عُقد في جوهانسبرغ بتاريخ 10 ماي وعلى مدار 3 أيام مؤتمر دولي بعنوان "المؤتمر العالمي ضد الفصل العنصري في فلسطين"، شارك فيه المئات من النشطاء والمناضلين الأمميين، ومجموعات الضغط الدولية ومؤسَّسات المجتمع المدني؛ بهدف التأسيس لحركة عالمية ضد الفصل العنصري في فلسطين، استنادًا للتجرِبة الطويلة والناجحة لجنوب أفريقيا في النضال ضد نظام الفصل العنصريّ. عَقدُ هذا المؤتمر ليس خطوة عادية أو شكلية، لا سيما من حيث المكان أو التوقيت أو الأفق. فجنوب أفريقيا دولة تتمتع بسلطة أخلاقية على المستوى العالميّ، وعندما يكون الحديث حول النضال ضد الفصل العنصري، فهم أصحاب خبرة طويلة وناجحة في مثل هذه المعارك، وكل من يزور هذا البلد العظيم يشعر كم هم مفعمون بالنضال من أجل فلسطين، وكم يشعرون بالالتزام السياسيّ والأخلاقي للانخراط في هذه المعركة العادلة من أجل الحرية والاستقلال الفلسطينيّ، وهذا ما تلمسه لدى كل الجنوب أفريقيين بغض النظر عن لونهم أو دينهم أو توجّههم السياسي. ..أمُّ الجرائم وفي كل لقاء أو فعالية ما زالوا يرفعون الشعار الخالد للقائد التاريخيّ لنضال جنوب أفريقيا "نيلسون مانديلا: "حرية الجنوب أفريقيين لن تكتمل حتى تتحقق الحرية للفلسطينيين"، ولذلك لم تتردّد جنوب أفريقيا منذ السابع من أكتوبر في الإعلان عن موقف صريح في دعم حقوق الشعب الفلسطينيّ، وفي مقدمتها حقّه في المقاومة بكافة أشكالها، بل اتخذت العديد من الخطوات العملية لتعزيز ذلك، ولعلّ أهمها الذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي لإثبات تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزة، وهذا ما أكّدته المحكمة، وإن لم تأخذ الإجراء المتوقّع لوقف هذه الجريمة، لكن ولأوّل مرّة يقف هذا الكيان الفاشي أمام العدالة، مُتهَمًا بأمّ الجرائم: "الإبادة الجماعية"، وأهمية ذلك أنها التهمة التي يستند إليها بشكل رئيس في تبرير وجوده. وها هي اليوم تنطلق في خطوة إستراتيجية جديدة لمحاصرة هذا الكيان الفاشي وعزله وملاحقته وصولًا إلى تفكيكه، من خلال "الحركة العالمية لمناهضة الفصل العنصري"، والتي يتوقع أن تتحول إلى مظلة عالمية تجمع وتنسق وتعمل على توحيد الجهود الدولية في هذا المضمار. ومنذ نشأة الكيان وهناك حراكات دولية لمناهضة الكيان الصهيوني، ولم تتوقف للحظة وشملت قارات الأرض الخمسة، ولكنها لم تستطع تحقيقَ هدفها الأساس بعزل الكيان وتفكيكه، وإن كانت لعبت دورًا جوهريًا في إبقاء الضمير البشري حيًا تجاه العدوان المستمر على شعبنا وما يرتكب بحقه من جرائم، ولكننا اليوم وبعد السابع من أكتوبر المجيد، وما تلاه من مشاهد البطولة والصمود من ناحية، والكارثة الكبرى التي حلَّت بشعبنا؛ بسبب الإبادة الجماعية على يد الجيش الصهيونيّ من ناحية أخرى، اكتسبت هذه الحراكات زخمًا غير مسبوق، حتى إننا لا نبالغ إذا قلنا؛ إن "طوفان الأقصى" المبارك تبعه "طوفان بشري" عالمي لم نشهده في أيّ من مراحل الصراع ولا حتى في صراعات أخرى. والأهمّ أنه "طوفانٌ بشري" متصاعد ومستمرّ، وفي كل مناحي الكرة الأرضيّة، وبكل اللغات حتى لغة الصمّ، كما شاهدنا في أستراليا مؤخرًا. طوفانٌ يقوده الشباب الحرّ المتنور والنخبوي، والذي اكتشف أنه خضع لعملية تضليل ممنهجة لعقود لصالح روايات وأساطير الكيان وحلفائه، وأنه باسمه وبالنيابة عنه وبأمواله ترتكب كل هذه الأهوال والفظاعات، ولذلك اعتبر معركة غزة أنّها ليست معركة الفلسطينيين فقط، بل هي أيضًا معركته هو ضدّ عدو مشترك: قوى الاستكبار والظلم العالمي، ومعركة الجميع من أجل الحرية والكرامة والعدالة. إذًا تأتي هذه الخطوة في لحظة تاريخيّة مهمة، أبدع الجنوب أفريقيين في اختيارها، ويتوقع أن تجد صداها في كل أركان المعمورة. ..ثنائية متداخلة ومترابطة قد يتساءل البعض ما قيمة مثل هذه الخطوات في ظلّ منظومة دولية فاسدة وظالمة ومحكومة بقوى من الصعب إن لم يكن من المستحيل هزيمتها؟ وللإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ أن نتذكّر تجارب كل الشعوب التي سبقتنا في فيتنام والجزائر، وهنا في جنوب أفريقيا، حيث مرّوا بظروف مشابهة جدًا وتعرّضوا لنفس الوحشية والقهر الشديد، وفي لحظات أصاب البعضَ اليأسُ من إمكانية هزيمة قوى الاستبداد والقهر، وخاصّة في ظلّ الأثمان الكبيرة جدًا على الطريق، ولكن في النهاية بالصبر والصمود والثبات بلغوا غايتهم بالحرية والاستقلال. البعض قد يتساءل عن قيمة مثل هذه الخطوات في ظل معادلات دولية محكومة من قبل الصهاينة وحلفائهم؟ لذلك وجب التذكير بأنّ الكيان يقوم ويستمرّ في البقاء اعتمادًا على ثنائية متداخلة ومترابطة، وبدونها لا يمكن لهذا الكيان أن يستمر في البقاء. الأولى: هي قدراته العسكرية والأمنية والاقتصادية، وهذه منوط بشعبنا ومقاومته الباسلة التصدي لها وتحطيمها، وهذا ما بدأ بشكل إبداعي ومؤثر في السابع من أكتوبر، مبنيًا على نضالات شعبنا الطويلة منذ النكبة. أما الثانية: فهي أن هذا الكيان هو صنيعة المجتمع الدولي، وكُتبت شهادة ميلاده في الأممالمتحدة. وهذا الكيان يمثل لحظة تقاطع استثنائية بين قوى الاستعمار الكولونيالي في الغرب، والحركة الصهيونية بدايات القرن الماضي. فالقوى الاستعمارية، التي رفضت التعاطي مع الحركة الصهيونية ردحًا من الزمن، وجدت أنها أمام فرصة لزراعة كيان غريب في جسد المنطقة، يخدم مصالحها الإستراتيجية إذا اضطرت للمغادرة، وفي نفس الوقت التخلص من اليهود والتكفير عن خطيئتها. أما الحركة الصهيونية فتحقق هدفها بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ولذلك "الموقف الدولي" الداعم للكيان، هو في إطار اعتبار هذا الكيان ممثلًا وحارسًا لمصالح الغرب الاستعماري في المنطقة، وعليه فإن هذا الدعم يتجاوز حدود التعاطف أو التضامن السياسي أو الديني، ليصل إلى المستوى الذي يمثله الكيان كقاعدة متقدّمة للغرب الاستعماري. وهذا ما رصده الجميع في ردّة الفعل لهذه القوى يوم السابع من أكتوبر المجيد، حيث حرّكوا أساطيلهم وحشدوا قواتهم واستنفروا أدواتهم السياسية والإعلامية؛ لحماية هذا الكيان وإقالته من عثرته، ولكن دون جدوى، فقد وقع الضرر الإستراتيجي، وتكشّفت أوراق هذا التحالف الخبيث، وانطلقت حركة شعبية عالمية مناهضة لهذا الكيان، وخاصة في محاضنه الأساسية. ..مظلة عالمية وهنا يأتي دور هذه الحركة العالمية التي أعلن عن انطلاقها في مؤتمر جوهانسبرغ، والتي يتوقع أن تتحول إلى مظلة عالمية لكل حالة التضامن الدولي، تحشد وتنسق وتنظم كل ذلك؛ بهدف عزل الاحتلال وملاحقته في كل المحافل، وعلى كل المستويات على طريق تفكيكه وردّ البضاعة لأصحابها. هذا النضال العالمي يجب أن يتحرك جنبًا إلى جنب مع كل أشكال النضال الفلسطيني، حتى يتحوّلَ هذا الكيان عبئًا على مَن صنعوه ويضطروا إلى تفكيكه؛ حرصًا على مصالحهم الإستراتيجية. هل يتناقض هذا النضال العالمي مع المقاومة بكل أشكالها، وفي مقدمتها المقاومة المسلحة؟ بالتأكيد لا؛ لأن كل قصص النجاح للشعوب في مناهضة الاستعمار والعنصرية دمجت بين كل هذه الأشكال في إطار رؤية إستراتيجية واحدة يعزز بعضها بعضًا، وهنا من الجدير ذكره أن من أكثر ما سمعنا في المؤتمر من الجنوب أفريقيين أن نضالهم ضد نظام الفصل العنصري ارتكزَ على أربع أدوات أساسية: المقاومة الشعبية، والتنظيم السري، والمقاومة المسلحة، والتضامن الدولي، وكلها سارت جنبًا إلى جنب في تناسق وانسجام كاملين، وعزّزت إحداها الأخرى. وأعتقد أننا كفلسطينيين بحاجة ماسّة لاقتناص هذه الفرصة الإستراتيجية التي قدّمها لنا "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول المجيد؛ لإعادة ترتيب أوراقنا وإرجاعها إلى سيرتها الأولى عندما تحرّكت كل أدواتنا النضالية في بداية انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وفي القلب منها المقاومة المسلحة، جنبًا إلى جنب بانسجام وتكامل ضمن رؤية إستراتيجية واضحة، وأداء قيادي وطني شامل وواعٍ بكل أبعاد المعركة وضروراتها. للأسف الشديد فإنّ نضالنا الوطني أصيب بضربة قاصمة أفقدته توازنَه، عندما تم توقيع اتفاقية "أوسلو" المشؤومة، حيث أُسقطت معظم أدواتنا النضالية الإستراتيجية لصالح أداة تكتيكية واحدة، وهي: "المفاوضات"، وحتى تتعمّق الكارثة، فعندما حصل الانتقال القيادي الإجباري بداية القرن تعمّقت الأزمة أكثر، حيث تمّ بشكل منهجي محاصرة كل الأدوات الأخرى وقمعها وملاحقة كل من يحاول إحياءها، فكانت الكارثة الوطنية التي نحياها اليوم، والتي أسَّست لكل الخطط الصهيونية لشطب القضية الفلسطينية، بل ومكّنتها. ..خطوة على الطريق السابع من أكتوبر المجيد، أعلن انتهاء هذه المرحلة البائسة من تاريخ شعبنا، وفتح الأبواب واسعة؛ لإعادة ترتيب الصفوف من جديد، وتفعيل كل أدواتنا النضالية بزخم ثوري معمّد بدماء آلاف الشهداء والجرحى، ومستندًا إلى هزيمة إستراتيجية لحقت بالعدوّ الصهيوني، بغض النظر عن مآلات هذه الجولة. ختامًا؛ مؤتمر جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا، وإطلاق الحركة العالمية لمناهضة الفصل العنصري، خطوة كبيرة على طريق حشد الطاقات العالمية في مساندة نضال شعبنا الفلسطيني؛ من أجل الحرية والاستقلال، ولكن هذه الخطوة تعتمد كثيرًا على وحدة الموقف الفلسطيني، وإفساح المجال لهذه الطاقات والمبادرات العالمية للمشاركة في هذه المعركة الأقدس للقضية الأعدل، لا سيما أن الكثيرين حول العالم يعتبرونها معركتهم الوطنية؛ باعتبار العدو المشترك. ولذلك علينا كفلسطينيين أن نكون أوّل من يحتضن هذه المبادرة ويدعمها ويجنّبها أيّ تجاذبات، ويعفيها من أي حسابات أو تبعات شخصية أو فصائلية، فإن أوضاعنا الداخلية الفلسطينية المؤسفة ألقت بظلالها السلبية على الحراكات الدولية التضامنية وأضعفتها، بل في أحايين كثيرة أجهضتها. انطلاقُ قطار النضال الدولي من أجل فلسطين من جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا في محطته الأولى، هو بُشرى خير بكلّ ما تحمله هذه البلد من رمزية وسلطة أخلاقية في هذه المساحة بالذات.. سيصلُ القطار إلى محطته النهائية، وسنحتفل بتفكيك نظام الفصل العنصريّ، كما احتفلت جنوب أفريقيا، وقريبًا بإذن الله.