" فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" وفي غمرة هذا الطيش المنافق، أوالنفاق الطائش وقع المنافقون في الجب الذي حفروه بأيديهم للوقيعة بالمؤمنين، ذلك أن تظاهرهم بالإيمان لإرضاء من سموهم السفهاء هو حضيض السفه، فلو كانوا يعتقدون حقا أن الذين تسارعوا إلى التصديق برسالة محمد (ص) هم السفهاء، فلماذا تجتهدون في "تمثيل" أدوارهم ليرضى عنهم "السفهاء"، فهل كل هذا الجهد الذي كانوا يبذلونه باصطناع الصلاة والزكاة والصوم والتظاهر بالخروج للجهاد..كل هذا الجهد وكل هذه المشقة من أجل أن ينالوا وسام السفاهة ويصْبحوا سفهاء مثل الذين سبقوهم بالإيمان؟ هل ادعاء شيء إلى درجة حب التظاهر به هو مدعاة للفخر أم للمذمة؟ فهم يَدّعون الإيمان ويُعلنون ذلك ويتزلفون به للمؤمنين ليُحققوا بعد كل هذا الجهد والعنت- شرف الإنتماء "لجماعة السفهاء"؟ ثم، وهو السؤال الخطير، هل أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي..وسائر السابقين من المهاجرين هم سفهاء في نظر المنافقين؟؟. إن الذي لا يستطيع أن يكون "نموذجا" للخير والحق والفضيلة والجمال.. يرمي النماذج الناجحة بالسّفه، والذي يفوته شرف السبْق وكرم الصدق يكابر بالقول "أنؤمن كما آمن السفهاء" لذلك لم يتركها ربنا (عزوجل) تمرّ تحت صمت السابقين بالإيمان الصابرين عن الرد على تخرصات السفهاء، فتولى (سبحانه) الدفاع عن أوليائه بالقول الرادع والحكم الثابت في حق السفهاء الحقيقيين " أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ" البقرة:13 . فهم المفسدون ولكن لا يشعرون وهم السفهاء ولكن لا يعلمون، لأن الفساد سلوك عضوي، والسفاهة نزوع نفسي، وكلاهما داء خبيث ناجم عن شعور بالحاجة إلى إحداث التغييرالسلبي فيما هو موجود وقائم، والله (جل جلاله) خلق الأشياء صالحة، لأن الكون نشأ نشأة صالحة، والإنسان الطارئ على الكون هو المبادر بالفساد، فلو ترك الكون على حاله لظل صالحا، فإذا تحرك فيه الإنسان بمنهج الإيمان زاده صلاحًا بقيمة مضافة يصبح فيها الصلاح أكثر اتساعا وإحاطة ونفعا، أما إذا عطله صار فاسدا، وهو لا يشعر بأنه سعى في خرابه أو تحزيبه " أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ"، فالسفه منبعه تأخير العقل وتقديم اللسان، فهو نوع من النزق الذي لا يعلم صاحبه أنه سفيه فيقول عن الناس ما فيه من عيوب " أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ". فلماذا كانت محاولات خداعهم لله وللذين آمنوا نابعة من تبلد مشاعرهم، كما كان اعتقادهم بنشر مشاريع الفساد والإفساد قائما على اعتقادهم أنها مشاريع صلاح وإصلاح، وكلها ضلالات ومفاسد نابعة من فساد مشاعرهم "وَلَكِنْ لَا يَعشْرونَ" فهم لا يشعرون بواقع الفساد الذي هم غارقون فيه، فكشف الله عن حقيقة تبلد شعورهم، بينما انطلقت تهمتهم بالسّفه للسابقين الأولين من المهاجرين من عمق جهلهم بحقيقة هؤلاء لأنهم لا يعلمون حقيقة إيمانهم "وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ"؟، فما الفرق بين "لَا يَشعْرونَ" و"وَلَا يَعْلَمُونَ"؟!! السفيه والسفاهة خفة في العقل ينجم عنها سوء تقدير للعواقب، لذلك نجد السفيه سريع الإنفعال والغضب سريع رد الفعل بارعا في كيل التهم الجزافية للناس، ينتصر لذاته ولو كان مخطئا ويدافع عن خياراته ومعتقداته ولو كانت باطلة، وهو يفعل ذلك دون رصيد من العلم يقيم به دليلا على ما يدافع عنه، بحيث لو سألت واحدا ممن قالوا "أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ" كيف عرفتم أن المؤمنين برسالة الإسلام سفهاء؟، فإنك لا تجد عندهم جوابا إلاّ الإندفاع نحو سؤْق كلام غير مسؤول تقف وراءه حرارة انفعالات غير منضبطة تجعلهم محل شفقه وسخرية لمن يسمع كلامهم، أما المفسد فلا يشعر بحجم الفساد الذي يمارسه لأنه مع تعوده على فعل الفساد- يتبلد شعوره ويتوارى ضميره خلف العزة بالإثم فتموت أحاسيسه وتضطرب موازين تقدير الأشياء عنده. ولأن شعورهم ميت وإحساسهم متبلد وعلمهم سطحي لا صلة له بأحكام المنهج ولا بمفردات الهداية، فقد اختاروا لأنفسهم حياة ممزقة، حياة يحكمها سلوك الشخصية المزدوجة التي يتنازعها رأيان ويعكس ملامحها وجهان، ويتداول النوايا في الأعماق قلبان، ويلوك اللسان خطابان ويعيش هذا الكائن الممسوخ بولاءين مع زمرتين و"بشخصيتين" شخصية القلب وشخصية اللسان، ومقام الداخل ومقال الخارج، وحياة الإنبساط مع الكافرين وحياة الإنقباض مع المؤمنين "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ" البقرة: 14. هل هذه حياة مرتجلة؟ وهل في هذه الحياة رجولة؟ وهل هؤلاء بشر جديرون بالإحترام؟ إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وكأن الإيمان قول يكفي معه مجرد الإعلان، فلو كانوا مؤمنين حقا لتحدثت عنهم أفعالهم من غير أن تكون بهم حاجة إلى الإعلان عن إيمانهم بالأقوال، وكأنهم شاكون في حقيقة دينهم ومرتابون في جوهر"عقيدتهم" فيحتاجون إلى تأكيدها لأهل الإيمان كلما صادفهم بهم لقاء، فالإيمان الحق لا يحتاج أن نقدمه للناس إلاّ دعوة وقدوة، أما المباهاة فالله يعلمها والأعمال تجسدها في الميدان سلوكات ومشاريع وإنجازات و"قدوة"، لكن المنافقين يدركون أن إيمانهم "تمثيل" ودينهم تأشيرة عبور لقضاء المآرب، ولذلك يذكّرون، من كانوا يقولون عنهم سفهاء ويصفون إسلامهم بإسلام السفهاء ويتعففون عن أن يؤمنوا كما آمن السفهاء..يذكرونهم بأنهم مسلمون، ويحرصون على تسجيل حضورهم معهم ليعلنوا في حضرتهم أنهم مؤمنون مثلهم وأنهم قد آمنوا، معتقدين أن هذا الإعلان النظري البارد كاف للإطمئنان على مصالحهم باصطناع حياة متكلفة مع معسكر الإيمان بمجرد لقاء عارض معهم لأنهم ليسوا مجتمعهم ولا جماعتهم ولا حزبهم، لذلك فعلاقتهم بهم علاقة عرضية سطحية محكومة بظرفية الزمان والمكان "إِذَا لَقُوا" فإذا لم يصادفوهم في طريقهم عرضا فلا يجمعهم بهم جامع ولا يجذبهم إليهم جاذب ولا يدفعهم نحوهم دافع، لأن علاقتهم بجماعتهم الحقيقية مشدودة بالولاء إلى معسكر الكفر، ومصالحهم الحيوية متأرجحة بين المعسكرين، فاللقاء العارض إنما يكون مع المؤمنين أما الخلوة المتمكنة فمع الكافرين، " وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ" فخلواتهم مع الذين اختاروا منهج الشيطان وتصدوا بكل ما يملكون من وسائل لمنهج الرحمان، فصاروا بذلك شياطين بانتمائهم لمنهجه، كما قال المولى (عز وجل) " كَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ" الأنعام:112 ، فحياتهم مقسمة بين مصلحة يحرصون على تأمينها و"عقيدة" يعملون على التمكين لها، والحياة واحدة إذا تعددت فسدت وأفسدت، فحياتهم مع معسكر الإيمان هي حياة الأقوال المعسولة للطمأنة والإفتعال المتناقض، وهو الجانب الظاهر من حياتهم الحقيقية، لذلك تتم في اللقاءات المعلنة في النور وفي وضح النهار، أما الحياة الأخرى فهي حياة الظلمة المتحركة تحت الأرض وفي السرادب والكهوف والدهاليز..لذلك تحتاج إلى خلوة يقال فيها ما لا يقال في ضوء الشمس "إِنَّا مَعَكُمْ" فيكف هم مع الكافرين ليلا، وهم في الوقت نفسه مع المؤمنين ليلا؟. مساكين هؤلاء المنافقين، لأنهم مضطرون، عند كل لقاء، إلى أن يعيدوا التذكير بهويتهم، لأن العيش مع الهوى يحتاج إلى إعادة التذكير بالهوية، كلما جدَّ جديد يتغير معه الزمان أو المكان أو أوضاع الإنسان، أو تتغير أحوالهم تبعا لمصالحهم، إذا لقوا الذين آمنوا فلسان مقالهم الإيمان " قَالُوا آَمَنَّا "، وإذا خلوا إلى حقيقة كفرهم مع شياطينهم، فلسان حالهم الكفر " قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ"، ولأنهم مرتابون في الحالين، فهم بحاجة إلى تبرير وجودهم مع المؤمنين بلسان الحال " إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ"، ومتى كان الدين مادة للسخرية والإستهزاء؟ وهل أكرههم أحد على الإسلام حتى اضطرهم إلى هذا التذبذب البئيس؟؟. إن حياتهم الظرفية مع المؤمنين مجرد استهزاء، أما حياتهم التي يؤمنون بها ويرتاحون إليها، فهي حياة الظلام والخلوة والدسيسة مع غير المؤمنين، أما الجزء الظاهر من هذه الحياة فللتمثيل والإفتعال والتظاهر والمباهاة، لأن التعامل مع منهج الله لا يحتاج إلى تخفي وظلام ودهاليز..بينما التعاطي مع الإنحراف والضلال والفساد فمناخه الخلوة مع الشياطين وإخوانهم وحزبهم ليمارسوا "طقوسهم" في الظلام بعيدا عن أعين الناس وعن رقابة المجتمع، وهذا السلوك منهم هو شهادة على أنفسهم بأن الذي يحدث في اللقاءات السرية مع الشياطين هو الشر والرذيلة والفساد، وأن الخير لا يحتاج إلى أماكن سرية ليقول كلمته أوينشر دعوته أوينفذ برامجه في النفوس وفي الواقع، فالذين يبحثون عن "الخلوات" ويتسترون على أفعالهم ويبثون تقارير مؤامراتهم ضد الطرف الآخر في جنح الظلام وفي علب الليل، هم الخارجون عن المنهج وهم المستهزئون بأتباعه وهم المتاجرون بالقيم وهم بسبب هذه السلوكات المشينة سبب كل فساد في الأرض مهما حاولوا أن ينفوا ذلك عن أنفسهم، فإن اعترافهم بأن إعلان الإيمان أمام أهله "لعبة" مسلية لهم لاتخاذ المؤمنين هزؤا "اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" البقرة:15 ، لأن المنهج ليس ملكا للمؤمنين بل هو حق لله وحده، والذين يستهزؤون بحقوق الله يتصدى لهم الله بنفس ما في نفوسهم من مكر، فمع أن الله لا يستهزئ (جل جلاله) وليس من صفاته الهزاء ولكنه من باب المشاكلة- رد عليهم من جنس ما كانوا يفعلون ليزدادوا طغيانا وكفرا حتى تصل بهم وضعية الإستهزاء والسخرية بالمؤمنين إلى درك "العمه" الذي هو إمحاء البصيرة وذهابها فيعيشون حياتهم كلها بلا بصيرة تتخبطهم شهواتهم وتنحدر بهم أهواؤهم إلى حضيض السفالة ويصرفون عن الحق حتى تصبح القيم عندهم في آخر سلم الترتيب فيبيعونها بعرض من الدنيا قليل، وهو ما حصل لهم في القديم وما نراه في ممارسات بعضهم في الوقت الحاضر: يبيعون الهداية ويشترون الضلالة، بل يبيعون ضمائرهم، أو ما تبقى منها للشيطان مقابل العيش في أوكار الفساد وخلوات الرذيلة "أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" البقرة: 16، وهو الحضيض الأبشع من كل بشاعة يمكن أن يقع فيها الإنسان الذي يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل "فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ". كم هي خاسرة هذه الصفقة التي تمت فيها مقايضة رخيصة سلموا بموجبها هداية لا يملكونها لمن لا يستحقونها واستلموا، عوضا عنها، ضلالة كانت متاحة لهم دون أن يدفعوا ثمنا لها فلسا واحدا، ولكن عندما تسقط القيم يعلو شأن الضلالات وينزل شأن الهدايات فتجد من يبيع حسناته كلها بشربة خمر في ليلة حمراء، ومن يرهن جنته بخلوة اثنين ثالثها الشيطان، ومن يبدل دينه بوسام غواية يقلده إياه الشيطان فيطغى ويظهر في الأرض الفساد.." فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ". يتبع….