على مدى العقدين الماضيين، برع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وضع نهاية للمواجهات التي خاضها مع الغرب بالطريقة التي يريدها. ففي عام 2008، شن حربا على جورجيا ونجح في فصل إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عنها بأقل الأضرار على روسيا. وبعد ذلك ب 6 أعوام، دعم تمرد الانفصاليين الأوكرانيين في إقليم دونباس وضم شبه جزيرة القرم وفرض اتفاقيات مينسك الأولى والثانية على كييف بأقل الأضرار. أما في المعركة الجديدة التي أطلقها منذ 24 فبراير/شباط الماضي، فبدا أن بوتين عاجز هذه المرة عن صنع النهاية التي يريدها. فهي لم تتحول إلى صراع استنزاف عسكري لروسيا في أوكرانيا فحسب، بل تطورت إلى صدام كبير مع الغرب على إعادة تشكيل قواعد الأمن الأوروبي السائدة منذ نهاية الحرب الباردة. كانت حسابات بوتين خاطئة على أكثر من صعيد؛ فمن جانب، أدى الإخفاق العسكري الروسي بفعل المشاكل اللوجستية الكبيرة وسوء تقدير قوة الجيش الأوكراني إلى تقليص قائمة الأهداف الروسية بالتركيز على شرقي وجنوبيأوكرانيا. ومن جانب آخر، لم يكن الردّ الغربي القوي ضد روسيا عبر العقوبات القاسية والانخراط في تسليح كييف متوقّعا -على ما يبدو- في موسكو قبل اندلاع الصراع. علاوة على ذلك، أفرز الهجوم الروسي نتائج عكسية لبوتين على صعيد المواجهة مع حلف شمال الأطلسي "ناتو" (NATO)؛ فمن جهة، سرّع إعادة الحيوية للتحالف بين ضفتي الأطلسي بعد الأزمة التي مر بها خلال عهد ترامب، ومن جهة أخرى، يخطط الحلف الآن لضم فنلندا والسويد إليه. كما تصدّر الأمن وزيادة الإنفاق العسكري أولويات معظم الدول الأوروبية ودفعتها للتخلي عن الروابط الاقتصادية العميقة مع روسيا التي كانت اتخذتها وسيلة لتكريس سلام ما بعد الحرب الباردة؛ فأوقفت ألمانيا، التي عززت في عهد ميركل إستراتيجية الانفتاح الأوروبي على روسيا، مشروع "نورد ستريم 2" (Nord Stream 2) لنقل الغاز الروسي إليها، في حين يبحث الأوروبيون عن سبل التخلّص من الاعتماد المطلق على الطاقة من روسيا. رغم أن الشكوك حول مستقبل الهيكل الأمني الأوروبي برزت بشكل متصاعد على مدى العقدين الماضيين، فإن الصراع الروسي الأوكراني جعل هذا الهيكل جزءا من الماضي. قبل الحرب الحالية، كانت فكرة الصراع بين الشرق والغرب على إعادة تشكيل النظام الدولي تكتسب زخما إضافيا مع توجه التركيز الأميركي على احتواء الصعود الصيني في آسيا خلال العقد الأخير. وبالتوازي مع تصاعد التنافس الأميركي الصيني بوتيرة متزايدة، فإن الاضطرابات الجيوسياسية الكبيرة في أوروبا الشرقية خلقت مناخا عالميا مستقطبا على نحو كبير. تعمل الولاياتالمتحدة منذ أشهر على حشد العالم الغربي ضد روسيا، وتسعى -في الوقت نفسه- إلى الحفاظ على زخم إستراتيجيتها ضد الصين. لكن الحرب الروسية الأوكرانية خلقت تحديا لها على وجه الخصوص، ووضعتها أمام معضلة الموازنة بين الاستجابة الفعالة لمواجهة التهديد الروسي في أوروبا والحفاظ على التركيز طويل الأجل على الصين. كانت بكينوموسكو مُصنّفتين في الإستراتيجية التي وضعها البنتاغون منذ عام 2018 على أنهما مصدر قلق رئيسي للولايات المتحدة. وفي الإستراتيجية الجديدة، لا تزال الصين مصنفة على أنها خصم إستراتيجي طويل الأمد، بحيث يتم التركيز بدايةً على التنافس الصيني مع الولاياتالمتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ثم على تدخلات روسيا داخل أوروبا. وفي ظل أنه سيكون من المبكر التكهن بكيفية انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن النتائج التي أفرزتها على المشهد الدولي تتضح بشكل أكبر مع مرور الوقت بفعل التحولات الحادة والسريعة التي أحدثتها على السياسات الغربية على أكثر من صعيد. مع انخراط واشنطن بشكل فعال إلى جانب أوروبا في مواجهة التهديد الروسي، فإنها تسعى إلى تصوير الصراع الجيوسياسي مع روسيا في أوروبا والتنافس الجيوسياسي مع الصين في آسيا على أنهما صراع بين الشرق والغرب على القيادة العالمية. لطالما نظرت روسيا -بقيادة فلاديمير بوتين- إلى نظام ما بعد الحرب الباردة على أنه نظام غير عادل يسعى لإبقائها هامشية في السياسات الدولية. وعلى الرغم من أن الصين لا تزال تقف على الحياد نسبيا في الصراع الروسي الأوكراني، فإنها تلتقي مع بوتين في تصور مشترك معاد للتفوق الغربي العالمي. بالنسبة لكثير من الدول الغربية، إن تخلي بكين عن الحياد مسألة وقت ومرهون بنتائج الحرب ويبدو ذلك واقعيا. فالنتيجة لن تحدد مستقبل روسيا بوصفها قوة عالمية فحسب، بل ستؤثر على دور الصين كذلك. إذا استطاع بوتين حسم حربه في أوكرانيا لصالحه والصمود لفترة أطول في وجه العقوبات، فإن ذلك سيُشكل حافزا لبكين للتخلي عن حيادها والانخراط في دعم روسيا وكسر عزلتها الاقتصادية. يعتقد الغربيون أن فوز بوتين في الحرب وفشل سياسة الاحتواء الغربية لروسيا سيُشجعان الصين على غزو تايوان والانخراط بشكل أكبر مع روسيا وأطراف أخرى لإضعاف هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي. لذلك، فإن معركة بوتين في أوكرانيا تعد معركة للصين أيضا لإذلال الغرب، وفرصة لخلق نظام عالمي جديد تسوده قواعد مختلفة عن تلك التي كرّسها الغرب بعد الحرب الباردة. على الرغم من أن سلاح العقوبات ضد روسيا شكل فرصة للغرب لاستعراض سطوته على الاقتصاد العالمي وأن الدولار الأميركي لا يزال يدير هذا الاقتصاد، فإن الغرب يعاني من أزمة عميقة؛ إذ إن شبح الركود يهدد معظم الاقتصادات الغربية بفعل التضخم الجامح والاضطرابات في أسواق الطاقة العالمية وتداعيات جائحة كورونا. كما أن السياسات الداخلية الغربية باتت مستقطبة على نحو كبير؛ ففي الولاياتالمتحدة على سبيل المثال، يتصاعد التطرف السياسي على جبهتي اليمين واليسار، مما ينذر بتحولات كبيرة في المشهد الأميركي. كما تزداد شعبية مفاهيم كانت تعد محظورة حتى الآن، مثل الاشتراكية التي ما زال العديد من الأميركيين يرون فيها طيف الحرب الباردة. وفي أوروبا، تتصاعد الأحزاب اليمنية المتطرفة بشكل مخيف. على العكس من ذلك، لا يوجد مثل هذا الاستقطاب في روسياوالصين ويبدو ذلك مفهوما بالنظر إلى سطوة الدولة في البلدين على كل نواحي الحياة من السياسة إلى الأمن والاقتصاد وغيرها. كما أن قوة الاقتصاد الصيني تساعده في تجنب تداعيات أي عزلة غربية قد تفرض عليه على غرار العزلة التي تواجهها روسيا. وعلى مستوى القوة العسكرية، تعمل بكين منذ سنوات على تحديث ترسانتها العسكرية بشكل كبير. رغم الوحدة التي أظهرها الغرب حتى الآن في مواجهة روسيا، فإن الاضطرابات التي تعصف بالاقتصادات الأوروبية ستسهم في صعود الأصوات المطالبة بإنهاء هذا الصراع بأي ثمن. الولاياتالمتحدة من جانبها تُحاول التكيف مع الوضع الجديد، لكنها تواجه معضلة إقناع دول كثيرة من العالم بالانضمام إلى معركة الغرب في الحفاظ على قواعد النظام العالمي الحالي، وكانت جولة الرئيس بايدن الأخيرة في جنوب آسيا خير مثال على ذلك؛ إذ لم يستطع إقناع الهند بالتخلي عن علاقتها الوثيقة مع روسيا. وفي أجزاء أخرى من العالم، تبدو الكثير من الدول راغبة في عزل نفسها عن هذا الصراع، إما لأن البعض منها أقام علاقات وثيقة مع روسياوالصين، أو لأن البعض الآخر لم يعد يثق بالشراكة مع الغرب. منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تصاعد الحديث عن مخاطر حرب عالمية ثالثة. اللحظة العالمية الراهنة تشبه إلى حد كبير حقبة الحرب الباردة؛ فمن جانب، تسعى واشنطن إلى حشد الديمقراطيات العالمية لمواجهة المحور الصيني الروسي. ومن جانب آخر، تعود مخاطر الحرب النووية لتصبح مركزية، فضلا عن ظهور كتلة كبيرة من الدول المحايدة في الصراع على غرار كتلة "عدم الانحياز". في حين أن أوروبا، على سبيل المثال، تتعاطى مع الصراع الراهن على أنه أعاد بالفعل إحياء حقبة الحرب الباردة من حيث التهديدات الروسية المتصورة وسياسات الإنفاق العسكري، إلا أن الولاياتالمتحدة لا تزال ترى في الصين وليس روسيا أخطر منافس جيوسياسي لها في العالم. مع ذلك، تسعى إدارة بايدن إلى إحداث تحول عميق في البيئة الأمنية الأوروبية من خلال إعادة إحياء حلف الناتو وتوسيعه ودفع الأوروبيين إلى تحمل العبء الأمني الأكبر في الصراع الراهن، على عكس فترة الحرب الباردة. كما تعمل على تشكيل تكتلات بين حلفائها في مناطق أخرى كالشرق الأوسط، لملء الفراغ الناجم عن تقليص الولاياتالمتحدة لالتزاماتها الأمنية ومواجهة مساعي روسياوالصين إلى تعزيز حضورهما في هذه المنطقة. في فترة الحرب الباردة، نجح الغرب في تحييد الصين عن الاتحاد السوفياتي، لكن بكين اليوم تنظر إلى التركيز الغربي على روسيا على أنه فرصة لها لتعزيز قدراتها العسكرية والاقتصادية. لقد أبلى الغرب بلاء حسنا حتى الآن في إظهار الوحدة، لكن استمرار هذه الوحدة غير مضمون وسيصبح مثار شكوك بمرور الوقت، ويراهن بوتين على ذلك بالفعل لكسب المعركة. لم تعد حرب أوكرانيا صراعا روسيا غربيا على هوية هذا البلد فحسب، بل عززت صراع القوى العظمى على إعادة تشكيل النظام الدولي. إن هذا الصراع يأتي في ظل تحديات عالمية غير مسبوقة: على صعيد انخراط القوى العظمى في صراع غير مقيد بقواعد تحافظ على الأمن العالمي وتمنع عودة سباق التسلح النووي، أو على صعيد مخاطر الحد من التعاون بين القوى الدولية لمواجهة التحول المناخي وانتشار الأوبئة، فضلا عن مخاطر تزايد الاضطرابات الاقتصادية العالمية بفعل التنافس الجيوسياسي العالمي الحاد. سيكون من الحكمة الإقرار بأن القواعد العالمية التي سادت لعقود لم تعد قادرة على إدارة الوضع العالمي بعد الآن؛ ليس لأنها لم تحدث توازنا بين الشرق والغرب فحسب، بل لأن الصراع على جدوى بقائها من عدمه سيزيد من مخاطر الفوضى الجيوسياسية العالمية وسيجعل دولا كثيرة أخرى من هذا العالم -لا سيما الفقيرة منها- تعاني بشكل أكبر من التبعات الأمنية والاقتصادية لهذا التنافس ومن تداعيات تراجع التعاون العالمي على مستوى مكافحة تغير المناخ وسياسات الطاقة وانعدام الأمن الغذائي. الجزيرة نت