الوحي ليس كأي كلام آخر، فهو كلام الله المعجز الرابط بين السماء والأرض، ومنهج الحياة والموت والبعث والحساب والجزاء، وقراءته ليست كأي قراءة، لأن فيه "مسؤولية" قبول المنهج أو رفضه، ولأن فيه حياة للنفوس أو موتها، ولأن فيه اتصال بالعلوية التي تحتاج إلى تخفف من ثقلة الطين وأوضار النفس وجواذب الحاجة…وقد شاءت قدرة منزل الوحي أن لا يصل كلامه إلى عباده إلاّ بعد تمريره بأربع محطات رحمانية أو رحيمية تجعل قدرة البشر على استقباله وتحمله ممكنة حتى لا تتصدع بنية الإنسان كما تتصدع هندسة الجبال، فأنزله الله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزّله من السماء الدنيا على قلب محمد (ص) عن طريق الآمين جبريل (ع) ثم أسمعه من الفم الشريف إلى الناس كافة على لسان آخر من اختاره مبلغا عنه كلامه، وشاء (سبحانه) أن يكون تنزيله نحو ما متفرقة أخذت من الوقت ثلاث وعشرين سنة ليكون الحامل قادرا على الحمل، فلو نزل القرآن جملة واحدة لرضّ قلب المنزل عليه ولضعفت التركيبة البشرية الطينية على استقبال نور الوحي جملة واحدة، فإنزاله جملة واحدة من اللوح المحفوظ ليس كنزوله منجما عن طريق الآمين جبريل (ع) بحسب الحوادث والوقائع والمناسبات وما تقتضيه "منهجية" إخراج خير أمة أخرجت للناس، وتنجيمه لم يكن هدفه تربويا بحثا وإنما كان كذلك لطفا من الله عالما بالطبيعة البشرية وإعجازا لازما للطبيعة المتفردة بهذا القرآن كونه كلام الخالق المنزل على المخلوقين ليقرأوه على مكث "وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً " الإسراء: 106، فقد نزل "نجمة"من بعد نجمة ليكون فعله -في النفوس وفي الواقع- جرعة من بعد جرعة حتى تألفه الطبيعة البشرية وتتشربه النفوس ويقوى القلب على حمله فلا يتصدع، فالدخول على كلام الله لا يتم إلاّ بالفرار إلى الله وباللجوء إلى منزل القرآن ذاتا وصفات وأفعالا لتحييد أعداء هذا القرآن وعزل الشيطان عن معركة إيمانية تتم على مستوى القلب، لأن الشيطان جاثم على القلب، فقد روى البخاري عن ابن عباس- (رضي الله عنهما)، أن: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس، ولا سلاح أفتك على الشيطان من سلاح اللجوء إلى خالق الإنسان والشيطان العليم بمصدر وسوساته لشل حركته وحرمانه من فرصة الوسوسة الصارفة عن الخشوع والوجل، فالتعوذ بالله من الشيطان الرجيم هو نوع من أنواع الاعتراف المصرح به بضعف الإنسان عن مقارعة عالم الغيب ومصاولة عدوّ يرانا ولا نراه، فيحتاج الأمر إلى لجوء مخبت لعالم الغيب الذي يرصد حركة من خلق ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هو فرار إلى الله بقرع بابه بالأدب الذي علمه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والإستئذان بتلاوة كتابه كما أراد واشترط لذاته عز وجل، فقال" فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" النحل: 89 ، فالشيطان ليس طارئا جديد على حياتنا حتى نسأل عنه: من هو؟ وماذا يريد؟ ولماذا يكرهنا ويحاربنا؟ وماهي أدوات الصراع التي يملكها؟ ولماذا هو عدو لذرية آدم أجمعين؟ وهل من يسالمه يجد عنده مسالمة أم أن الحرب معلنة منذ بدأت العداوة بين آدم (ع) وإبليس (عليه اللعنة) !! إذْ مهما كانت نية المؤمن من القراءة، ومهما كان مقدار ما تيسر منها ولو كانت آية واحدة فإنه مطالب بأن يتسلح بسلاح خفي يواجه به من خلقه الله خفيا وسماه الجنّ لقدرته على الإجتنان والتخفي وجعله من نار فاعتز بعنصره واغتر بخبقته ونسي أن الله هو خالق الإنسان من طين وخالق الجان من نار، فعصاه وتوعد المؤمنين بالغواية والإحتناك والضلال المبين، وغفل عن حقيقة ما خلق له وما خلق منه وأن خالقه (سبحان) هو الذي جعل له صفة الإحتجاب فهو يرانا ولا نراه: "يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ" الأعراف: 72، فلا سلاح أمضى من ذكر الله، ولا "تعويذة" أجدى مما علمنا الله استخدامها زمانا ومكانا ولفظا بصيغة " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، فالزمان هو لحظة عقد النيّة بالجلوس أوالتفرغ لقراءة القرآن، "فإذا قرأت القرآن" والمكان هو الحيز الذي يختاره صاحب هذه النية ليقرآ كلام الله أو يسمعه أو يتدبره ساعة من نهار أو يتأمل هذه المعجزة ويتفكر في عظمة خطاب أنزله خالق الإنس والجن ليخاطب به عباده أجمعين وجعله منهجا دائما للحياة والموت والبعث وعلى أساسه يتم الحساب والجزاء والعقاب، فاحذر أن تجعل كلام الله ككلام أحد من الناس، فتقرأ القرآن كما تقرأ أي كتاب آخر ولو كان تفسير القرآن أو شرح معانيه أو كان أحاديث قدوسية أو كان من حديث المصطفى (ص)..وتذكر دائما أن الكتاب الوحيد الذي لا يجوز لك التعامل معه إلاّ بشروط الطهارة ولا يجوز لك مسه إلاّ إذا كنت من المتطهرين هو كلام الله (جل جلاله)، فادخل على كلام الله باللجوء إليه واطلب الحماية منه وحده لا شريك له، لقوله (جل جلاله) في محكم تنزيله "فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ " النحل: 89 001. فإذا نوى المؤمن قراءة القرآن، أو انعقدت نيته على التعامل معه بأي سورة من سور التعامل مع كلام الله قراءة أو حفظا أو تفسيرا أو فهما أو صلاتا..أو أراد التعامل مع كلام الله بأية نية أخرى فيها طاعة لله وامتثال لأمره ونهيه، كان عليه أن يتهيأ لاستقبال "وحي الله" بما هو أهل له من استحضار نية، وطهارة واختيار الوضعية التي تليق بكلام الله ثم الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وبعدها البسملة والتلاوة بشروطها في حدود الإمكان. إن اللجوء إلى الله والإعتصام به من شرّ عدوّ لا تراه العينان ولا تسمعه أحاسيسه الآذنان ولا تلمسه اليدان ولا يشم ريحه الأنف..دليل على إيمانك بقدرة المعتصم به على حمايتك منه ونجدتك من ركضه بخيله ورجله، ولذلك كان الإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم إعلان إيمان بالغيب وتجديد صلة بالخالق واعترافا بضعف الإنسان أمام الكائنات الغيبية وجهله بمداخل نفسه وعجزها عن مقاومة وساوس الشياطين، فإذا ارتم المؤمن في أحضان خالقه وفوض إليه أمره واعترف بين يديه بضعف قوته وقلة حيلته كفاه ربّه مؤنة الصراع والنزاع ودفع عنه همزات الشياطين وتزيينهم واحتناكهم ووسوساتهم وضلالهم..فإذا غفل عن هذا السلاح الإيماني الفتاك إنفرد به الشيطان وجرّه إلى أرض معركة عراء لا يملك الإنسان من أدواتها شيئا، فلا حول يحول بينه وبين الشيطان ولا قوة يملكها بين يديه تعطيه قدرة على المصاولة والمنازلة ودفع الأذى عن النفس، وقد أرشدنا رسول الله (ص) إلى واجب التمسك بسلاح الإستعاذة والإستنجاد بمن هو أقوى منا وممن يملك وسيلة الإستتار والتخفي على من هو أقوى منه ومنا على الحماية والحفظ، فقال (ص) فيما يرويه عنه ابن عباس (رضي الله عنهما) "من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه"، أخرجه أحمد وأبو داوود والنسائي. والأمر بالتعوذ من الشيطان الرجيم مؤكد بأداة الشرط "إذا" التي تعني التهيؤ للقراءة حال حلول ظرفها الزماني بطلب الحماية من الله من نزغات الشياطين وسؤاله القوة النفسية والفكرية والإيمانية لتلقي كلام الله كما أنزل على محمد (ص) والإستعداد بتفريغ القلب من هموم الدنيا والتفرغ للتدبر في آلاء الله والتفكر في خلق السماوات والأرض ..فجاء الجواب مقرونا بالفاء: فاستعذ بالله " ليرتب الله طلب الحماية من الشيطان بالإستعاذة الصريحة بالله منه،"فإذا قرأت" أي إذا هممت أن تقرأ "فاستعذ بالله"، فلا جيرة بالله من الشياطين إلا ّبإعلان ضعفك وكشف عجزك والإعتراف بعدم قدرتك على مواجهتها إلا بطلب المدد من خالق الإنس والجن ليكون سلاحا جاهزا قبل أن تدخل المعركة مع الشياطين، فإذا هممت بقراءة القرآن على أي وجه كان- فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم لترتب نيتك على نية القراءة، فلا تدخل على كلام الله إلاّ وأنت مسلح بشرط اللجوء إليه وطلب الجيرة منه لحمايتك من عدو خفي لا تراه عيون البشر، فالله يأمر كل من ينوي قراءة القرآن أن يلجأ إليه ويعتصم به من شر الشيطان الرجيم طلبا للجيرة من عدوّ يراك ولا تراه، فلا مناص والحال هذه- من الإستنجاد بخالق الشيطان من مارج من نار لوقاية رفرفات الروح من ثقلة الطين، ولفحة النار والإعتراف لله جل جلاله بالضعف البشري الذي يصيب النفس والعقل والقلب بالسهو والنسيان والخطأ والغفلة، لاسيما إذا تعلق الأمر بكلام الله الذي تكرهه الشياطين وتعمل على التشويش على قلوب المؤمنين حتى لا يصلها القرآن كما أراده الله، تماما كما يطلب من رجل المطافي أن "يستعيذ" بارتداء البذلة الواقية من النار المضادة للحريق ليس فرارا من اللهب، ولكن استعانة بها على إطفاء اللهب نفسه. فليس للشيطان قوة مدمرة يخشاها المؤمن وليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما وسوساته تعمل عمل أجهزة التشويش على البث القرآني، فلا يصل القلب صافيا ولا يستقر في بؤرة الشعور مطمئنا فلا يتحقق المقصد من التلاوة، وهو البحث عن زيادة في منسوب الإيمان بتدبر القرآن والتفكر فيه والعمل على تحصيل الممكن من الخشية والخشوع والوجل الذي يجد مكنته في القلب فيزداد به الإيمان "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" الأنفال: 2، وكلها من مغذيات القلب ومن مقويات الإيمان ومن موانع وسوسات الشيطان. فمداخل الشيطان إلى النفس البشرية كثيرة، وأشد ما يكون الشيطان حاقدا وحانقا على المؤمن إذا قرأ القرآن أو قام إلى الصلاة أو سجد لله سجدة اعتراف وإخبات، لأن ذلك يذكره بمعصيته الأولى لربه عندما أمره بالسجود لآدم فرفض وعصى وتمرد على خالقه، فإذا قرأ ابن آدم القرآن أو ذكر الله أو خرّ ساجدا له..اعتزل الشيطان باكيا متحسرا من المصير الذي لقاه في أول الخلقة عند سماع كلام الله، كما يكره كل مؤمن صفا قلبه، فتوجه إلى ربه بالشكر والسجود له أو تفرغ لذكر الله أو قال "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" بعزم واثق وإخلاص صادق اعتزل الشيطان وتنحى من طريقه..لذلك كان الإيمان يقتضي أن يحصن المؤمن نفسه بهذا القرآن، وذلك باللجوء إلى خالق الإنسان وخالق الشيطان ليسد أمامه منافذ النفس البشرية، فلو كان الشيطان مادة مخلوقة من تراب يراها الإنسان لأمكن أن ينصب له الكمائن ويموه له المصائد ويطرح في طريقه الفخاخ فيوقع به ويصطاده، لكن الله شاء لحكمة يعلمها- أن يعطيه قدرة غيبية غير مرئية للبشر على مراقبة أعمال أبناء آدم ورؤية ما يصنعون ولم يعط هذه القدرة للبشر " إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ" الأعراف:27، ولا شك أن عدل الله قد عوض الإنسان بما يجعل هذه "الرؤية الشيطانية" غير ذات قيمة باعتراف إبليس نفسه "عليه اللعنة" بأنه سيعمل على إغواء الناس أجمعين واستثنى من دائرة إغوائه عباد الله المخلَصين من الذين يستخلصهم الله برسالة أو نبوة أو شرف خدمة لمنهجه، فهم على طريق الرسالات، والذين يوالون الطرْق على باب رحمة الله معتصمين بحبله المتين وبالعروة الوثقى لا انفصام لها، هؤلاء خارجون عن دائرة الغواية الشيطانية "إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" ص: 38. وهذا التعليم القرآني يضع أيدينا على حقيقة غيبية هائلة وهي أن الشيطان لا يمكن دفعه بوسائل مادية، وأن مقاومة الشيطان بأدوات البشر معركة خاسرة من أساسها وكفتها راجحة لصالح الشياطين، ولا يمكن ربح هذه المعركة إلاّ إ ذا استخدم فيها المؤمن أدوات (ربانية قرآنية) وضعها الله له سلاحا نورانيا ليحقق به النصر على جميع شياطين الأرض وذلك باللجوء إلى الله والإحتماء بحوله وقوته وعدم الإبتعاد عن حمى الله حتى لا ينفرد الشيطان بالإنسان فيغويه كما صنع مع أبينا آدم (ع)، وهو ما حذرنا منه المولى جل جلاله بقوله " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة" الأعراف:27، فلا طريق أضمن من السير على الصراط المستقيم والفزع إلى الله تعالى إلا بالإرتماء في كنف رحمته وواسع عفوه، كون كل مستعيذ بالله مُعاذا لقول المصطفى (ص) "من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه"، كما سبقت الإشارة إليه. إن مسْك المصحف بين يديك هو رمز للإيمان، فلا يمسك هذا الكتاب غير مؤمن، فإذا انعقدت النيّة على القراءة تحت أي دافع كان- انفكت قراءة القرآن عن جميع ما يقرأه الإنسان من "مكتوبات" ومقروءات ومنشورات، فهو كلام الله المقدس الذي تعبّد الله به المؤمنين، فلا يليق بقارئه أن يترك شيئا من مفسدات النفوس ومفندات القلوب وصوارف العقل يحوم حوله وهو يتواصل مع خالقك بكلامه المعجز ليعطيه من فضله ويفتح عليه فتوح الإيمان وتجليات الإحسان وعطاءات الرحمان.