تفسير المؤمنين للشيخ أبو جرة سلطاني سورة البقرة وتشريع كامل للتكاليف التعبدية والمعاملات الاجتماعية والاقتصادية الحلقة 04 "الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" البقرة:01 /05، تفتتح السورة بالإشارة إلى كتاب الله، وهي كما تمت الإشارة إليه- أول سورة مدنية نزلت في أول سنة للهجرة، رتبت في المصحف الشريف بعد سورة الفاتحة، وتحوز على كمّ هائل من الأحكام الشرعية، والتكاليف التعبدية والمعاملات الإجتماعية والإقتصادية والمصرفية، وبعض الإشارات إلى أحكام الحرب والسلم، بعد ترسيخ عقيدة التوحيد، وفيها إشارات واسعة إلى أهل الكتاب، ولاسيما اليهود منهم، ولكن موضوع الأساس هو معركة الإسلام مع خصومه جميعا، وعلى كل الجبهات، فقد خاض الإسلام معركة مع الأميين، في مكةالمكرمة، قبل الهجرة على مدار ثلاث عشرة سنة، فكانت معركة ضد الشرك وأهله لإقرار التوحيد في أقوام كانوا في عمومهم بعيدين عن وحي السماء ولا تربطهم صلة متينة بالدين والنبوة والرسالة والغيب، فما كان بين أيديهم من معتقدات كان مجرد إلف وعادة موروثة عن الآباء والأجداد أوأن بعض تجارهم استوردوها من بئات مجاورة في رحلتي الشتاء والصيف، فكانت ساحات المعارك معهم يطغى عليها صوت الشرك ويحكمها العناد والجاهلية والسفه دفاعا عن أصنام لهم كانوا ينازعون بها القبائل السيادة والريادة التي اكتسبتها قريش وما حولها من وجود الكعبة الشريفة في مكةالمكرمة ومن أخبار إبراهيم، ومن تقاطع خطوط التجارة بينها وبين الشام واليمن على خط رحلتي الشتاء والصيف، فلما هاجر رسول الله (ص) من المدينةالمنورة (يثرب قديما) دارت رحى الحرب على محاور جديدة ضد أقوام لهم علم بالكتب والرسل والأديان وشيء من علم الغيب يعرفون بأهل الكتاب كانوا يزعمون أنهم على إطلاع بما جاء به الرسل وبما نزل في الكتب وبأنهم الورثة التاريخيون لميراث موسى (ع) وما في التوراة، وعيسى (ع) وما في الإنجيل !! بل إن اليهود كانوا يستفتحون على العرب المشركين وعلى الأوس والخزرج برسول يقولون إنهم يعيشون إرهاصات ظهوره وأنه أظل زمانه، فلما جاءهم الرسول ومعه كتاب من عند الله يصدق ما كانوا به يستفتحون كانوا أول كافر به "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ" البقرة:89.
تقدم هذه السورة لنفسها بعشرين آية هي: "الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)" البقرة:01 /20. إن الآيات الخمس الأولى منها هي وجه هذه السورة لأنها تقدم إلى قارئها مفتاح نزولها، وتبين له أن ما سوف يأتي بعدها من آيات وسور، هي كلها دعوة إلى أمر جوهري واحد من أجله بعث الله جميع الرسل وأنزل كل الكتب وشرع الشرائع وقرر التكاليف وأرسى قواعد المنهج القويم الذي هو توحيد الألوهية وإقامة الدين " الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)" البقرة:01 /05، هذه الآيات الخمس هي مفتاح فهم هذه السورة لأنها تكشف عن شوق الإنسان إلى معانقة نداء الفطرة بالبحث المستمر عن الهداية التي لا يمكن العثور عليها إلاّ باستسلام العقل إلى وحي السماء، فالوحي هو الهداية ثم تأتي بعد ذلك الفرائض والتكاليف والنواهي المنبثقة عن عقيدة التوحيد والإيمان باليوم الآخر. يتبع…