بدأت الصلات بين روسيا والعالم الإسلامي منذ عهد مبكر، إذ تبادل الخلفاء العباسيون السفارات مع روسيا، ولمّا ضمت روسيا إليها بعض المناطق ذات الغالبية السكانية المسلمة ازداد الاهتمام بدراسات الإسلام، وبعد قبول المسيحية ديناً في روسيا سنة 988، ترسخت علاقات روسيا بالشرق بشكل أقوى. في كتابه "الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي" -الصادر عام 2022 عن مؤسسة وعي للدراسات والأبحاث في الدوحة- يتناول الأكاديمي السوري محمود الحمزة بشكل موسع وشامل دراسات من تاريخ الاستشراق والاستعراب العلمي في روسيا، كما كرَّس هذا الكتاب للحديث عن تاريخ الاستشراق الروسي على مدى أكثر من 300 سنة. ويتعقّب المؤلف العلاقات الروحية بين روسيا والمشرق العربي الإسلامي والمسيحي خلال ألف سنة. ويُعدّ "الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي" جزءا من مشروع علمي كبير عمل عليه الحمزة لأكثر من 20 عاما في مجال تاريخ الاستشراق الروسي وتاريخ دراسة العلوم العربية. يذكر المؤلف أنَّ الإسلام دخل إلى روسيا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (23 ه) -بداية من القرن السابع الميلادي- من خلال مدينة "باب الأبواب" (دَرْبَند) في داغستان. وبدأ اهتمام الروس بتاريخ العرب وثقافتهم من بداية الرحلات التجارية والبعثات الدينية الأرثوذكسية إلى الأماكن المقدسة في فلسطين، والتي كانت تتم بين تجار المشرق العربي -وتحديداً تجار بغداد- وتجار شعوب آسيا لتمتد إلى السوق الكييفية الروسية. ويرى المستشرق الروسي ب.م. دانتسيغ (1896-1973) أنَّ بعض المصطلحات الطبية والكيميائية والفلكية والأدبية ذات الأصل العربي، دخلت إلى اللغة الروسية في أواخر القرن الثامن عشر، عن طريق المستشرقين الغربيين والأدباء والسوّاح. كما كتب المؤرخ والجغرافي العربي ابن خُرْداذَبَهْ (ت: 280ه)، "كان الروس من قبيلة السلافيين يقومون ببيع فرو السمور والثعالب السوداء على شواطئ البحر المتوسط". ويبيّن الكاتب أنه تم اكتشاف مجموعات كبيرة من القطع المعدنية العربية التي تعود إلى القرنين الثامن والتاسع، في مناطق مختلفة من روسيا، تؤكد وجود صلات قديمة بين الروس والعرب. ..الاستشراق الروسي.. من قازان إلى بطرسبورغ ويواصل المؤلف سرد تفاصيل بدايات الاستشراق الروسي، ويقول: في عام 1716، أمر الإمبراطور بطرس الأول (1672-1725) بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الروسية في بطرسبورغ من قبل بطرس بوسنيكوف، الذي أنجز الترجمة من نسخة فرنسية وضعها عام 1674 الفرنسي أندريه دي ريير (توفي 1672)، وبعدها صدرت أول ترجمة روسية لكتاب "ألف ليلة وليلة". كما استحدثت جامعة خاركوف عام 1804 كرسيا لتدريس اللغات الشرقية، وبدأت جامعة قازان عام 1811 تدريس الدراسات العربية. وكانت بدايات الاستشراق الروسي في قازان عاصمة الاستشراق في البلاد، قبل أن تتحول إلى بطرسبورغ بحسب المؤلف. …تأثيرات شرقية.. رحَّالة ومستشرقون يذكر المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي (1883-1951) في كتابه نبذات من تاريخ الاستعراب الروسي أنَّ التقاليد العلمية في مجال الاستعراب الروسي تبلورت في بداية القرن التاسع عشر، وكانت هناك بوادر للتعرف على الثقافة العربية في روسيا الكييفية (نسبة لمدينة كييف عاصمة أوكرانيا المعاصرة) وروسياالموسكوفية (نسبة إلى موسكو). ويشرح الدكتور منتصر الحمد، الأكاديمي في جامعة قطر، قائلا "بدأت مرحلة المأسسة العلمية للمستشرقين الروس في بدايات القرن التاسع عشر واستمرت على ذلك النهج، ويصرّ الكثير منهم -خاصة بعد كراتشوفسكي- على إطلاق مدرسة الاستعراب على دراساتهم، باعتبارهم جزءًا من الشرق لا ينفصل عنه تاريخيًّا أو دينيًّا أو تراثيًّا أو جغرافيًا". ويشير مؤلف كتاب "الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي" إلى أَنَّ رحلة المستكشف والجغرافي والدبلوماسي أحمد بن فضلان (877-960) إلى إمارة البُلغار على ضفاف الفولغا في القرن العاشر للميلاد، كان لها تأثير متبادل على الروس والعرب، كما اشتهر في بداية القرن الثاني عشر للميلاد في كييف الطبيب بطرس السرياني، الذي مثّل المدرسة السريانية العربية المكتوبة باللغتين العربية والسريانية. ويعتقد كراتشكوفسكي أنَّ بعض الكلمات العربية انتقلت إلى روسيا بفضل التتار في القرن الثالث عشر للميلاد، وكذلك بفضل القازانيين والبخاريين (نسبة لمدينتي قازان وبخارى) خلال عملياتهم التجارية. ويوضح المؤلف أنه مع بداية القرن السابع عشر، اكتسبت المكتبة الروسية روائع أدبية تُرجمت عن العربية من أصول هندية، مثل قصة "كليلة ودمنة" وقصة "حكمة أحيقار" الأشورية التي تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، وموطن القصة هو بلاد ما بين النهرين. وعن استفادة العرب من الاستشراق الروسي، يُبيّنُ الباحث السعودي الدكتور ماجد بن عبد العزيز التركي رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية الروسية، قائلا "استفاد العرب من خدمة الباحثين الروس للغة العربية، ونحن في المملكة العربية السعودية اعتمدنا كثيرا على مصادر الاستعراب الروسي". ..آراء سلبية ويلفت محمود الحمزة إلى أن هناك كتابات سمحت بها روسيا مناهضة للإسلام في القرن السادس عشر، ولعلّ أهم تلك الكتابات دراسة الكاتب الإيطالي ريكادلوس دي مونتيه كروتسييس، وكتابات البولوني الكاثوليكي النزعة مارتين بالسكي التي ترجمت إلى الروسية بين أعوام (1578-1580)، وكتابات بيوتر الفونس وغيرها التي أعطت صورة منحازة للغرب بشان الصراع الذي كان يدور بين ممثلي الكنيسة الشرقية وحكام تركيا ومصر، وشوهت النظرة الحقيقية للعقلية العربية الإسلامية. وبصدد ذلك، يقول الكاتب "في الاتحاد السوفياتي كانت فكرة محاربة الأديان هي السائدة". ويوضح محمود الحمزة في -حديثه للجزيرة نت- أنه "في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، كان هناك اهتمام روسي بالعالم الإسلامي، وعلى الرغم من ذلك كانت هناك مضايقات للمسلمين ومنع بناء للمساجد وهو ما يعتبره المسلمون (الروس) نوعا من التضييق على الحريات الدينية". ويقول المؤلف في كتابه إن بيئة الاستعراب الروسي شهدت -بين الحين والآخر- مواقف معادية للإسلام، مثل موقف "رئيس جامعة قازان الذي طرح بعض الآراء السلبية تجاه الثقافة العربية والإسلامية". وحول وجود تيار متطرف في روسيا ضمن حقل الاستشراق الروسي، يجيب الدكتور ماجد التركي -للجزيرة نت- قائلا "أثناء فترة الاتحاد السوفياتي السابق: نعم، أَمَّا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي فهذا الأمر غير ظاهر، حيث أصبحت هناك نشاطات الباحثين الروس فردية". ..نوايا وأدلة يؤكد محمود الحمزة أنَّ الثقافة العربية لم تصل إلى روسيا مباشرة من العالَم العربي، بل مرت في البداية عبر المصفاة الأوروبية الغربية، فجاء معظمها مشوها بعيدا عن الموضوعية العلمية. ويعلق الدكتور منتصر الحمد: "وإن كان علماء الاستعراب يحرصون على المنهجية والتجرد والعلمية، فإنَّ بعضهم قد يخضع لعوارض الهوى والإيغال في الخصومة". ويُبيّنُ المؤلف أنَّ هناك بعض الدراسات الأوروبية (الألمانية والفرنسية) واليونانية ومن بيزنطة نُقلت للروسية وتأثر بها البعض، حيث أرادت روسيا الاستعانة بوجهة النظر الأوروبية الغربية عن الإسلام، لترتكز على مستندات فكرية توظفها الأرثوذكسية المسيحية الفكرية الروسية ضد "الدوغمائية الإسلامية التترية". ويشير محمود الحمزة إلى أنَّ من جملة الخطوات التي قامت بها الإمبراطورة كاتيرينا الثانية (1729-1796) في برنامجها الدعائي: توكيلها الأكاديميين في كل من بطرسبورغ وقازان بإعادة طبع القرآن الكريم، وتوزيعه بكميات كبيرة بين مسلمي روسيا القيصرية في آسيا الوسطى. ويرى الأكاديمي بجامعة قطر منتصر الحمد، في حديثه للجزيرة نت، "أنَّ الدولة باعتبارها الكيان الحاضن للفكر والثقافة، والمموّل لمدارسه التنويرية والفلسفية والأكاديميات التي تقوم على مأسسته، هي الموجّه الرئيس لحركة الاستشراق أو الاستعراب". ..تقاليد علمية جديدة وتحكي صفحات كتاب "الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي"، أنَّ الاستعراب الروسي ما لبث أن أخذ بتكوين نفسه معتمدا على المصادر الشرقية والإسلامية مباشرة. ويوضح المؤلف -للجزيرة نت- "كانت توجهات المستعربين في المدرسة الاستعرابية في القوقاز مختلفة، إذ كانوا يدرسون قضايا إسلامية مثل الفقه وتاريخ الإسلام وتاريخ الخلافة الإسلامية". وأضاف "نجد في معهد الدراسات الشرقية تشجيع الروس -بما فيهم اليهود- على دراسة الاستعراب، بحيث أصبحت نسبة المستعربين الروس كبيرة على حساب المستعربين المسلمين، وهذا ليس بصدفة". ويشير الكاتب إلى أنَّ البروفيسور بيرنديت عَمِلَ على إرساء تقاليد علمية جديدة في تعليم اللغات الشرقية، جاء بعده المستشرق الألماني رامل (1771-1859) الذي كان معجباً باللغة العربية، ووصفها بأنها "لغة رائعة وغنية جدا". وكان وجوده في روسيا محض صدفة أثناء هجوم نابليون على ألمانيا، حيث تعاقدت معه جامعة خاركوف وبدأ العمل فيها (1811-1814)، وترك مجموعة من الآثار العلمية منها: "تأملات عن العرب". أَمَّا في موسكو، فقد نشط البروفيسور الروسي بولديريف (1780-1842) الذي تتلمذ على أيدي مستشرقين ألمان وفرنسيين، أمثال المستشرق الفرنسي سلفستر دو ساسي (1758-1838)، حيث قام بولديريف بعد ذلك بتدريس اللغة العربية في جامعة موسكو، وأصبح كتابه "تعليم اللغة العربية" مرجعا أساسيا في جامعة موسكو لمدة 40 عاما. ..عشق الشرق والروح الشرقية يقول الكاتب إن الثقافة العربية والإسلامية انتشرت في روسيا بفضل العلماء العرب، الذين قدموا إلى روسيا منذ القرن التاسع عشر، وساهموا في نشر اللغة العربية، ويذكر منهم: الشيخ المصري محمد عياد الطنطاوي (عمل في بطرسبورغ في القرن التاسع عشر)، وأحمد حسين المكي (من مكةالمكرمة وعمل في قازان منذ 1852)، والسوريين ميخائيل عطايا وجرجس إبراهيم مرقص (في موسكو في القرن التاسع عشر)، والفلسطينيين بندلي صليبا جوزي وكلثوم عودة فاسيليفا، وميخائيل نعيمة، وعبد الله قلزي، وفضل الله صروف، وأنطوان خشّاب، وتوفيق جبران قزما. كما احتوت المكتبات الكبرى في قازان وبطرسبورغ وموسكو وداغستان وبخارى مئات الآلاف من المخطوطات العربية، ومنها ما هو نادر. ونتيجة لذلك، تأثر عدد من الروّاد الروس بالثقافة العربية، فالكاتب الروسي مكسيم غوركي (1868-1936) يعلن مفاخرا عن تأثره بالثقافة العربية، ومن قبلهِ الكاتب الروسي صاحب رواية "الحرب والسلام" ليو تولستوي (1828-1910) الذي غرق في عشق الشرق، وأعجب بالقرآن الكريم الذي قرأه جيدا، وكان "تولستوي يكنُّ احتراماً عميقاً للقيم السامية التي دعا إليها الإسلام، ويشيد بشخصية الرسول العربي صلى الله عليه وسلم". وذهب نحو ما ذهب إليه تولستوي أدباء وشعراء روس مشهورون، أمثال الشاعر ألكسندر بوشكين (1799-1838) الذي تأثر بالقرآن وبلاغته، وتأثر أيضاً بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما تأثر بالأدب الشعبي العربي، وكتب متأثرا بالشرق وآدابه وفنونه كتابات شِعرية كثيرة. ..في خدمة السياسة تحكي صفحات كتاب "الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي" كيف حاول الروس إخضاع الاستعراب الروسي للتوجهات السياسية والأيديولوجية، وذلك من خلال ربط الاستشراق بالماركسية، كما أنَّ السلطات الستالينية زجت عددا من المستشرقين في السجون، وحاربوا المستشرق إغناطيوس كراتشكوفسكي الذي تعرض لضغوط هائلة حتى توفي. ويعلق الدكتور محمود الحمزة على ذلك، بقوله "كانت السلطات الروسية تكلف المستشرقين الرَّحالة الذين يذهبون إلى الشرق والدبلوماسيين والتجار بكتابة تقارير عن مشاهداتهم، ومن خلال ذلك كان الاتحاد السوفياتي يستعمر الدول فكرياً وأيديولوجياً في المشرق العربي والإسلامي". بينما يرى الباحث ماجد التركي "أنَّ ارتباط المستشرقين والمستعربين الروس بالدوائر السياسية والاستخباراتية الروسية أمر طبيعي ومؤكد". ويستدرك التركي -أثناء حديثه للجزيرة نت- "إلاّ أنَّ الباحثين الروس بعد عام 1990، أصبحوا بدرجة أساسية مستقلين. أُلاحظ ذلك في كتاباتهم وتحليلاتهم المتناقضة مع التوجه الرسمي للسياسة الروسية، أضف لذلك افتقارهم للتمويل لأنَّ الحكومة الروسية تخلت عنهم، لذلك دخل الاستعراب الروسي في مرحلة الشيخوخة".