقدرة على ملاطمة نيرانه الاقتصادية الهائجة، فقد أصبحت الحياة عبئا لا يطاق، وضاق سمك الشعرة الفاصلة بينها وبين الموت، ويا روح ليس بعدك روح. ما جرى إلى الآن، هو مجرد إشارة إلى الذي سيجئ، وتتراكم ملامحه النارية إلى موعد معجل، قد لا ينتظر الإعلان الرسمي عن نهاية الحرب المعلنة ضد كورونا، فما بعد كورونا أسوأ بكثير منها، ليس في لبنان وحده، بل بطول وعرض المنطقة العربية، وبعمقها حتى الحافة الخليجية، التي لن تكون ناجية بالضرورة هذه المرة، فقد تبخرت الفوائض والاحتياطات المكتنزة، واتسعت رقعة الاستدانات على المكشوف. وتهاوي أسعار البترول ينذر بالمصائر المخيفة، وفي تقرير لصندوق النقد الدولي عن آثار كورونا، كان الاقتصاد الصيني هو المرشح الوحيد للنجاة من بين اقتصادات العالم الكبرى، فقد توقعوا له نموا إيجابيا محدودا، وبنسبة 1.2% هذا العام، بينما ينكمش الاقتصاد الأمريكي بنحو 6%، فيما توقعت تقارير أمريكية لاحقة استفحال الخطر، وأعلنت وزارة الخزانة انكماش الناتج القومي فعلا بنسبة 4.8%، مع خروج نحو ثلاثين مليون أمريكي من سوق العمل والتوظيف، وتوقع تقرير صندوق النقد الدولي انكماشا في اقتصاد الاتحاد الأوروبي بنسبة 7.5%، والأرقام كارثية كما ترى، تبلغ ذروة مآسيها في الاقتصادات الأضعف، ففي منطقتنا مثلا، أي في الأقطار العربية وجوارها، توقع تقرير صندوق النقد، أن ينجو الاقتصاد المصري وحده، وبنسبة نمو تعادل 2% في 2020، فيما توقعت الحكومة المصرية أن يصل النمو في هذا العام إلى ما فوق الأربعة في المئة، وهو تفاؤل لا يبدو في محله، ولا يفسر لجوء الحكومة إلى طلب حزمة قروض جديدة من صندوق النقد، رغم تراكم أعباء الديون الخارجية، واقترابها من حاجز المئة والعشرة مليارات دولار، فيما بدت باقي الاقتصادات العربية غارقة في محنة كورونا وبعدها، وكلها مرشحة للنمو بالسالب، بما فيها اقتصادات الدول البترولية، وبنسب انكماش كبيرة، تصل إلى ذروتها أو إلى قاعها، في الحالة اللبنانية بالذات، حيث توقع صندوق النقد الدولي انكماشا مريعا قدره بنحو 12%، فيما توقعت «الأسكوا»، وهي لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لدول غرب آسيا، ومقرها بيروت، أن يضاف 1.7 مليون عاطل جديد إلى أرصفة البطالة عربيا، وأن يضاف نحو 9 ملايين عربي إلى سواهم من الغاطسين تحت خطوط الفقر والجوع وسوء التغذية. وقد لا تحتاج إلى كثير من إمعان الظن وبعد النظر، إذا توقعت فيضانا من غضب الشوارع في عواصم الدنيا بعد مرور جائحة كورونا، رغم ميل أغلب الحكومات إلى التعجل في طي الملف، وخفض الفواتير، والعودة إلى افتتاح حركة الاقتصاد، بعد الإغلاق الكلي أو الجزئي، تلبية لرغبة الكبار في العودة لجني الأرباح، والتخفي بسوءات اقتصاد، كشفت كورونا عوراته، وفضحت طابعه المتوحش، وإهداره للقيم الإنسانية كلها، وهو خلل فادح، لا يبدو إلى تراجع طوعي في عوالم ما بعد كورونا، بل إلى صدام متفاقم، نأمل أن يفتح طريقا إلى عوالم جديدة، وهذه قصة أخرى، المهم اليوم، أن موجات جديدة من غضب الشارع باتت متوقعة، ربما عندنا بأكثر مما عند غيرنا، ففي البيئات الديمقراطية مجال للتنفيس، وإمكان إجراء تعديلات أو تحسينات أو تحايلات، ولدى الاقتصادات الكبرى المتقدمة، مجالات أوسع للحركة أو المناورة إلى حين، فبوسع الاقتصاد الأمريكي مثلا، وهو أكبر مدين في الدنيا كلها، أن يحاول الطفو استنادا إلى قوة عضلاته المسلحة، وإلى طبع تريليونات الدولارات على المكشوف، وكما حدث بالفعل، بطبع نحو ثلاثة تريليونات دولار، وتوزيعها كإعانات بطالة، أو كحزم إنقاذ للشركات، وبوسع الاتحاد الأوروبي، وكما فعل، الاتفاق على صيغ دعم متبادل لدوله بقيمة تريليون يورو، بينما يبدو العالم العربي في وضع عظيم البؤس، فما من عمل مشترك جرت حتى الدعوة إليه، واقتصاداته التابعة غالبا ليست مؤهلة لأي تعاون أو تكامل، وبعض اقتصاداته التي كانت أغني صارت في محنة ظاهرة، والمحصلة صفرية، وسوف يترك كل اقتصاد لمصيره، اقتصادات الريع البترولي تستنزف مدخراتها، واقتصادات الريع السياحي والملاحي أسيرة لتوابع محنة كورونا، والمعونات البينية معدومة تقريبا، ونزوح العمالة خارج الحدود تتضاءل فرصه وعوائده، وهياكل الحكم الفاسدة والديكتاتورية غالبا على حالها، وهو ما يرشح الوضع العربي لتفاقمات أكبر، ولإمكانية تجدد موجات الثورات الغاضبة في الشوارع، وبميل أكبر إلى عنف تلقائي، يدفع إليه احتدام المظالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مع ضعف فرص النجاة للحكام والمحكومين معا، وبأفدح مما كانت عليه الظروف في موجتي ثورات 2011و2019. والثورات ليست غاية في ذاتها، وإنما أقدار مجتمعات، تدفع إليها ظروف اختناق، تصل فيها مساعي الإصلاح إلى الحائط المسدود، وهذه حال أغلب المجتمعات العربية، ولم تتغير كثيرا بعد موجتي ثورات 2011 و2019، فبعد موجة ثورات 2011، وكانت حوادثها خارقة للتوقعات البليدة، وكانت ميادينها أساطير فرح، وما أن ذهبت مشاهد إحياء الروح، حتى زحفت الأوضاع المعتلة نفسها، التي تثقل القلب، وانفجر طفح اليمين الديني، وطمست ظواهر الإرهاب حقيقة الثورة، وكاد يتحطم الوجود الموضوعي لدول كانت مثل ليبيا وسوريا واليمن، فوق تحطيم العراق، من قبل، بادعاءات كسب الديمقراطية، وكان العراق طرفا في سلسلة ثورات 2019، التي اختفي من ميادينها اليمين الديني والطائفي، وبدت مقاصدها الوطنية والاجتماعية والديمقراطية أكثر وضوحا، وهددت ما كان قائما، واستبدلت رموزا وصورا كما جرى في السودان والجزائر، وإن لم تحقق كامل غاياتها، ثم تعرضت لصدمة جائحة كورونا، التي أغلقت الشوارع دون المتظاهرين، وسريان توقف بدا موقوتا محكوما بظروف استثناء نادر، وبحالات إعلان طوارئ معممة، لن تحول غالبا دون تجدد الغضب، وعودة مظاهراته، وعلى نحو يومئ إليه غضب طافح في لبنان، عادت حوادثه، وستتصاعد في ما نظن، ليس في لبنان وحده، بل في العراق الذي تفاقمت مأساته، وأراد بعضهم إعادته إلى ما قبل نقطة انطلاق انتفاضة أكتوبر 2019، وكأن موجة 2019 كانت مجرد «بروفة جنرال»، قطعت كورونا عليها الطريق لوقت عابر، وقبل أن يبدأ العرض العام مجددا، ربما عبر ما يتبقى من شهور 2020، وفي عام 2021 وما بعده، وفي أقطار من التي شهدت موجة 2011، ومعها الأخرى التي شهدت موجة 2019، وباندفاع جديد، قد تنتهي تداعياته هذه المرة إلى منطقة الخليج، التي بدت أقطارها محصنة من قبل، بل بدا بعضها مستفيدا، ربما مستثمرا في ألعاب «الشطرنج» على رقعة تزوير الثورات والثورات المضادة، وإنفاق الفوائض البترولية لإذكاء حروب التحطيم الذاتي، ومع غيضان الأموال بعد الفيضان، قد تنشغل هذه الأطراف بنفسها أكثر، وببيئة مخاطر اقتصادية واجتماعية داخلية، وبموجات غضب في الأقطار الأعلى بكثافتها السكانية وبوافديها، مع أمل محدود في تغيير سريع جوهري في هياكل الحكم العربية عموما، فنحن بصدد مخاضات قد يطول مداها وتتعاقب دوراتها، ولسبب معلوم في ظننا، هو السبب الموضوعي نفسه الظاهر في سيرة الثورات العربية المعاصرة، والذي لا يلتفت إليه ثوارالألعاب الإلكترونية ومن والاهم، فطوفان الغضب قد يطيح برؤوس، لكنه لا يفكك البنيان الحاكم، ومشاهد الثورة التي تخلع القلب، تحيلنا غالبا إلى مشاهد السياسة المعتلة، والثورات التي تقوم، لا تجد حلفها الثوري الذي يشبهها، ولا حزبها الوطني الاجتماعي الديمقراطي، الذي يقدر على نقلها من صخب الميدان إلى البرلمان ومركز السلطة، وهو نقص يظل يلازمنا حتى إشعار آخر. القدس العربي