تفسير المؤمنين للشيخ أبوجرة سلطاني الجزء الرابع فلا سبيل للإنتصار عليه وإبطال خططه الماكرة ووسواساته الخفية إلاّ بالفرار إلى الله (سبحانه)، فأمر الله جل جلاله بالتعوذ به من الشيطان الرجيم قبل الشروع في التعامل مع كلام الله طمأنة لقارىء القرآن بأن الله حاميه من جميع مكائد الشيطان وإشاراته السلبية المشوشة على موجات الإستقبال الرابطة بين العقل والقلب والنفس، لأن لكل دابة سلاحها ولكل حشرة "مبيداتها" ولا أحد يعرف من أين تؤتى الشياطين ولا ماهي أسرار مقاتلها لأنه من عالم الغيب الذي لا يكشف عن أسراره إلاّ علاّم الغيوب، فمن كان أصل خلقته نارا لا ينفع معه إلاّ السلاح المضاد لإطفاء الحرائق، فعن سليمان بن صُرد (رضي الله عنه) قال: كنت جالسا مع النبيّ (ص) ورجلان يستبان، وأحدهما قد أحمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال رسول الله (ص) "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب عنه ما يجد"، فقالوا له: إن النبي (ص) قال "تعوذ بالله من الشيطان الرجيم" متفق عليه، فهذا إرشاد واضح على أن السلاح الذي يواجه به المؤمن عالم الغيب لا يعلمه إلاّ الله الذي أعطى بعض أسراره لرسوله (ص)، فالله هو خالق الشيطان من مارج من نار وخالق الإنسان من صلصال كالفخار، فهو سبحانه وحده العالم بالتركيبة التي فطر عليها عنصر النار أو ركبها فيه، كما فطر عليها عنصر الطين أو ركبها فيه، وهو وحده القادر على حماية من لجأ إليه هاربا واعتصم به موقنا، وهو وحده الوكيل على من وكّل أمره له ولجأ إليه وطلب نصرته وجيرته "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلً" الإسراء: 56 فإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم كفاك الله شرّ همزاته، لأنك في معية خالق الإنسان وخالق الشيطان، ومن دخل حصن القهار سدّت جميع المنافذ المؤدية إلى الهمز والحضور في وجه الهمازين بنظرات العيون أو خطرات النفوس "وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ" المؤمنون: 79 – 89، فلا يتسلط الشيطان على من يجعل اللهوليّه لأنه ليس له عليه من سلطان"إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ" النحل: 001 ، فمن استهواه الشيطان باحتناكه وزخرفاته وتزيينه للباطل فأطاعه وأكل من مائدته والتقط خشاش الأرض من بين يديه وجلس في حجره ولاعبه الميسر وتنازع معه كؤوس أم الخبائث ووالاه على طريق الغواية والضلال، فقد اتخذ الله عدواّ، إذ لا يستقيم في القلب ولاءان ولا تتجاور فيه عداوتان ولا يستقر فيه ضدان: توحيد وشرك، فطبيعة التوحيد تنفي الشرك، وعندما يطيع الإنسان أوامر الشيطان وينتهي بنواهيه فإنه قد اتخذ الشيطان إلاها من دون الله وجعل عدوّ الله وليًّا له "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" فاطر: 06 ، فماعدا حزبه ومن تولاه من إخوانه وذريته لا يملك الشيطان أي سلطة على غيرهم، وكل أسلحته تصبح غير ذات مفعول، فلا الوسوسة ولا التزيين ولا اللمز والنزغ .. يبقى لها ما تؤثر به في قلب مفعم من طاعة الله، وسلاحه المضاد هو غلق المنافذ التي يجري فيها حركة الشياطين مجرى الدم في العروق إذا صادفت في قلب الغافلين فراغا، لذلك كانت هذه "التعويذة" الموقنة بالله كفيلة بغلق أبواب الشبهات كلها والتسلح بما أعطى الله للمؤمنين من أسلحة ردع إيمانية فتاكة تجعل مستعمليها "سلاطين" أنفسهم، لأنهم يعيشون في معية الله تعالى "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فصلت: 63، سميع لاستعاذتك عليم بمخططات الشياطين وأدوات النزغ والإغواء والضلال لأن التعوذ بالله من أيّ شرّ يحدثه أو يتسبب فيه مخلوق من مخلوقاته عبادة قائمة بذاتها، فيها اعتراف من العبد بضعفه وافتقاره إلى خالقه، فالعبد مهما كان علمه وتقواه وورعه ومكانته- يبقى ضعيف محتاج إلى عفو ربه فهو مخلوق ضعيف، يستعيذ برحمة الله من عدله وبمعافاته من عقوبته وبه منه ليحميه من ضعفه ويأويه من يتمه ويهديه من ضلاله ويغنيه من العالة والفاقة..لذلك وردت الإستعاذة في القرآن الكريم كله سبع عشرة مرة فقط في أربع عشرة سورةكلها بمعنى الإحتماء بالله وطلب العون منه ليقي المستعذين به شر ما يواجهونه من أنفسهم ومن الناس وشرّ ما لا يرونه من الجن وما يحسونه من شر وسوسات الشياطين الذين اتخذوا قلوب الناس محطات بثّ داخلية لزرع الفتن ونشر الضلال والفساد والإغواء وكل أنواع الرذائل والتشويش على الحق حتى لا يصل صافيا إلى قلوب الخلق، فيتمكن من إحكام عقدة الإيمان في جذور قلوب المؤمنين. يتبع…..