القدس العربي لم تكن بداية الألفية الجديدة إلا نتاجا طبيعيّا لمقدّمات قرن قيامي كالح، لا يُلبث القارئ أن يكتشف هذا المناخ من اليأس والاغتراب حينا، ومن السوداوية والشعور بالعبث واللاجدوى حينا آخر، في نصوص كَوْكبةٍ من الشعراء أتوا إلى هذا العالم ابتداء من أواسط الستينيات فصاعدا، ووقفوا على صور فجائعه وسحب سمائه الملبّدة بالشك والرماد. مع هذه الكوكبة التي توزّعت بين ألفيّتين، ويستعصي أن نجمع أفرادها داخل جيلٍ أو نحجرهم على تصنيف عقدي كما كان جاريا من قبل، تفجّرت ما بات يُصطلح عليه ب(التجربة الشعرية الجديدة)، بسبب ما خلقته من جماليّاتٍ كتابيّة مغايرة، عكست فهما جديدا لآليّات تدبُّر الكيان الشعري، مما يمكن للمُهتمّ أن يتتبعه في دواوين شعرائها، التي شرعت في الظهور منذ أواخر التسعينيّات. بالفعل، بدا لكثيرين أن الأمر يتعلق بصعود كتاباتٍ مختلفة ونوعية لها زمنها الخاصّ وحساسيّتها الخاصة. ..مآزق وتمثيلات لم يسلم مصطلح الحساسية من لبْسٍ واختلاطٍ شديدين، إذ نجده يرد بمعانٍ كثيرة؛ وإذا كان في حقل الطبّ والفيزيولوجيا يبدو متعيّنا وقابلا للتحليل؛ إذ هي ردّ فعل غير طبيعي للجهاز المناعي في الجسم، أو تعرف عموما بأنها تفاعل الجسم أو أحد أعضائه لمؤثر خارجي تفاعلا غير طبيعي تنتج عنه مجموعة من الأعراض والعلامات، إلا أنَّه يلتبس في علوم ومعارف أخرى مثل الفلسفة والإثنولوجيا وعلم النفس وتاريخ الأدب، فتتولّد من سياقاتها تأويلاتٍ تأخذ القارئ إلى دلالات وأبعاد متنوّعة. فعلى سبيل المثال، ربطت فلسفة الفن الألمانية، بتأثير من بومجارتن تحديدا، بين التفكير في الفن والبحث في الحساسية، فيما أدخل كانط مفهوم الحساسية إلى مجال المعرفة الفلسفية، والحساسية عنده هي القدرة على تلقي التصورات بالطريقة التي بها يتأثر الكائن بالموضوعات العارضة، معتقدا بأنّ هناك مصدرين للمعرفة البشرية، هما الحساسية والفهم، مميِّزا في الحساسية بين صورة الحدوس الحسية ومادّتها. بموازاة مع صعود الحركة الرومانسية، وتنامي فكرة التنوير، ظهرت، في مقابل الحساسية الكلاسيكية التي حكّمت العقل على حساب العاطفة، ظهرت حساسية رومانسية تُمجّد عالم الأحاسيس والموهبة الفردية والإبداعية والعفوية، وتسمو بكلّ ما هو عجيب وطبيعي ورمزي. وهو ما ناقشته ودافعت عنه، تمثيلا، كتابات شاتوبريان، ومدام دي ستايل، وسينانكور الذي قرنها باكتشاف الذاتية لدى الرومانسي الذي تفي «الحساسية الحقّ» بحاجته عند إصغائه لأعماق روحه وذاته الداخلية، مُعْطيا الخيالَ حقّه من السُّموّ. وبسبب من هذه الحساسية، ازدهر أدب السيرة الذاتية (أدب المذكرات، اليوميات، الاعترافات والرسائل الحميمية الزاخرة بالمشاعر)، ثُمّ سرعان ما انبثقت حساسية جديدة مع الرمزيّين الذين اشتطّوا بالإبداع إلى ضفاف جديدة. وقد ميّز بودلير، بصراحة، بين حساسية القلب وحساسية المتخيّل، قائلا: «إن حساسية القلب ليست موافقة، البتّة، للعمل الشعري، وهي إذا زادت عن حدّها، في هذه الحال، فإنّها تؤذي أيضا. أمّا حساسية المتخيَّل فهي من طبيعة أخرى: تعرف كيف تختار، وتحكم، وتقارن، وتهرب من هذا وتبحث عن ذلك، بطريقةٍ عجلى وعفوية. ونحن من هذه الحساسية التي ندعوها الذوق عموما، نستلهم القدرة على أن نتلافى الشرّ ونبحث عن الخير في المادّة الشعرية». كما أثار هربرت ماركيوز، في سياق مدرسة فرانكفورت وآرائها الجمالية، العلاقة بين الخيال الحر والحساسية الجديدة وبين مفهوم التحرر، وهو يناقش الشكل الذي تستطيع من خلاله اللغة أن تمثل تعبيرا ثوريا عن الحساسية الجديدة، ثُمّ فكرة اللعب وعلاقتها بالفن والتكنولوجيا، وفكرة الفن كإشباع غريزي. على اعتبار أن هذه الأفكار تمثل مناطق حية يُسْمح من خلالها للجمال أن يمارس فاعليّته. وقد ظهرت، ابتداء من سني القرن العشرين الأولى، دراسات بحثت مفهوم الحساسية وظاهرتها في بعض الشعريات الأوروبية لرصد تطوُّرها وإبدالاتها الجمالية؛ إلى أن صرنا نتحدث عن حساسيّات جديدة حلّت محلَّ أخرى قديمة في مجال الفنون التشكيلية، والموسيقى، والسينما، والمعلوميات، والإيكولوجيا، والإسطوغرافيا والعلوم السياسية؛ وبالتالي، يرد علينا المصطلح في سياقات متوتّرة: حساسية الأسلوب، حساسية جمالية، حساسية روحانية، حساسية ثقافية، حساسية بيئية، حساسية المسرح السياسي، إلخ. في معاجم اللغة وكتب الأدب العربي الحديث، لم يكن المصطلح يعني شيئا إلا من وجه العموم، حتّى أثاره إدوار الخراط في أواسط الثمانينيّات بتأثير من المرجع الأنغلوساكسوني، وعالجه، بدقّة، في مؤلَّفه الموسوم ب«الحساسية الجديدة: مقالات في الظاهرة القصصية» (دار الآداب، بيروت، 1993)، بحيث بسط فيه تصوُّره لما تعنيه الحساسية، إذ استجلى الأفق النظري لمفهوم الحساسية الجديدة، وفضاء ما قبل الحساسية الجديدة (أو ما يطلق عليه الحساسية القديمة)، مقاربا بعض صورها وتمثيلاتها في نماذج من القصة المصرية القصيرة. كان إدوار يريد من وراء المصطلح وصف النقلة النوعية التي حقّقتها الكتابات الإبداعية العربية بتأثير من الواقع الاجتماعي إبّان ستينيّات القرن العشرين، ونشأت كردّ فعل على مرحلة الواقعية التي غمرت النتاج الأدبي بدون طائل أو فاعليّة. وهكذا، نظر إلى الحساسية الجديدة بوصفها تحمل استشرافا لنظام قيمي جديد، ليس في الفنّ فحسب، بل على صُعُد الفكر والثقافة والمجتمع، وإلا لما تحيّز للحساسية التي ظهرت بعد. عرّف الحساسية بأنها «كيفية تلقي المؤثرات الخارجية والاستجابة لها»، وهي ليست مرادفة للحداثة، لأنّ مجموع الرؤى أو الطرائق الفنية في الحساسية الجديدة يمكن أن تستقر وتصبح نتاجا تاريخيا وزمانيا، وتتجاوزها وتقوم على إثرها حساسية جديدة أخرى؛ وبالتالي، فالحساسية توحي بمرونة متجدّدة وتدفُّق مستمرّ. وإذا كان الخراط يلحّ على فكرة اختراق التقاليد، بقدر ما كان يعلي من التجريب في مفهومه للحساسية الجديدة، إلا أن ذلك كان على حساب التراث الذي دعا إلى القطيعة معه والفصل بين الجديد والقديم. وكأنّ ذلك كان ردّا غاضبا على هزيمة عام 1967، ونقدا لاذعا لأوهام القومية العربية التي كانت تتفكّك. لكن لا نخطئ استراتيجية الحساسية، وقوّة تأويلها التي أغوت دارسين كُثْرا، فأعادوا توظيفها في قراءة الأدب العربي الحديث والمعاصر بأجناسه وأنماط تعبيره المتنوّعة. وهكذا انتقل مصطلح الحساسية الجديدة إلى كونه ظاهرة تستقطب جملة من الخصائص الجمالية والسوسيوثقافية التي كان الكتّاب يصدرون عنها في كتاباتهم ونصوصهم وبياناتهم، ويُعبّرون من خلال عن رؤاهم للعالم، في إطار فهم خاص للفن الأدبي من حيث الماهية والوظيفة والاشتغال. وهو ما دعا بقوة إلى تحوُّلٍ متنامٍ في مفهومي الإبداع والتلقي على حدّ سواء. وبدا مفهوم الحساسية يعني الوعي والإدراك عن طريق العقل أو الحسّ أو عن طريقهما معا من جهة، ويعني امتلاك المقدرة الثقافية على الحكم والتمييز والتمتع بذوق أدبي من جهة أخرى. ..الانحياز إلى الحساسية التجربة الجديدة في الشعر لم تكن لتجُبَّ ما سبقها، بل هي تراكم لتجارب متتالية في سياق القصيدة الحديثة وتطوُّر إواليات بنائها المعماري، بقدر ما هي تجاوزٌ لها. وتظهر لنا حبلى بالانعطافات التي تحفز شعراءها على التحرّك الدائم في جسد التجربة وأخاديدها، لا يرهنون ذواتهم لأيديولوجيا أو ينضوون تحت يافطة بارزة من قبيل «الجيل»، و«الائتلاف»، و«الجماعة». إنّها تعني صعود حساسيّة، حساسيّة جديدة. لمفهوم الحساسية، هنا، قيمة إجرائية ومعرفية أنجع من مفهوم الجيل نفسه الذي يبدو، بالقياس إليها، مفهوما فضفاضا ومُفكَّكا لا ينسجم مع ما تستدعيه شرائط هذه التجربة الجديدة. وإذا كان مفهوم «الجيل» قد أفاد دارسين قبلنا في تصنيف الشعراء إلى أجيال، وفي تتبُّع مسار القصيدة وسيرورة تحديثها الفني والجمالي، فجعلهم ينسبون الشعراء إلى عقد زمني معيّن: جيل الستّينيات الذي ارتبط برواد الحداثة ومؤسسيها الأوائل، وجيل السبعينيّات الذي واصل مشروع التحديث غير منفكّ عن مشاريع الأيديولوجيا والواقعية الاشتراكية، ثمّ جيل الثمانينيات الذي عرف ولادة المشاريع الأولى لقصيدة النثر منصرفا إلى الذاتيّات وإلى التمثيل الجماليّ للغة الشعر، ومُتخفّفا من ضغط الأيديولوجيا، إلا أن هذا المفهوم نفسه ليس له ما يقوله بخصوص التجربة الشعرية الجديدة، لأسباب: فهي أشمل من أن تكون بمثابة تحقيبٍ عِقْديٍّ تسهيلا لتصنيفها وأجرأتها؛ فالشعر كما يقترحه أصحابها، وخاضوا فيه مع الخائضين، لا يُقاس بمثل هذا الزمن؛ وهي ليست تمثيلا لنزوعٍ أيديولوجيٍّ واضح كما في السابق. إنّ الحساسية تكشف عن كونها كناية عن اختلاف في تشكُّلات الرؤية الإبداعية، أو في تصوُّرها لأفق الكتابة الشعرية، في سياق ما خلقته اقتراحات الشعراء الجدد النصية والجمالية، وما صارت إليه رؤاهم المختلفة إلى الذوات والأشياء، إذ انزاح النفر الكبير منهم إلى الرؤيا التي تُعنى باكتشاف العالم ومواجهته، عوضا عن الموقف المباشر من السياسة والأخلاق والقيم. إنّها ممتدّة بصمت، وأوسع من أن تتأطّر داخل مفهوم مغلق ونهائي مثل مفهوم الجيل، وما فتئت تكشف عن أثر التغيُّر الذي يحدث باستمرار. وهي فوق أن تحجبها المعاصرة. لذلك، يجب أن نلتقطها ونسائلها بصيغة الجمع لا المفرد، وبالتالي نعيد اكتشاف الشعر في زمننا الراهن. إنّ الحساسية هي أصل الشعر، والشعر دائما ما كان ينشأ من خلال حساسية ما، حساسية في اللغة، أو في المتخيّل، أو في الرؤية، أو الأسلوب وطريقة التأليف الشعري. تاريخ الشعر بدوره هو تاريخ حساسيّات متراكمة ومتجاذبة، إذ تحلّ محل الحساسية القديمة حساسية جديدة، أو هو مزيج من أشكال فنّية وطرق تعبير جمالية متنوّعة كانت تنبثق في كل مرحلة من مراحل عبوره وتطوّره في غير عصر معطى جديد، أي الإبستيمي بتعبير ميشيل فوكو. هي علّته وعافيته من حيث أنّها فعّالية الشعر وقدرته على الشعور بما يحيط به من المؤثرات، أو تغيير يطرأ على معاناته للوجود والرؤية إليه. فالشاعر ليس الذي يرى ما لا يراه غيره فحسب، بل الذي يتأثر، في رؤيته تلك، بأشياء بسيطة لا يتأثر بها غيره من السابلة. هذه هي الحساسية. إذ نتبنى مفهوم الحساسية ونتوسل به في قراءتنا للتجربة الشعرية الجديدة المغربية خاصة، والعربية على وجه العموم، فذلك لاعتبارنا أنّ الحساسية نتاج سياق سوسيو-ثقافي ضاغط تستجيب لمؤثّراته وتتفاعل معه باستمرار. ومن ثمّة، يتركز تحليلنا لمفهوم الحساسية على بيان أثر الإبدالات الجمالية التي طالت فضاء القصيدة الحديثة، أو تلك التي اعترت المادة الشعرية في نصوص التجربة الجديدة. وبما أن وعي الحساسية الجديدة ممتدٌّ في الزمن، فإن استعمال مفهومها أو تصوُّرنا لها لن يكون ذا دلالة إلا عندما تكون مدة سريان التغير ممتدّة في الزمن، هنا والآن. وبهذا المعنى، فهي أبعد من أن تكون تعبيرا عابرا عن الموجة الجديدة التي يلحقها بعضهم ب(الموضة)، ويُكرّسها قَدْحا أثناء حديثه عن التجربة الشعرية الجديدة. فقد أبان عدد غير يسير من شعراء التجربة الموهوبين، من خلال اجتهاداتهم واقتراحاتهم النصية، عن وعيهم باشتراطات الحساسية الجديدة، فانحازوا إلى شعريّتها المختلفة التي تقوم على تنوُّع الرؤى وتمايزها، بنسب محدّدة، عما سبقها، وتكشف عن تحوُّلٍ في الحسّ الجمالي، وفي مفهوم الذات والنظر إلى العالم، وفي تقنيات التعبير الفني. وهكذا، فإنّ الارتباط بعامل الزمن لا يعني لنا من قيمة إلا بمدى قيمة الأشخاص المتحرّكين داخله، ودرجة حضورهم فيه. ومن المُهمّ أن نشير، هنا، إلى أن وعي الحساسية الجديدة ليست من نتاج الشعراء الجدد وحدهم، بل يساهم فيه أيضا شعراء من أجيال سابقة، بل يمكن القول إنّ نتاج هؤلاء الرواد الذين يقدمون إلينا من أجيال وتجارب سابقة، يُمثّل حافزا إضافيّا لشعراء تلك الحساسية على الاستمرار في رهانهم الجمالي على تحديث الشعر العربي، بلا ادّعاء القطيعة أو وهم «قتل الأب»؛ فهم في تلقيهم للتراث الشعري، القريب والبعيد، إنّما يلجأون إلى دمجه في ذواتهم ورؤاهم، فلا يحوّلونه إلى علاقة ستاتيكية تؤدي إلى بتر الحساسية وإلى جمود اللغة وميكانيكيّتها، وهو ما قد يعيد بناء وجهة نظر جديدة لتاريخنا الثقافي والأدبي في سيرورته وتجدُّد حضوره بيننا.