فأكمل الخلق صبرًا هم الرسل – عليهم الصلاة والسلام – على وجه العموم؛ لأنهم الذين يقومون أساسًا بالدعوة ويجابهون الأمم بالتغيير، وهم حين يقومون بذلك يكون الواحد منهم فردًا في مواجهة أمة تعانده وتكذِّبه وتعاديه؛ ولهذا أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يصبر صبرهم، ويقتدي بهم، فقال الله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]. فرسل الله عليهم الصلاة والسلام: "أولو عزم ولم يبعث الله رسولًا إلا كان ذا عزم وحزم، ورأي وكمال وعقل، ولفظة "مِن" في قوله من الرسل تبيين لا تبعيض؛ كما يقال: كسيته من الخز، وكأنه قيل: اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم، ووصفهم بالعزم لصبرهم وثباتهم". ولقد صبر الأنبياء عليهم الصلاة السلام على ما أصابهم وعلى ما ابتُلوا به، فكانوا قدوة حسنة يقتدي بهم المؤمنون والصابرون، وأكثر الناس بلاءً أكثرهم فضلًا ونبلًا، ويُبتلى الرجل على قدر دينه، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلاَءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». فمن ظن «أن شدة البلاء هوان بالعبد، فقد ذهب لبُّه وعَمِي قلبُه، فقد ابتلي من الأكابر ما لا يحصى، ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحيى بن زكريا عليهم الصلاة والسلام، وقتل الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم». فالحكمة من ابتلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام "كأيوب ويعقوب ودنيال ويحيى وزكريا وعيسى وإبراهيم ويوسف وغيرهم، وهم خيرته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه… زيادة في مكانتهم ورفعة في درجاتهم، وأسباب لاستخراج حالات الصبر والرضى والشكر والتسليم، والتوكل والتفويض والدعاء والتضرع منهم، وتأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين والشفقة على المسلمين، وتذكرة لغيرهم وموعظة لسواهم؛ ليتأسوا في البلاء بهم، ويتسلوا في المحن بما جرى عليهم، ويقتدوا بهم في الصبر محوًا لهفواتٍ فرطت منهم، أو غفلات سلفت لهم؛ ليلقوا الله طيبين مهذبين، وليكون أجرهم أكمل وثوابهم أوفر وأجزل" . فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام يُبتلون كثيرًا؛ ليمحَّصوا بالبلاء، فإن الله إنما يمكن العبد إذا ابتلاه. فحكمة الله سبحانه تعالى: «فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلِّ الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة». فالابتلاء سنة من سنن الله في خلقه، فيبتلى الله سبحانه وتعالى الناس بالخير والشر، وقوة الابتلاء وضعفه تختلف من شخص إلى آخر، وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة الابتلاء متلازمان، فإن نصيب أصحاب القدوة من الابتلاء أقوى، فأشد الناس بلاءً الأنبياء؛ لأنهم في أعلى الدرجات، وبالابتلاء يتضح مدى صبر العبد ومدى ثقته بفرج الله تعالى، ومدى إيمانه بقضاء الله وقدره. وقد قص الله تعالى في القرآن الكريم أمثلة للصابرين؛ ليكونوا لنا أسوة حسنة نقتدي بهم فنصبر مثل صبرهم. فينبغي على المسلم أن يتأسى بأهل الصبر والعزائم، وبالتأمل في قصص الصابرين، وما لاقوه من ألوان الابتلاء، والشدائد ما يعين على الصبر، ومن نماذج الصابرين من الأنبياء عليهم الصلاة السلام: – 1نبي الله يعقوب عليه السلام: صبر صبرًا لا شكوى فيه، ولا جزع، فصبر على فقد ولده نبي الله يوسف عليه السلام، فقال الله تعالى: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]. وكأن حال نبي الله يعقوب أنه قال سأحرص "على أني أصبر على هذه المحنة صبرًا جميلًا سالِمًا من السخط والتَّشكِّي إلى الخلْق، وأستعين الله على ذلك، لا على حولي وقوتي، فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه، والشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل". وصبر أيضًا على فقد ولده الثاني، فقال الله تعالى:﴿ صَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ [يوسف: 83]. فتجمل نبي الله يعقوب عليه السلام بالصبر أولًا، وبالصبر آخرًا، بعد فراق يوسف عليه السلام، وبعد غياب ابنه الثاني. ولما خاض أهلُ الإفك في قذف أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بما هي بريئة منه، ذكرت صبر نبي الله يعقوب عليه السلام، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ»، قُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَجِدُ مَثَلًا، إِلَّا أَبَا يُوسُفَ: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11]، العَشْرَ الآيَاتِ". فإذا ابتُلِيَ الإنسان بمصيبة أو بنكبة في نفسه أو ماله أو أهله، أو في أي شيء من الأمور، فعليه أن يصبر صبرًا جميلًا، ويقتدي في ذلك بنبي الله يعقوب عليه السلام، فما شكا بثه وحزنه إلى مخلوق، وإنما شكاه إلى الله، تضرَّع في بلواه في حالَيه بصبر جميل. – 2نبي الله أيوب عليه السلام: فقد صبر عليه السلام، وقدَّم نموذجًا يُقتدى به في الصبر على المصائب والمكاره التي يبتلي الله تعالى بها عباده، فصبر عليه السلام على فقْد صحته وماله وأولاده، وما ناله من البلاء؛ قال الله تعالى ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44]. فنبي الله أيوب عليه السلام ابتلاه الله تعالى، فصبر صبرًا جميلًا، وابتلاؤه كان بذهاب ماله وفقد أهله وصحته، ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له، فقد أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره، فأطلق عليه ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ ﴾، بكونه صابرًا، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد". وفي السنة النبوية المطهرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة نبي الله أيوب عليه السلام عبرة للمعتبرين، فإنه صبر صبرًا جميلًا على قضاء الله تعالى وقدره، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَيُّوبَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبِثَ فِي بَلَائِهِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ…». فمن قصة نبي الله أيوب عليه السلام، نتعلم منها أن الابتلاء من سنن الله تعالى في خَلقه، فمن ابتُلي فليس بأول مبتلى، وليس بالآخر، وفي القصة تذكرة لمن ابتلاه الله عز وجل في جسده أو ماله أو ولده، فله الأسوة الحسنة، بنبي الله أيوب عليه السلام، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك، فصبر واحتسب، حتى فرَّج الله عنه، ونتعلم قدر الصبر، وعِظَم أجره، وثواب المتصف به، فهو يُورث رضا الله، ومغفرة الذنوب.